الشيخ عزوز

رأيته في حلم بعيد. كان شيخا وقورا يدعى عزوز. الكل بالحومة يقبل يديه الخشنتين و رأسه الغليظ. شباب البلدة يطمعون في بركته. وأنا صغير، كنت أفر عندما يمر الشيخ بجوار بوابة بيتنا. كان يتملّكني الفزع و يسكنني الرعب النفسي لساعات طوال. نظراته توحي بقسوة تتفتق من بين عينيه كأشعة ليزر تخترق جسدي النحيف. كان يسلبني جرأتي. كنت أنا و أصدقائي نتابع خطواته التي تهز الأرض يمينا و شمالا حتى نراه يرمي رجله اليمنى ثم اليسرى بداخل مسجد الكرمة الصغير.

كنا نسمع أصواتا تملأ فضاء المكان. المصلون يرددون جماعة: السلام عليكم يا شيخنا الجليل. و آخرون كالإسكافي حمودة الذي يجد فرصته كي يطلق العنان للسانه، يخرج من بين الجموع وينادي الشيخ عزوز قائلا : ساعة مبروكة يا الفقيه .يقبل يديّ الشيخ قبل أن يعود لمكانه. حمودة معروف بين أهل البلدة بأنه ليس برجل لأن زوجته تضربه كل يوم على خدوده حتى لقب بـ«مضروب امراتو».

عندما بدأ الشيخ خطبته كان المصلون يحدقون في عكازه الذي يدكّ به محرابه كلما كبر و استغفر. كان يحدث صوتا يشبه دقات رعد تهز قلوب المصلين الذين لا يستطيعون الكلام. البعض منهم يحلم بلحظة يتوقف فيها الشيخ كي ينسحبوا لتفريغ مثانتهم. أما البعض الآخر فيودّ لو كانت المناسبة لطرح سؤال على الفقيه. عبد السلام الراضي واحد من الذين يطمرون أسئلتهم حول الموت. دائما كان ينتظر حتى يلتقي برفاقه الليليين ليفك ألغاز محاوراته الفلسفية مع صاحبه الملقب بالنشاط.

في ذلك اليوم كانت خطبة الشيخ عزوز تدور حول الصدقة. يمسك بقبضة لغته و يمرر بها كل أساليب دعوته. يدعو صارخا بالمصلين للتصدق من مالهم كي يحجزوا بطاقة العبور إلى الجنة. درسه البليغ اقشعرت له الأبدان و كلماته الرنانة فتحت شهية الآدميين لبيع كل شيء من أجل إعطاء كل شيء.
لطيف، ابن الشيخ، ينظر إلى أبيه بحنان. عيناه لامعتان وكأنهما تقولان كلاما غامضا. يبتسم ثم يسد فاه حتى لا يدخله الذباب الذي فعل فعلته في ذاك المسجد الضيق.

وقبل إنهاء صلاة الجماعة، فر لطيف على غير عادته دون أن يكمل الركعة الأخيرة. اخترق عتبة البيت الذي تعمه كل أشكال الزينة و الصور بعدما اغتنم فرصة غياب أمه الضاوية. لقد كانت تحكي لجارتها الباتول كيف انقلب زوجها الشيخ بعد الشهر الأول من زواجها و أصبح كالأفعى يلدغ في كل لحظة و حين. كانت تذرف دموعها في الوقت الذي كان فيه لطيف يكسر صندوق أبيه العامر بأموال صدئة. رائحتها كريهة و كأنها لحم جيفة مرمي على الأرض. كان من الصعب على لطيف تكسير قفل الصندوق. عرقه يتصبب، تكسرت أنامله لكن في النهاية وصلت يداه إلى مال أبيه. حمل رزمات من الأوراق البالية ثم وضعها في جيبه الأيمن. غادر غرفة أبيه المظلمة. و قبل أن يتجاوز عتبة الباب اصطدم بالأب العائد من المسجد.

انقض الشيخ على ابنه كالكلب يسأله:
-لماذا خرجت قبل إنهاء الركعة الأخيرة...ماذا فعلت ؟ تكلم يا شيطان.
أجابه لطيف وقد احمر وجهه من شدة الخوف:
-لقد وضعت يدي على أموالك و سأتصدق بها على الضعفاء والمسحوقين لأنفذ دعوتك التي أطلقتها في خطبة اليوم.
انبهر الشيخ و تدلت عيناه. فتح فاه حتى برزت أضراسه المسوسة ثم رد عليه بصفعة أسقطت لطيف على حاشية الباب. إنهال عليه بالضرب وهو يردد بصوت خافت حتى لا يسمعه الجيران: يا حمار، الصدقة واجبة لكن من عندهم و ليس من عندنا.