البرلمان المصري تاريخه عريق ومشرف وفي هذا الصدد نتوقف مع شخصية جديرة بالتقدير وصاحبة التاريخ والعطاء في تاريخ البرلمان المصري وهو إسماعيل أباظة ونقول هنا للقراء الأعزاء أن العائلة الأباظية زاخرة بالعظماء الذين عملوا ومازالوا من أجل مصر وشعبها العظيم سواء فى المجال الوطنى أو السياسى أو الثقافى أو الأدبى أو الفنى فمن منا ينسى عبد الرحمن أباظة الذى أسره الفرنسيين بعد مقاومته لهم مع أسرته الأباظية ؟ ومن منا ينسي شيخ العرب حسن أباظة الأباظي المقدام الكريم صاحب الأربعين ألف فدان إبان حكم محمد علي والذي ضمه إلى أعضاء المجلس العالى ( مجلس الشورى ) ؟ ومن منا ينسى العالم الجليل والشاعر المبدع سليمان أباظة الذي كان نائبا عن محافظة الشرقية بمجلس نواب الأمة في عهد الخديوي توفيق ؟ ولا ينسى التاريخ الكلمة الوطنية الخالدة التي ألقاها سليمان أباظة في أفتتاح ذلك المجلس حيث قال : ( ليس منا من قلد النيابة على علم بعظم واجباتهم الوطنية والسياسية إلا وعزمه إلى أداء الحق وحفظ الوعود والرغبة في خدمة الأمة بما يجلب لها النفع .. يدرأ عنها الضرر فالوطن عزيز ومحتاج إلى الإصلاح فلندخل الإصلاح من بابه و نأخذ فيه بأسبابه ) وفي وزارة راغب باشا عين سليمان أباظة وزيرا للمعارف وذلك عام 1884 م .
أيضا من منا ينسي إبراهيم الدسوقي أباظة الذي نشر جرائم الإنجليز عام 1919م خلال عمله مأمورا للضبط بمحافظة الجيزة كما تولى المنصب الوزاري بصفه أصيلة عشر مرات و بالنيابة أربع مرات ومن منا ينسى الشاعر عزيز أباظة والمبدع فكري أباظة والأديب ثروت أباظة والمهندس ماهر أباظة و .. و .. وانطلاقا من عطاءات الأسرة الأباظية نجوب مع ذاكرة التاريخ لنتعرف على أحد أقطاب الأسرة الأباظية ألا وهو إسماعيل السيد باشا أباظة فقد ولد في عام 1854 - 1271 هـ بكفر أباظة بمحافظة الشرقية .
فى شرويده أقيمت مدرسه خاصة لأبناء الأسرة الأباظية فألتحق بها إسماعيل ثم أنتقل إلى المدرسة الابتدائية ببنها عاصمة القليوبية ثم مدرسة المبتديان فالمدرسة التجهيزية ثم ألتحق بكلية الحقوق وحصل على الليسانس .وبعد وفاة والده السيد باشا أباظة مدير عموم الوجه البحري عام 1292 هـ عاد إسماعيل إلى مسقط رأسه وأشتغل بالزراعة وانشأ ببردين عزبة له ثم اختير معاونا لمديرية الشرقية و تدرج في الوظائف حتى شغل وظيفة وكيل مديرية الشرقية .
إسماعيل أباظة أول أباظي يشتغل بالمحاماة ثم عمل بالصحافة فتألق نجمه .. وعنه يقول أحمد شفيق باشا : ( لو كانت حياتنا النيابية إذ ذاك فى قوة الحياة النيابية فى أوروبا لكان إسماعيل أباظة باشا فى مصر يحاكى جيولوتى فى ايطاليا وكليمنصو فى فرنسا فكلاهما أهل قدرة فى تدبير الأعمال البرلمانية ومن الخطباء المفوهين القادرين وأهل الصراع ) وفى شهر سبتمبر عام 1894 أصدر إسماعيل أباظة جريدة الأهالى بهدف خدمة الوطن والشعب المصرى وكان يوزعها مجانا على طلاب المدارس وقد تميز بقلمه الحر ومقالاته الوطنية الجريئة الصادقة ولذلك أحبته القلوب وأجلته العقول لأن ماخرج من القلب وصل القلب وعندما أنتخب عضوا بمجلس الشورى توقف عن إصدار الجريدة ولكنه واصل ممارسة الصحافة والكتابة من خلال عموده الشهير ( بيان لابد منه ) .
فى زمن إسماعيل أباظة كانت جلسات مجلس الشورى سرية فزود الصحفيين بالمناقشات التى تمت فى الجلسات مع أخبار الموضوعات وذات مرة عاتبه أحد الزملاء على ذلك فقال له : ( إنا نشرع للأمة ويجب أن تعرف الأمة كل شىء ولاسبيل غير الصحافة ) ثم قدم اقتراحه إلى مجلس الشورى طالب فيه أن تكون جلساته علنية وبهذا يعد أول من قدم اقتراحا حول ذلك الأمر .. وبالفعل تحقق مطلبه خلال تولى الأمير حسين كامل رئاسة المجلس حيث جعل الجلسات علنية .
ناصر إسماعيل أباظة الثورة العرابية وقاوم الاحتلال البريطانى وندد بالسياسة الاستعمارية لعميد الاحتلال كرومر وأعوانه .
في عام 1907م عقدت الجمعية العمومية ورصدت رأيها في شئون متعددة ولم يرق كثير منها إلى اللورد كرومر فهاجمها وأتهمها بالتعصب ومن ثم كتب رسالته التي عرفت بالكتاب الأبي ثم رفعها إلى جراي وزير خارجية انجلترا فقام إسماعيل أباظة بالرد على اللورد كرومر وأورد في رده النصوص المحرفة وأمامها النصوص الصحيحة و بذك كشف الألاعيب الخبيثة للورد كرومر.
في الثالث والعشرين من شهر مايو عام 1907 عقد في النمسا المؤتمر الزراعي الدولي برئاسة الإمبراطور النمساوي ومثل إسماعيل أباظة مصر و الجمعية الزراعية في ذلك المؤتمر وقد كانت الجمعية الزراعية آنذاك الملجأ و المرشد للمزارعين والفلاحين هذا بالإضافة إلى أن إسماعيل أباظة يعد من الوطنيين الذين فكروا في إنشاء الجمعية الزراعية ومن الأعضاء المؤسسين لها وقد وضع قانون الجمعية الزراعية والذي ظل مقرورا باسمه لمدة ثلاثين عاما تقريبا .
وبسبب الإدارة البريطانية عم الفساد داخل ربوع مصر عام 1908 فسافر أول وفد مصري برئاسة إسماعيل أباظة إلى انجلترا و قام الوفد المصري بنشر صحائف المستعمرين .
لا ينسى التاريخ الوطني الخطاب الذي ألقاه إسماعيل أباظة في قاعة البرلمان الإنجليزي ونذكر منه : ( أننا لا نخشى لومة لائم إذا جاهرنا بحقيقة لا يجادل فيها أحد وهى أن النظامات التي وضعت لوزارة المعارف كان نصيبها الفشل و الخذلان وقد كان من مصائب تلك الوزارة التعسة أنه كلما أرتفع صوت الأمة بالشكوى زادت يدكم وطأة عليها ) وقوله : ( نريد خدمة أمتنا التي من جملة مطالبها .. الإصلاح النيابي و الإداري والتعليمي لنتمكن من إدارة شؤننا بأيدينا تحت ظل الاستقلال التام ) وفي لندن ألتقى إسماعيل أباظة بوزير خارجية انجلترا وعرض عليه مطالب الأمة المصرية والتي تمثلت في الآتي :
جعل اللغة العربية لغة التعليم في المدارس
زيادة عدد المدارس العليا بهدف تخريج المزيد من الأكفاء
زيادة البعثات العلمية إلى الخارج
تشجيع التعليم الصناعي
تعيين المصريين الأكفاء في الوظائف العليا
طلب الحكومة النيابية
إعطاء حق النظر في قوانين المدارس لمجلس الشوري
أن يكون الفصل في القضايا الجنائية التي يتهم فيها الأجانب من حق القضاء المصري دون الأجنبي .
وبعد عودة الوفد المصري من انجلترا تحقق الكثير من هذه المطالب .
ومن المواقف الوطنية للقطب الأباظى نذكر أيضا طلبه بتوسيع المجالس النيابية واشتراكها الفعلى مع الحكومة وأن يكون رأيها فطعيا لاأستشاريا .
فى عام 1909 أرسلت الحكومة خطابا إلى مجلس الشورى قيدت فيه حق توجيه الأعضاء أسئلة إليها فرفض إسماعيل أباظة ذلك الأمر وقاد حملة عنيفة مما أعاد للمجلس اختصاصاته وحقوقه وفي هذا الصدد نذكر قوله المأثور : ( أعطونا ما للمجالس النيابية الأخرى من حقوق وخذوا منا كل ما عليها من الواجبات ) وفي عام 1910 قاد حملة أخرى بسبب الاعتماد المالي في ميزانية الحكومة والذي تضمن بناء قشلاق للجيش البريطاني كما هاجم بريطانيا ووعودها المتعددة للجلاء عن مصر ثم الممالطة في ذلك .
أيضا في نفس العام أقبلت شركة قناة السويس على تجديد عقد امتيازها فعارض إسماعيل أباظة وبالفعل رفض مشروع التجديد وتم إنقاذ مصر من خسارة فادحة كانت تنتظرها وفي عام 1918 تألف الوفد المصري برئاسة الزعيم سعد زغلول فألتقى إسماعيل أباظة معه بعد فترة من الجفاء فقال إسماعيل : تخاصمنا قبل اليوم للمصلحة العامة ولهذه المصلحة نتصافى اليوم .
فقال الزعيم سعد زغلول : عرفتك عظيما في خصومتك وعرفتك عظيما في صداقتك .
في عام 1919م طالب إسماعيل أباظة بقانون يقضي على غش الأسمدة وتحديد أسعارها وفي عام 1922م أنتخب إسماعيل أباظة وكيلا للجمعية الزراعية فإليه يرجع الفضل في تنظيمها ونهضتها وتأدية دورها على أكمل وجه فى ذلك الوقت وفى عام 1923م شكل الملك فؤاد الأول لجنة عرفت بلجنة الثلاثين لوضع الدستور المصرى وكان إسماعيل أباظة عضوا بها .
حب مصر لم يغب ولو للحظة واحدة عن إسماعيل أباظة لأن هذا الحب يجرى مجرى الدم بعروقه فقد أنتابه مرض ألزمه الفراش ومن فراش المرض أرسل رسالة إلى سعد زغلول ناشده فيها بجمع الكلمة وتوحيد الصفوف ولم الشمل من أجل مصر .
فى الثالث والعشرين من شهر يناير عام 1927 أعلنت عقارب الساعة رحيل القطب الأباظى إسماعيل أباظة إلى الدار الآخرة وتوارى جثمانه بمدافن الأسرة بكفر أباظة بمحافظة الشرقية وفى الخامس عشر من شهر أبريل عام 1927 أقيم له حفل تأبين بدار الأوبرا بحضور القيادات السياسية والأدبية وطوائف الشعب .. ومن المرثيات التى قيلت فى هذا الحفل قول أمير الشعراء أحمد شوقى :
إلى الله ( إسماعيل ) وأنزل بساحة
أظل الندى أقطارها والنواحيا
وأقسم .. كنت المرء لم ينس دينه
ولم تلهه دنياؤه وهى ماهيا
وكنت إذا الحاجات عز قضائها
لحاج اليتامى والأرامل قاضيا
ونذكر أيضا قول الشاعر مطران خليل مطران :
إلى أهلها تنعى النهى والعزائم
فتى فوق ماتهوى العلى والعظائم
فكم موقف للزود عنها وقفته
تعانى صروفا جمة وتقاوم
كفى شرفا ذكر القناة ومرة
بدت منك حين البغى للعود عاجم
وقد عرفت منه الصحافة كاتبا
بليغا .. يحق الحق والبطل راغم
له فى تصاريف السياسية قدرة
ترد على أعقابه من يقاصم
فى الثالث عشر من شهر مارس عام 1947 نشرت جريدة الأهرام كلمة للخديوى عباس الثانى جاء فيها : ( كان موت إسماعيل أباظة باشا الذى خبرت أثناء حكمى أمانته وقدرت له إخلاصه .. سببا لحزنى الشديد وأنى أعرب عن ذلك الحزن لأسرته .. إن إسماعيل أباظة من أكبر العيون فى مصر وقد كان من أولئك الذين عملوا ليصلوا الماضى بالمستقبل والذين كانوا يهيئون ترقية البلاد إلى المستوى اللائق بها وقد رأيته على رأس المعارضة فى الجمعية العمومية فكان أهم عنصر سياسى فى ذلك الوقت وقد أمتاز بالذكاء الحاد ).
هذا هو أحد أقطاب الأباظية .. هذا هو واحد من المصريين .. عشق مصر فخلده التاريخ وحفظته الذاكرة الوطنية فرحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته .
ننتقل إلى أول برلمانية في مصر والدول العربية وهى السياسية الرائدة راوية عطية وهى من مواليد يوم 19 أبريل عام 1926 في محافظة الجيزة ووالدها كان سكرتير عام حزب الوفد عن محافظة الغربية وأكملت راوية تعليمها على عكس أغلبية النساء المصريات في الحقبة الزمنية التي عاصرتها وحصلت على شهادات جامعية في مجالات مختلفة وهى : الليسانس من كلية التربية جامعة القاهرة سنة 1947 ودبلوم في التربية وعلم النفس وماچستير في الصحافة ودبلوم في الدراسات الإسلامية وقد اشتغلت راوية في التدريس لمدة 15 عاماً وعملت في الصحافة فترة قصيرة لا تزيد عن ستة أشهر .
عام 1956 كانت راوية عطية أول امرأة تعمل كضابطة في الجيش المصري وكان ذلك بعد حدوث العدوان الثلاثي الذي قامت به إنجلترا وفرنسا وإسرائيل على مصر وقد دربت راوية 4000 امرأة على الإسعافات الأولية والتمريض لجرحى الحرب ووصلت إلى رتبة نقيب .
عندما بدأت المعارك يوم السبت 6 أكتوبر 1973 الموافق 10 رمضان 1393 هجريا لتحرير سيناء الحبيبة التي احتلتها إسرائيل عام 1967 كانت راوية عطية رئيسة جمعية أسر الشهداء والجنود ولقبت بأم المقاتلين الشهداء ونتيجة لدورها في خدمة الجيش المصري تم تكريمها ومنحها وسام 6 أكتوبر وسام القوات المسلحة والجيش الثالث الميداني.
بعد صدور دستور مصر 1956 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر أصبح للنساء الحق لأول مرة في مصر على أن يدلين بأصواتهن وأن يرشحن أنفسهن في الانتخابات البرلمانية وبناءً عليه رشحت راوية عطية نفسها لعضوية مجلس الأمة ( الاسم السابق لمجلس الشعب المصري ) في الانتخابات التي جرت عام 1957 عن محافظة القاهرة حيث نجحت بالحصول على 110807 صوت ودخلت التاريخ باعتبارها أول امرأة في مصر والدول العربية كلها تنجح في الانتخابات البرلمانية وتصبح عضو في البرلمان.
تحت قبة البرلمان كان للسياسية راويةعطية مواقف كثيرة منها طلبها من وزير الشئون الاجتماعية تنفيذ المشروع الخاص بإنشاء مكاتب للتوجيه الأسري والاستشارات الزوجية وذلك لحل مشكلات الأسرة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية .
في انتخابات مجلس الأمة سنة 1959 خسرت راوية عطية في تجديد عضويتها للبرلمان وانضمت إلى الحزب الوطني الديموقراطي المصري ورشحت نفسها مرة أخرى لعضوية مجلس الشعب في انتخابات عام 1984 ونجحت وأصبحت عضوة في البرلمان المصري للمرة الثانية وفي عام 1993 حصلت راوية عطية على منصب رئيسة المجلس القومي للأسرة والسكان.
يوم 9 مايو عام 1977 توفيت السياسية الوطنية راوية عطية تاركة للتاريخ نضالها وكفاحها المشرف لأجل مصر الحبيبة وشعبها العظيم .