قامت الأديبة اليمنية "فكرية شحرة "، برصد أزمنة مختلفة تتطلع شخصياتها_سواء كانوا واقعيين أو متخيلين_ إلى حلم منشود، وذلك بعد خلق عالم عاش ما بين فترة الثمانينيات والتسعينيات. وهذا واضح على ألسنة شخوص وأبطال العمل الروائي.
وقبل تفكيك بنية العمل الأدبي، وجب التنويه بأن هذه الرواية لا ينبغي على قارئها أن يظن أنها معنية بمعاناة شعب اليمن، فالرواية تقدم ثنائية مختلفة، ليست بين القاهر والمقهور فحسب، بل تعالج منظومة عربية متكاملة.
ولا ينبغي أن يقتصر المتلقي على معالجة الصراع داخل هذا العمل الأدبي بين القرية والمدينة، أو بين عائلتي "قائد الإبي "، و"طاهر الرضي "، بما تحمل كل عائلة منهما من ايديولوجية مختلفة، بل يُقدم السارد الإرهاصات للمتلقي؛ ليأوّل الصراع بين سلطتين متواجدتين في أي بلد عربي، وربما أعجمي؛ حيث إن العنصر البشري دائما ما تتبادل الصراعات بينه، وإن اختلفت الثقافات، أو الايديولوجيات.
وحين نحاول تأويل العمل بعيدا عن فنياته السردية، سنكتشف أن المؤلف_وهنا أعني المؤلف المجرد أو الخيالي وليس الواقعي_ يستدعي في مقابله المتلقي الخيالي، والذي أيضا لا يمكن أن نقتصره على البطل داخل العمل الأدبي، فقد يكون البطل هو القارئ الواقعي!
وهذا يتبين من خلال عرض:
- مضمون العمل
- ثنائية الصراع
- المفارقة
- ماذا فعلت السلطة الدينية؟
مضمون العمل
تدور أحداث الرواية في مدينة "الثجّة "، والتي اختارها المؤلف الواقعي؛ ليخلق العالم التاريخي الذي يبدو للمتلقي أنه يُعاد منذ فترة بعيدة، ففي بداية العمل يعرض لنا السارد شخصية البطل "عمر " وهو يحاول إعادة سرد التاريخ بفعلة أبيه "مختار الإبي "، وهنا يمهد السارد للمتلقي بداية القصة التاريخية الملتصقة بشعب اليمن؛ ثم بعد لحظة تظهر شخصية أخرى "فاتن "، التي يروم البطل "عمر " الزواج منها، وهذا ما أحضر فكرة التاريخ المسرود المُعاد من ذاكرة "مختار " الأب.
يبدأ من خلال تلك المقدمة، الراوي العليم في سرد التاريخ المتصل بالعائلة. إذن "عمر "، يريد أن يعيد التاريخ المؤلم!
وممن؟ وكيف سيؤول الأمر وينتهي؟
تظهر شخصية مختار ابن قائد الإبي كبير العائلة التي تحمل حقيقة الصراع مع عائلة طاهر الرضي.
الزواج المبكر من فتيات القرية ووأد الإنوثة!
يسرد لنا الراوي العليم حياة أبناء العمومة وتاريخ العائلة في زمن تصاعدي، فهذا "سالم "، الذي قضى عمره كله أجيرا من أجل الفتات ص21، ثم ينتقل الراوي؛ ليُظهر لنا المعنى عن حياة القرية وأسباب دوافع الحقد والخيانة التي مهد لنا بها الراوي باستباق. ثم إلى جزءٍ عن حياة الريف بقوله: "الأجهزة الكهربائية من عجائب الدنيا "!
وبعدها يتلخص المشهد في وأد الأنوثة، ولا سيما فتيات القرية. فحينها ينتهي المطاف بالبكاء بين يدي السرد، وهذا متمثل في تلك المقولة الختامية المؤلمة عن إحداهن بعد الزواج والطلاق. "بضاعة أُعيدت إلى رف من رفوف تجارة أبيها " ص42، وما قبلها.
يمهد لنا الراوي بعد هذا الصراع الغريزي بكلام نابع من شخصية أو من مطرقة السارد حتى. "الرجال تبهرهم المظاهر دائما.. حتى مظاهر العفة والاحتشام "ص 49، "ما يهم هو احتشام العقل والقلب وحياؤهما فقط.. " ص 50. لينتقل بنا بعدها إلى صراعٍ آخر. يبدأه ب "المعلم يموت أسوأ ميتة "، فيتابع المتلقي البكاء بين يدي السرد.
حتى يصل إلى زمن التسعينيات المرصود بعين البطل "عمر الإبي "، أو "حليمة " زوجة سلطان. أو أي شخصية أخرى، بوجهات نظر مختلفة، فنرى أن عمرًا أراد أن يبرر الحل بثورة اليمن، ففيها السعي لإصلاح البلاد، أو ما ذكره السارد عن ثورات الربيع العربي.. إلخ. "لقد عشن أياما قاسية ما قبل الثورة "،ص 89. فهنا قد يبدو للقارئ ما كان يطمح إليه شعب اليمن، وما حدث بعدها، وكيفية الحياة قبلها. إلى عودة سالم من السعودية خائبا، وناقما أيضا، وسنلاحظه في بقية تفكيك العمل.
ثنائية الصراع
تظهر الصراعات الأخرى بين سلطتين، وهما عائلتي "الإبي "، و"طاهر الرضي " المنتمي للحوثيين.
يتضح حقيقة الصراع بين العائلتين حول صك الأرض وغدر ابن العم "سالم " لعائلة الإبي، الذي غادر البلاد ليقتات من المملكة، ثم رجع خالي الوفاض، فحاول الانتقام في حرب الخليج، وهذا ما فعله الراوي من خلال إظهار دافع الانتقام لدى البطل "سالم "، حين تم إقحامه داخل الحرب منضما إلى الحوثيين! "كرامة الناس استباحها الفقر وأذلتهم الحاجة "
يبين لنا الراوي الثنائية الأولى التي من المفترض أنها ستتحد ضد السلطة المستبدة، وإن كانت سلطة دينية تحاول المراوغة؛ لتبين مسوغات أحقيتها بالحكم! وهذه السلطة المستبدة يمكن للقارئ أن يلاحظها في أي بلد أو مكان، ما دامت تنفذ منظومة القهر والإذلال، وهذا نلاحظه حين ننظر إلى العائلة الأولى المتواجدة في الصراع. "عائلة قائد الإبي وأخيه سلطان "، وهما يسعيان لنيل الحقوق، لكن سالم ابن سلطان يحول بين هذا الأمل، فيأتي مختار ابن قائد الإبي، وينازع إلى حد البكاء دمًا، من أجل الاتحاد، فنحن أبناء العمومة من المفترض أننا على قلب رجل واحد. عدونا مشترك وبائن. وصك الأرض ملكنا، فلماذا فعلت هذا بنا يا سالم؟
ليتضح ناموس السلطة المستبدة الدينية في المقابل، لا تتغير على مدار التاريخ. طمع، وجشع، ونهب، ثم مراوغة والبحث عن الخائن في العائلة. فكان سالم! والنهاية معهودة، الخازوق يكن حليفا للغادر دائما!
وبرغم ذلك يحاول مختار قائد الإبي التغاضي، فالحل في الاتحاد مع أبناء العمومة. الحل أن تتحد المنظومة المقهورة المُستذلّة، حتى يتم القضاء على طاهر الرضي، ويتم وقف بطشه، واستعادة الأرض.
لكن سالم يُكمل بحقده الدفين القضاء على العم مختار، ويتم قتل ابنه بهاء! لماذا؟ لإن السارد ألحق هذا بالاستباق الذي مهده في فنيات سرده عند بداية العمل، فالقارئ الواقعي سيلاحظ أنه بدون شعور يعيش داخل هذا الصراع وتلك المنظومة المكتملة، سواء كان فاعل أو مفعول فيه! فهي حقيقة أزلية!
هنا يتم قتل الحب، قتل العائلة، فقدان الأرض، التشريد، فقدان ماهية الإنسان.. لتقوم الرواية بخلق الحلم، وترك النهاية مفتوحة ليحدد المتلقي ماذا يريد عمر مختار ابن قائد الإبي؟ هل سيعود؟ للأقدار جولات والأيام دول. هكذا يجيب سارد القصة.
- المفارقة
يتابع الراوي العليم بمطرقته الإشارة إلى مفارقة العمل! ففي الثنائية التي يدور حولها الصراع، نجد البطل "عمر "، يعشق فتاة عائلة "طاهر الرضي "، حتى وإن هزم الصراع حلم الحب في نهاية المطاف، وإن تحول الوعي لأشياء أهم من منظور البطل بعد هذا البطش. ثم يتابع الراوي مفارقة أخرى. "أنت طاهر أنت؟ " يتساءل هنا مع القارئ هل بعد كل هذا البطش والجبروت، ستكون العائلة المقابلة تحمل اسم "طاهر "؟، فلننظر إلى الشيطان وهو يدل أبوينا آدم وحواء على الأكل من شجرة الخلد، والبحث عن ملكٍ لا يبلى!
-ماذا فعلت السلطة الدينية؟
السلطة الدينية في تلك الرواية أرادها السارد أن تحمل رأس مثلث الهرم، وهي كذلك بالفعل.
البداية دائما وأبدا تكون باستغلال بسطاء الناس، سواء بالكرامات المزعومة، أو بالانتماء إلى آل البيت. وكأن كل من انتسب إليهم_إن صح الأمر_له المسوغ على البطش وسفك الدماء، "لابد أن تستباح بعض الدماء ليستتب السلام على أيدي الأقوياء! "ص 30، "الأخ يأكل أخاه من باب الأقربون أولى بالمعروف "65، السلطة تتم ب "أحيانا بخرافات الدين، وأحيانا بحد السيف.. "،ص65، السارد يصرخ:"المئات يموتون.. كأنه ليس ولي الأمر إلا للجباية والنهب.. "، الصراع على الأرض والسطو عليها ص73.
في الختام، ماذا بعد النواح؟
يتابع الراوي العليم سرد معاناة أهل اليمن في مشهد يبين قهر عائلة الإبي، على لسان الشخصيات داخل العمل. "يمضغون فقرهم وجهلهم "، يا له من تعبيرٍ مؤلم.
ويتم طرح السؤال الأزلي عند العرب ومجتمعاتهم المتشابهة أجمعين. "متى سنزرع البن بدلا من القات "؟
إنه حقٌ حلم لنا جميعا، يقول "عمر " البطل:".. حلم زراعة شجرة البن على سفوح بعدان يراودني منذ زمن طويل "،ص 61؛ ليكتشف المتلقي الواقعي أنه الحلم الذي يطمح إليه هو أيضا، منذ الاحتلالات وبعدها، منذ أن تحول العداء بيننا، ومنذ إذلالنا أيضا!
إذن المنظومة اكتملت الأركان في هيكل روائي واضح، وجيد، فيمكن أن نختتم تلك الرؤية الفنية بهذا السرد المهم.
"هل كنت لأسقط من بين يديك حين كنت ترفعني عاليا يا أبي وأنا صغير؟
أنا أيضا لن أترك بهاء يسقط مني أرضا أبدا.ص62
ويا ليت كان بمقدورك فعل شيئا يا "عمر "!
فالرواية يقرأها المتلقي الواقعي، ليتابع البحث والانتظار لعودة "عمر "، كما تنتظر عائلة الإبي، وكما تعيش عائلة "طاهر الرضي " في خوف وفزع!
أجابته شريفة وهي تطل من نافذة البيت نحو أملاك عائلة الإبي:"لكن لا تنس أن عمر ما زال غائبا، وسيعود من أجل أبيه وأرضه.. ". ونحن ننتظر الجولة القادمة؛ لنرد على كل "سالم "، قائلين:"من عاش بالمكر مات بالفقر "، كما قالها ابن القيم. وكما أرادها السارد في رائعة "الثجّة ".