دفع أمين الباب بيده دون ان يلتفت للخلف ودلف إلى المكتب. كان مجاهد خلفه ولم يستطع ان يتفادى الاصطدام بالباب بشكل كامل.
" الشركاء أولاد الذين أثاروا أعصابي". قال أمين وهو يجلس.
نافذة الغرفة تُطل على فناء الشركة الحافل بسيارات الموظفين. وضع الجوال بجوار حافظته على المنضدة الزجاج، وقبل ان تنطفئ الشاشة ذكرته بأن الساعة العاشرة صباحاً وأن اليوم الأول من العام الجديد. جلس مجاهد قبالته لاهثاً من فرط الجهد والسمنة.
"أنهيت المهمة؟"
"أوشكت." قال مجاهد وهو يمسح جبينه بالمنديل.
"أنت بطيء."
"آسف" ابتسم مجاهد في خجل، مظهرا أسنانه الصفراء.
"ما الذي ناولته للرئيس الجديد يومها؟"
"تقارير كُلِّفت بها." قال الرجل البدين وهو ينظر إلى الأرض.
"أنت متعاون ومجتهد." قال أمين، ثم استطرد بعدما عدل من بدلته الكحيلة:
"وما رأيك في الكلام الذي سمعناه في الاجتماع؟"
"الرئيس حقق هدفه."
"بل أغلق الأبواب كلها..." قال أمين ثم توقف عند سماع وقع أقدام بطيئة بالخارج.
استطرد: "أفكاري مفيدة... لماذا رفضوها؟"
"لا أعلم."
"الرئيس الجديد لا يجيد التخطيط. ما رأيك؟ " قال أمين ويده على خصره والأخرى ممتدة على الطاولة ممسكة قلماً.
"لا أعلم."
"شعرت بفرحة عارمة لما أحرجته." قال أمين ضاحكاً، ثم استكمل: "وهل وعوده تتحقق؟"
"بالضبط."
"أنت تتهرب...! ألم تكن فترتي أفضل؟"
"لكل من الفترتين مزاياها." قال مجاهد وهو يحك خده السمين.
"أنت جبان."
"يجب أن تزيد حصتي من الأسهم." استطرد أمين إثر صمت البدين.
"فكرة جيدة." قال مجاهد وهو يعتدل في مقعده.
"أنت تقول ذلك فقط." قال أمين وهو يتفحص وجه الآخر.
"بل أقصدها."
"أنت تجامل... لكني أنتظر الفرصة." قال أمين وعلى وجهه ابتسامة خافتة، ثم استطرد:
"لماذا تجلس هكذا؟"
"كيف؟"
"اعتدل!" قال أمين ثم مط شفتيه.
"هكذا؟" تساءل مجاهد بعدما قام وجلس من جديد.
أخرج أمين ملفا ألقاه أمام مجاهد ثم تفحصه من فوق نظارته.
"ملف العميل المُفلِس." قال مجاهد بعدما تصفح الملف.
"أعد ما قلت." قال أمين بحزم.
انتظر مجاهد للحظة بعد سماع انغلاق باب بالخارج، ثم كرر ما قاله.
"خطأ! العميل قام بالسداد... منذ متى أفلس وهرب؟"
"يا سيد أمين... هناك ورقة من المحكمة رفق الملفات." رفع مجاهد حاجباه متعجباً.
"مزورة."
رنّ شيء ما بالخارج. بعد صمت قال مجاهد: "سيادتك أمرتني باعدام ديون العميل بناءً على هذه الورقة."
"لم يحدث." قال أمين وهو يلمس أنفه.
"وكيف أزوّر ورقة من المحكمة؟"
"لا أعلم. العميل قام بالسداد فعلاً وهذا يكشف تزويرك."
ابتلع مجاهد حبة دواء بماء من زجاجة على المنضدة، ثم تحدث وخداه يرتجان:
"أنت قلت إنه هرب إلى الخارج."
"لم أقل... ولا تكلمني بهذه الصيغة" نظر أمين في عينه مباشرة، ثم استكمل بحزم: "عليك أن تسدد المبلغ."
"لم أفعل شيئاً"
"خفِّض صوتك." قال أمين، ثم اضاف بعد برهة:
"اللجوء للقانون لن يكون في صالحك." قطب حاجبيه الثقيلين ثم استكمل بصوت مرتفع:
"الأسبوع الماضي أودع العميل النصف الآخر بحسابنا، فكيف أفلس وهرب؟"
"هل يوجد إذن استلام يثبت السداد؟" سأل مجاهد ويداه ترتعشان.
"توجد نسخة طبق الأصل مع العميل، أما الاصل فأنت قمت بإلغائه." قال أمين متفحصاً مجاهد بعدما استراح في جلسته. ابتسم ببطء كاشفا عن أسنان بيضاء، ثم اعتدل عند سماع نداء مبهم بالخارج.
"إنه الإذن 10000 الذي أُمرتني بإلغائه." قال مجاهد بعد لحظة صمت، ثم استكمل وهو يهز رأسه:
"لابد أن أستعين بمحام."
توقف الرجلان عن الحديث حتى انتهى صوت قهقهة مدوية بالخارج، ثم أخرج أمين ملفا آخر قائلا:
"هذه أذون صرف لبضائع منصرفة من المخزن، لم نجد إذن خروج أو فواتير بيع تطابق تلك المواصفات أو الكميات المنصرفة... أنت من وقع عليها كلها."
"لكنك أحضرتَها بنفسك إلي مكتبي يا أستاذ أمين... إنك تريد أن تقضي على كل ما جمعته في غربتي."
مال أمين ليقترب بوجهه من مجاهد هامساً: "أفضل لك أن تسدد المبلغ."
"لكن المبلغ أكبرمن طاقتي." صوت مجاهد كالفحيح.
أخرج أمين ورقة قائلا: "هذه الخصومات أنت احتسبتها يا مجاهد، ولما قارنتُها بالفواتير التي بيد العملاء لم أجدها مطابقة..."
انطلق صياح بالخارج، تلته خطوات مسرعة. صفف أمين شعره الاسود اللامع الملفوف في حلقات. تسابقت عدة أبواب بالانغلاق.
بعد أن ساد الهدوء قال مجاهد: "أين دفتر الشيكات؟"
مسح عرقه بيد مرتعشة قبل أن يسقط المنديل من يده.
أخرج مجاهد هاتفه الخلوي، فوجد اشعارات كثيرة متراكمة حركها بإصبع مهتاج. استعرض رسائل "واتس آب" بدأت معظمها بكلمة "مطلوب إعداد ..." وأخرى تتعلق بتطبيق يقدم تخفيضات على الوجبات سريعة، ورسائل لجروب وظائف بالخليج، وإشعار يتعلق بلعبة جمع الذهب والجواهر. الرسالة الأخيرة كانت مرفقة بقلب أحمر من حساب مسمى بـ "زوجتي" بدأت بـ "إبعت حوالة عشان المصاريف..."
حذف جميع الاشعارات ثم فتح تطبيق "جوجل". كانت الكلمات التي تم البحث عنها مؤخرا "تفسير حلم الجداول والأرقام" و"تفسير حلم عودة الميت للحياة" و "السعرات الحرارية في البيتزا" و "مخاطر القهوة على مرضى القلب". أغلق التطبيق دون أن يكتب شيئاً.
ولما وضع أمين إيصال الأمانة أمامه أخرج محفظته ونثر أوراقها على الطاولة. بَحَثَ عن البطاقة الشخصية لينقل الرقم القومي، لكن قبل أن يجدها ظهر إيصال إيجار الشقة للشهر الماضي، وورقة حمراء مكتوب عليها اسم مدرسة ابتدائية خاصة، وروشتة علاج طبيب أوعية دموية.
"لماذا رقيتني أصلا يا سيد أمين؟ لماذا ضاعفتَ راتبي؟ " قال مجاهد قبل أن يوقع بيد مرتعشة.