مدخل
"حلمت كثيراً بأن تعيش هناك.حيث لا أحد تبرُز من فمه أسنان سوداء سيئة وكل شخص لديه مرحاض.
أطفالك تلتصق بطونهم بعظام ظهورهم.ويطل رأسك من كفن.
وامرأتك يتدلى ثدياها الخاويان من الجلباب.
وكل أمر زائل، والمخبر السري الذى يمشى وراءك سيموت،سيدهسه قطار أو يحرق السم الناقع بطنه، أما الضابط الذي بصق عليك ولم تجد شيئاً لتفعله.فسوف يمسح الذباب رجليه على لسانه.
التقطوك من الشارع، وكنت تتحدث مع نفسك. وتلك تهمة نسأل الله العزيز أن ينجيك منها، وأن يقيّض لك منْ يشهد بأنك لم تفعل. ولقد هرول خالك وأعمامك لتوقيع إقرار بعدم التحدث مع نفسك مرة أخرى أو مع الناس.
تلك مصائب النزق ياولدي وطريق الهُلك، وأنت من ذوي الركب المكشوفة.خطواتك صامتة وتمضغ ثيابك جوعاً لتبنى سلماً للسماء ولا أرض تحتك.
ويا بنى لا تعارض منْ إذا قال فعل، تلك بلادهم يا ولدي. ونحن عبيدهم.
أنت لست مريضاً. اركض. واختبيء تحت الأرض كالفئران. وعليك بحصاد الحزن. اتقاء لشر الفرح.
شيوخك كفار.ويومك ميتُ وبيتك فى قبضة العنكبوت.وروحك في الجوف لم تسترح.
تزوجت بامرأة عشت معها ولم تروِ ظمأها فى السرير.ينكسر سكون الليل ونحيبها لا ينقطع. تنوح على نفسها التي لم تعرف في الدنيا غيرها.
ويتجدد في نفسك رجاء بأنك لم تعد تبدو كما كنت في الليلة الماضية.
غامت عيناك بغشاء من الإجهاد، تتبول كثيراً وتراكمت أكوام من الطوب على بطنك.كم تبقّى من عمرك يا ترى؟.
لم يولد الصبح بعد.وهناك رجل ميّت مُلقى على الرصيف،ذراعاه منطرحتان وبطنه انكشف.
وفي آخر المساء.. يمر الموت من هنا وحيداً.
من كثرة الإرهاق.. ومن الملل.. يعود متعباً ومجهداً.. ويترك بعض الذين ينبغي أن يقطف أرواحهم.. يدورون حول أنفسهم".
1- نادية
عانقت الدفء الخارج من قدور الفول.ألسنة نيران المستوقد تتراقص على الحيطان وترسم ظلها كبيراً.لم تبتسم للنار بل لبخار يصعد داخل جوفها.
بالأمس مر أمامها عارياً، لم يلتفت، لكنها سحبته معها للسرير.
عند الصباح داعبته قائلة: " أهلاً يا أستاذ" ومدت يدها بالطبق بكبشة الفول المدمس.
لم يكن يعرف أنه كان نائماً معها بالأمس.
أخبرته رئيسة التحرير أن ينزل سريعاً.اعتماد الراقصة في بيتها.حوار ينتظره القراء. يتمنى أن يكتب أنها أنثى يشتهي أن يعتليها لا أن يكتب عنها.لكنه في النهاية مدَّ يده وتناول الطبق.
على المنضدة راح يحدّق في البصل ودائرة الطبق والفول والزيت والرغيف وكوب الشاى الساخن. ابتلع زاد كل يوم.ونهض وخلع كل ما عليه؛ ليقف تحت الماء،وتناول المنشفة عارياً؛ليعبر من الحمام والصالة.وكانت عينا نادية في البيت المجاور تراقبه.
جيران البيوت في الحارات الضيقة ينامون معاّ.
وفي ذلك الصباح نام عوض شقيق نادية بأذنه على الجدار.
كان البرد قارصاً، وآلمته أذنه من التصاقها بصقيع الحيطان في برد طوبة، وودّ أن يتحدث مع سوسو لاستعجالها؛ ليهدأ وينام.
يدس رأسه تحت اللحاف بالركن عند الحافة، ويضبط نفسه،بينها وبينه طوبة واحدة، والمقدمات تبدأ من بعيد، رشاش الماء، ضحكتها الغانجة المبحوحة، وأحياناً يدق زوجها على الطاولة وترقص، لكن كل هذا لا يعادل صوت الارتطام وصرير الأرجل، يصرخ السرير عندما يكتم الفراش عراك الجسدين، ويرتفع الأنين أكثر عندما يعتليان بعضهما، ويعوي الخشب عند شهقتها الأخيرة.
جاءت أمه لتوقظه؛ ليبيع مع نادية الفول. وكان غارقاً.
عند مدخل باب المستوقد قدر الفول منتفخ البطن وعلى رأسه عمامة كمقام لأحد الأولياء.
وإلى جواره قدر صغير من بليلة القمح المسلوق.
قبل أن يصحو كنست نادية الأرض وغسلت الكباش بالماء الساخن وركب على القدر الكبير وتشمّر ليبيع وانفتح الباب وتتابع الناس ووقفت نادية تتلقى القروش وترتب طلبات الشراء ليتفرغ هو لاستخراج بطن القدر.كان ببنطال مهتريء وقميص وعليهما صديرية بيضاء تلطخت من دماء ماء الفول وعندما رأى سعاد ومعها الرغفان تطلب البليلة والفول من نادية برطم غاضباً؛ لأن أخته مالت وهمست على أذن سوسو فارتجت ضاحكة.
وحضرت زينات ومدت يداً بطبق الفول وانصرفت.
وأهلت لمياء وكانت نادرا ما تفعل.والتوت أعناق النساء.كن واقفات كالزكائب.وكانت تقف على جانب وتطلع الأولاد لضيق جلبابها وشعرها المنطلق في ذيل حصان وانتظرت حتى نزل عوض وسألها عما تريد بقروشها.فقالت بهدوء : "فول " وكان لا يعرف ما يقول.
وبين خيالات الواقفين في انتظار كبشة طفل لا يبدو مستعجلاً. كان سعيداً بالوقوف في زحام النسوان بين كل تلك السيقان الناعمة، بدلاً من العودة إلى أمه التي حتماً ستضربه.
إبراهيم عاد في الآخر بكيس الفول، ولما رآها نائمة رمى الخبز والفول وفر هارباً.
مات أخوه منذ عامين، سيارة عابرة، شجّ في رأسه ودماء، واختفى هناك في المقابر.
أمه جاءت من البلد ولم يكن عندها حتى ولا جلباب، يتيمة الأب ماتت أمها. والتقطها شيخ فى الثمانين بناته أكبر منها.يريدها.لا مزايا.سوى أنه يعيش فى مطرح .
غرفة واحدة بدور أرضي بالطالبية كانت كل ذلك العالم.مات الزوج العجوز الضليع في حبل النسوان بعد أن عبأها ثلاثاً، مات الأول رضيعاً والثانى طفلاً والدور على إبراهيم.
إبراهيم ابن الحذاء كأبوه، لا يحسب للدنيا وزناً، وتذكّرت الفرّان. نامت تحته بعد موت أبو العيال وتذوّقها وطلقها بعد شهر فارتعدت. تتقلب وهى نائمة متوّجة فى النعيم، صرخ قط وانتبهت على رائحة الفول القريب من عرش أنفها. تذكرت الأستاذ. راحت لتنظّف شقته. جذبها وظل يطعنها من الخلف.
آخر المساء عاد الأستاذ من المقابلة وحيدا.صفق الباب ووقف يلتقط أنفاسه ورمى بالأوراق وآلة التسجيل.الراقصة اعتماد لم تكن كما تبدو في السينما.كانت لا تختلف عن الخادمة.حدثته عن دور الفن والصحافة فى الدفاع عن المهمشين. اندس نائماً بين البطاطين. وتذكر أرداف أمّ إبراهيم.لم يكن يريد أن يدافع عن أحد.
