الكتاب : أن تكون عباس العبد -ميريت 2003
حازم أبيض- جريدة الحياة - ديسمبر 2003
خطوة جريئة تقتحم العالم السري للشباب وتبتكر وسائل السخرية من الحكايات الكبرى .
في روايته الأولى "أن تكون عباس العبد " الصادرة عن دار ميريت يكتب الكاتب المصري الشاب احمد العايدي عن لحظة معاصرة تماما ، يعيشها جيل مصري جديد ، لم يرهن أحلامه بالحكايات الكبرى ولم يبق له من العالم إلا هذا الواقع الافتراضي الذي تغيب فيه ملامح المدن ، وعلى الرغم من أننا نعثر في الرواية على أسماء أحياء قاهرية معروفة إلا أننا لا نلمس هذه المدينة أبدا ،خصوصا وان المشاهد تتابع تحت شعار لافت هو " افعل ما يحلو لك " و في إيقاع متسارع لاهث اقرب إلى تتابع صفحات " الويب " " مما يجعل الأماكن ليست اكثر من أطياف وصور متحركة ، تعيشها مدينة " قلقة ومتخيلة " " قريبة الشبه بالعالم المتخيل الذي تخلقه شاشات " الكومبيوتر " ومن ثم لا يمكن القطع أبدا بأن المدينة التي تقدمها الرواية هي " القاهرة الثالثة " التي زحفت إليها العشوائيات وتبدت في كتابات ممثلين لجيل التسعينيات أبرزهم حمدي أبو جليل في روايته " لصوص متقاعدون ". أما هذه الرواية فأن القارئ يدخل عالمها بداية من غلافها البديع الذي صممه احمد اللباد والذي يشكل عتبة واضحة للنص فنحن طوال الوقت نتابع سيرة أربعة شخصيات مصابة فصام ( الرواي وعباس ) وهما كما يتضح عبر السرد ليسا إلا شخص واحد وهو بطل دال على شباب هذا العصر الذين داسهم قطار البطالة ولم يعودوا صالحين سوى للعمل كمندوبي مبيعات لشركات مستحضرات التجميل و نتابع مع الرواي سيرته قبل أن يلتقي في وقت وزمان واحد بفتاتين تحملان اسما واحدا هو " هند " بناء على نصيحة قرينه عباس الذي دخل حياته بالحيلة و تبدو الرواية كلها عبر هذا الحدث ليست إلا لعبة من لعب الشطار والعيارين أبناء هذا الزمان . ولعل الكاتب أراد التركيز على حالة الفصام والاغتراب التي تعيشها الشخوص في تلك الأماكن القلقة التي تدور فيها الأحداث و هي ابنة "اللحظة المعولمة " التي تتجلى فيها ظاهرة "المولز " أو مراكز التسوق التي صارت سمة مميزة للمدينة المعاصرة واختارها العايدي خلفية للحدث الرئيس الذي تقوم عليه الرواية وهو لقاء الرواي بالفتاتين وهنا لا تغيب عن القارئ الكيفية التي يظهر فيها "المول " كعلامة قوية علي الشكل الحديث للسوق مع توافر نمط من السلوك قادر علي التعامل مع أوقات الفراغ وإنجاز متع متعددة في زمن قياسي قصير و هو أيضا المكان الذي وصفه احمد عبد الجبار في دراسة نشرتها مجلة " أمكنة " ب"اليوتوبيا الجديدة " التي تنجز خطوة مهمة في التحول من مدينة إلي ما بعد مدينة ، ففي هذا البناء الزجاجي تتأكد مفارقة من مفارقات اللحظة المعاصرة فعلى الرغم من أننا نذهب لنشتري سلع إلا أننا رغم ذلك معروضين كسلعة وراء الزجاج . ووفق هذه الرؤية يمكن القول أن هذه الرواية هي المثال النموذجي لرواية " حضارة الصورة " في مصر التي لا تقيم وزنا للشكل الروائي وتجترأ عليه بفنية واضحة فيها الكثير من " مشهدية قصيدة النثر " عبر لغة سرد حيادية موجزة مستعارة في معظمها من عالم الاتصالات وأجهزة " الحواسب " والهواتف النقالة للدرجة التي تجعل الكاتب يعيد ترتيب مشاهده كلها وفق تقنيات " النسخ واللصق " Copy/ Pasteويستعير الكثير من تقنيات السرد السينمائي بل أن الرواي ذاته يبدو ضحية لمخيلة حافلة بالصور السينمائية وطافحة بالحلول التقليدية التي تقدمها الدراما و يستدعيها فقط ليسخر منها بطريقة فيها الكثير من ملامح المحاكاة الساخرة التهكمية parody التي تدل على السخرية الواعية وتقوم على الاستحضار الساخر لنموذج أو نماذج فنية مغايرة وهي دلالة لا تفارق معنى التناظر الذي تقوم عليه مصطلح المعارضة Pasticheولا يتوقف حضور السينما على لغة السرد فقط وانما يمتد هذا الحضور إلى ظهور أسماء لافلام شهيرة مثل " ماتريكس " أو نجوم في شهرة ريتشارد جير وفي مناطق كثيرة من الرواية يسعى الكاتب إلى اللجوء إلى صور " كسر الإيهام " والتي تكثف هذه السخرية خاصة في مشهد " جلسات العلاج النفسي " حيث نتابع الراوي وهو يحول إرشادات المعالج إلى خطبة من خطب الدعاة التي تحفل بالهجوم على الإمبريالية والصهيونية في سخرية واضحة من بؤس هذا الخطاب ومن قضاياه كذلك يسخر الراوي من خطاب العشق العذري التقليدي ممثلا في نموذجه الأعلى " قيس الملوح " الذي يستدعيه الراوي وهو يسرد تجربته في الاتفاق مع " هند " الساقطة وهي تجربة لا تخلو من تعاطف ساخر لا سيما وهو يؤكد تحول الفتاة إلى سلعة لها تاريخ صلاحية وبدء وانتهاء . والسخرية في معظم مشاهد الرواية ليست إلا وسيلة للدلالة على المفارقة التي تنطوي على الجمع المفاجيء بين النقائض أو النظائر المتزامنة أو المتعاقبة كما تتجلى بوصفها تقنية تستهدف ا تدمير التصورات الثابته أو المتعارف عليها والعبث بها في صورة من صورة المعارضة Paspastiche وهنا علينا أن نتذكر ما أكد عليه جابر عصفور في كتابه " آفاق العصر " من كون دور الصورة في ثقافة ما بعد الحداثة هو دور المحاكاة الساخرة بالدرجة الأولى حيث تخلو من أية إشارة ثابته إلى اصل ولا ترتبط بما قبلها ارتباط المعلول بالعلة المطلقة وهو ما يجعلها تدور في فلك لانهائي من لعب المحاكاة وهنا تغدو كل صورة محاكاة ساخرة لكل صورة سابقة عليها وذلك على نحو تسقط معه فكرة الصورة الأصلية ولا يبقى منها سوى دلالات ملتبسة تراوغ الساعي وراءها في ممارسة بلاغة " المعارضة " التي تبنى بها الأشكال المعاصرة من تمثيل العالم وعلينا كذلك أن نلحظ تأثر الكاتب الواضح بأسلوب كاتب مثل ميلان كونديرا القريب من تيارات الكتابة الجديدة في مصر خصوصا في ظل رغبته الواضحة في كتابة افتتاحيات لمشاهده الروائية حافلة بتأملات فلسفية اقرب لصور ا لهذيان المنسجم تماما مع شخوص تلجأ للحبوب المخردة لاقامة عالمها البديل الذي تبقيه مغلقا على فئة بعينها ومحكوم بشفرة سرية لا يملك مفاتيحها إلا العارفين بقاموس لغوي جديد ابتكره الشباب المصري الآن وهم يتحدثون عن " شباب روش طحن " لا يري نفسه كما يقول الرواي إلا " عبدا إلكترونيا في مستعمرة بيل جيتس ".