نبيل سليمان جريدة الأسبوع الأدبي
قد لا يعلم كثيرون وكثيرات أنَّ طبعة كلكوتّا (1839) من /ألف ليلة وليلة/ تحمل هذا العنوان المطوّل: (أسمار الليالي للعرب ممّا يتضمّن الفكاهة ويورّث الطرب). ومن هذا العنوان جاء عنوان روايتي (سمر اللّيالي) بعدما حسمت ترددي في اختيار (أسمار اللّيالي)، وإنّي لنادمٌ على هذا الحسم.
وقد لا يعلم كثيرون وكثيرات أنَّ لرواية(ألف ليلة وليلة) ندّاً واحداً على الأقل. وقد كنت من أولاء حتى قرأت (أسمار الببغاء) فإذا بشهرزاد أخرى سوى أنّها في هذه الأسمار من الطير، لا من البشر. ولعلّ الصحيح أنّها كهذا الند من بنات الخيال.
أمّا (أصل الحكاية) فهو أنَّ عبد الوهاب علّوب قد وقع في مكتبة معهد كارسن نيبور التابع لجامعة كوبنهاجن على مخطوطة فارسية نادرة بعنوان (طوطي نامه)، فحققها وترجمها إلى العربية. وفي تقديمه للترجمة بيّن أنَّ محمد قادري المتوفي سنة 1658م. قد صاغ بإيجاز وبساطة في (طوطي نامه) أي في (أسمار الببغاء) خمساً وثلاثين حكاية من كتاب بالعنوان نفسه لضياء الدّين بنخشبي الذي توفي قبل قادري بثلاثة قرون. كما بيّن علّوب أنَّ بنخشبي نفسه قد ترجم كتابه إلى الفارسية عن أصل هندي قديم مدوّن بالسنسكريتية وعنوانه (سوكه سباتي) لمؤلف مجهول. وهذا الكتاب يحتوي سبعين حكاية اكتفى منها بنخشبي باثنتين وخمسين.
يذكَّر هذا المشوار لـ(أسمار الببغاء) بمشوار (كليلة ودمنة) من السنسكريتية إلى البهلوية إلى العربية إلى الفارسية وسواها من اللّغات. وفي (أسمار الببغاء) من (روح) كليلة ودمنة مافيها، وربما كان العكس كما سنرى. لكن الأهم هو مافيها من (ألف ليلة وليلة) إن لم يكن العكس أيضاً. وقد ذكر علّوب أنَّ الببغاء في التراث الهندي والإيراني الشعبي والرسمي هو تعبير عن الحكمة والجهر بالحق، لتفرده بين الكائنات الحيّة بنطق الأصوات البشرية. بيد أنَّه متخصص في رواية الشؤون العائلية والشخصية ومنها: الغرامية، بينما تخصص الذئب و الأسد والثعلب في رواية ما يتصل بالسياسة والحكم.
والببغاء إذن هو شهرزاد (طوطي نامة) التي تبدأ بحكاية (مولد ميمون ووقوع خُجَسته في الحب) حيث يقوم إطار الحكايات والقصص –الأسمار-التالية، إذ يروي الراوي أنَّ الملك أحمد سلطان رزق بميمون وأنشأه وريثاً، وأهداه في كبره المحظية خُجَسته فتولّع بها. وصادف أن اشترى ميمون من السوق الببغاء الذي خاطبه بأنَّه وهب القدرة على كشف الماضي والمستقبل. ولكي لا يستوحش الببغاء الذكر اشترى ميمون له أنثى تؤانسه هي (شارك).
بعد حين اعتزم ميمون السفر، فأمر خُجَسته بألاَّ تخرج إلاَّ بعد استشارة الببغاء وأليفته. وقد بدأ الببغاء يسلّي المرأة بحكاياته، إلى أن رأت أميراً على السطح فعلقته، وبعد تمنّعٍ واعدته في منتصف الليل. ولما عزمت تذكرت وصيّة ميمون، فآثرت استشارة (شارك) لأنها أنثى. لكن (شارك) زجرتها فكان جزاؤها القتل.
ولكي لا يلقى الببغاء المصير نفسه، تظاهر بالتعاطف مع خُجَسته وهي تستأذنه، سوى أنَّه بدأ يشغلها كل ليلة بحكاية حتى الصباح. وهكذا تبدأ الأسمار حتى تبلغ السمر الأخير، وتأتي في سطور من خاتمته خاتمة الحكاية –المفتاح، إذ يعود ميمون ويفتقد (شارك) فيقصّ عليه الببغاء ما فعلت خُجَسته، فيقتلها ميمون.
تنادي (أسمار الببغاء) شهرزاد في الأسمار –القصص- الحكايات التي تتمحور حول كيد النساء. ومن ذلك حكاية (ابن الأمير وامرأة الجندي التي امتحنته) حيث تثبت الزوجة لزوجها الجندي الذي لا يثق بها أنْ ليس من رجل يخدع الزوجة الصالحة، أو يستطيع أن يصون الزوجة الفاسدة. ومن ذلك أيضاً حكاية(التاجر وامرأته التي غدرت به) حيث يسافر الزوج الثري في تجارة، فتعاشر امرأته الغرباء. وإذ يعود ليلاً إلى المدينة ولا يتمكن من بلوغ داره، يطلب من الدلاّلة امرأة لليلته، فتأتي بالزوجة لهذا الغريب. وتحتال الزوجة على المفاجأة بزعمها أنّها علمت بعودته فجاءت لتفضحه. وتلك هي أيضاً حكاية (امرأة الدهقان التي عشقت آخر وأخجلت حماها) حيث تعشق الزوجة اللّعوب فتى وتأتي به إلى دارها ليلاً، فيضبطهما حموها آخر الليل تحت الشجرة، ويأخذ خلخالها برهاناً. ولكن المرأة تصرف الفتى وتأتي بزوجها إلى المكان نفسه بدعوى الهرب من الحر. وما إن يغفو حتى توقظه مدّعية أن أباه أتى وخلع خلخالها، وبذا تجعل الأب يظهر متجنياً، وابنه يلومه.
منذ السمر الثاني ستبدأ الأسمار جميعاً بالعبارة عينها: "حين غربت الشمس وحلّ المساء وطلع القمر جاءت خُجَسته إلى الببغاء..."، مثلما تبدأ أسمار ليالي العربي بقولة شهرزاد "بلغني أيّها الملك السعيد..". وكما نجت شهرزاد من الموت بالحكاية، نجا الببغاء. بيد أنَّ شهريار هو هذه المرّة خُجَسته التي تهدّد حياة الببغاء إن توقف، والتي تتلقّى الحكاية فترجئ الخطيئة وينأى القتل. وكما لا تجهر شهرزاد بـ(زبدة) الحكاية، لا يجهر الببغاء أيضاً. وفي غير حكاية ترسل خُجَسته قولاً مفتاحياً، كأن تسأل الببغاء عما إن كان من عشقت ذا علم أم جاهلاً، فيشير الببغاء عليها بأن تمتحنه كما في حكاية التاجر وبنته زهرة، أو كأن تعدد خُجَسته من لا ينبغي الثقة في محبتهم: النساء والأطفال والحمقى، وتبدي رغبتها في اختيار رجاحة عقل من عشقت، فيحكي الببغاء لها حكاية ابن أمير بابل وعشقه لفتاة برهمية...
من زاوية أخرى، في (أسمار الببغاء) ما فيها ممّا يتعلّق بالسلطة، وينادي (كليلة ودمنة). ومن زاوية ثالثة، جاء من فَعَلَ في (أسمار الببغاء) ما فعل محمد قادري في أصلها، فكانت (جواهر الأسماء ) لعماد بن محمد الثغري، حيث صار ميمون (صاعد) وخجُسته صارت (شَكَرَ)، وصارت الحكايات سبعاً وعشرين فقط، وصارت الأسماء والأماكن فارسية، لكن الأسّ ظلّ واحداً، وظلّ الببغاء يحكي لشَكَرَ اللّعوب التي تسعى في غياب صاعد إلى عاشق، حتى يبطل سعيها.
لشهرزاد إذن –على الأقل، ومن ذكر أو أنثى –ندٌّ /أو وجدٌّ/ أو حفيد، من الببغاء الفارسي إلى ما لا أعلم. وعسى أن يكون في التفكير في ذلك فائدة ما لبنات شهرزاد اللواتي تابعتُ وسأتابع سردياتهنّ في هذه الزاوية.