تفّاح المحبة

(0)
التصنيف: شعر
عام: 2019

"تفاح المحبّة" مغامرة شعرية ظاهرها هادئ وباطنها هادر

بقلم: محمّد البدوي

أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب بسوسة ورئيس اتحاد الكتّاب التونسيين سابقا

إذا غامرت في شرف رفيع       فلا تقنع بما دون النجوم

هكذا قرّر صناجة العرب أبو الطيب المتنبي، واستجاب أحمد عمر زعبار في مغامرة ظاهرها هادئ وديع وباطنها غليان وصراع، كالنهر يبدو ساكنا وهو هادر، فكانت مغامرته في دنيا الكتابة شيّقة وشقيّة، وهل ثمّة أشرف من الكتابة فضاء للمغامرة بغاية إعادة ترتيب العالم.

وهو ما تجلى في ميل الشاعر إلى الجملة الاسمية وحرصه على تقديم تعريفات موجزة ومكثفة للكثير من المفاهيم, كأنّ ما كان منها لم يعد صالحا , فوجب التصحيح

ولقد ترجمت هذه المجموعة الشعرية "تفاح المحبّة" رحلة مطوّلة أقبل عليها شاعرنا مسكونا برغبة جامحة في البحث عن الحقيقة، مدفوعا بطموح لا حدود له ليكون له موطأ قدم في ساحة عجّت بالأوابد من الشعراء، على اختلاف مشاغلهم وأهوائهم.

وهذه الرحلة الشعرية في وادي عبقر محفوفة بالعقبات والمصاعب والمعاناة، من أجل أن يرتفع الصوت عاليا ويبلغ كلّ الآفاق.

ولسائل أن يتساءل عن حصاد هذه الرحلة التي نحتَ كلماتها أحمد عمر زعبار، وهل تستطيع رحلة القارئ في تضاعيف النصّ أن تكشف صريح القول والمسكوت عنه.

إذا كان المتنبي قد صرّح بأنه لا يقنع بما دون النجوم، فقد ظفر الشاعر لنفسه ولمريديه بأمرين على درجة كبيرة من الأهمية في نفسه وفي نفس القارئ هما الوطن والحب. وهل ثمّة أحلى أو أغلى من هذا الحصاد؟

              1الوطن:

جاء الحديث عن الوطن في قصائد متنوعة ترجمت جملة من الأحاسيس يغلب عليها الوجع والألم.

فالوطن ليس الصورة التقليدية التي تصاحبنا في جواز السفر، بل فضاء ينطلق من الموطن الأول ويمتدّ من الماء إلى الماء.

إن صفحات عديدة من "تفاح المحبّة" تعبّر عن شدّة تعلّق الشاعر بموطنه تونس، وهو انشداد إلى مراتع الطفولة، غير أن الغربة في مدن الضباب حرمته من أن يعيش وطنه حقيقة لا مجازا:

الهلاك/ ليس أنّ الوطن أنكرك ورماك/ أنّ المنفى بلا طفولة/ أنك لا تنسى الوطن، مهما ينكرك أو ينساك /  الهلاك / أنك نصفان لا يلتقيان /  فلا أنت هنا ولا أنت هناك.

والمنفى وإن وفّر للشاعر ما افتقده في وطنه فهو :

جرح في الروح لا يُشفى / يخضرّ مع الزمن / والمنفى شرخ في معنى الوطن.

لذا يتلخص مفهوم البلاد في "الحزن الذي يروي الحنين ويكبر في الشاعر"

ولو بحثنا في أسباب هذا الحزن وهذه الشكوى لوجدناها نابعة مما يعيشه هذا الوطن من خراب نتيجة ما أصاب الثورة من انحرافات عصفت بأحلام الثائرين:

اليوم الأخير من الاستبداد / هو أول يوم في التيه/ ذهب السيّد والأسياد/ جاء الظلّ ...والشبيه/ امتلك أحلام الله/ ووضعها في جيب فَقِيه.

إن الشاعر يُحمِّل المسؤولية للأحزاب السياسية المتهافتة على السلطة وللإسلام السياسي الذي انحرف عن جوهر الدين، ولم ير فيه غير الجنّة الموعودة، والحور العين، بعيدا عن حضارة العلم والعقل، فكتب معارضة للأغنية التي استقبل بها الأتباع شيخهم في مطار تونس قرطاج ذات نهار:

طلع الجهلُ علينا        لبس الدِّين قناعْ

فرض القهر علينا    ورأى الأنثى متاعْ

ورأى النصر المبينا        في نكاح وجماعْ

أيها المملوء طينا            إنّما العقل شعاع

وظلام الملتحينَ          يكره النّور المشاع

ليسوا أتـباعَ نبينا          إنهم محض صداعْ

ولا يقف الوطن عند أحمد عمر زعبار عند الحدود الإقليمية، بل نجد الشاعر مسكونا بفلسطين حاضنا جرحها إلى درجة جعلته ينتسب إليها ويتردد اسمها على لسانه باستمرار وهو ينادي ابنته التي اختار لها من الأسماء "مارية فلسطين زعبار" بكلّ ما تحمله من دلالات ورموز، حتى لا تنسيه الغربة ولا تُنسي الجيل الجديد قضية الحق السليب والوطن المغتصب، فيسعى إلى إقناع ابنته بالحقيقة التي تريد وسائل الإعلام الغربية طمسها وإلباس العرب كسوة الإرهابي:

تـسـائـلنـي ابـنـتـي خـائـفـه  أبـي نـحـن مـن أيـة طـائـفه

نــحـن إلـى آدم نــنــتــمـي  وبـالـحـب أرواحـنـا وارفـــه

ولسنا نبارك وعد الطوائــف فـبـذرتـهـم بـذرة تــالــفــــه

ويمتد الوطن عميقا في المكان والزمان ليعانق العراق بكل جراحه بعيدا عن كل توجّه طائفي أو إيديولوجي لأن أحمد زعبار لم يزر العراق يوما ولكنه عاشق لعراق التاريخ والأمجاد، وينتسب إليه، وهو مسكون بأوجاعه:

أنا لست من أرض العراق /ولم تطأ أرض الفرات قدمي

وأنا ابن العراق /كلّما طُعن العراقُ /سال من جرحـه دمـي

العراق لنا  .../العراق الذي علّم التاريخ رفع الجباه /العراق الذي لا يجوع / وإن جوّعوه قليلا   تغذّى بالغزاه/ ليس العراق بئر نفطٍ/العراق هو ما يدخل الرئة من هواء/وهو تاريخ القلب /عين العشق/حاء الحب/والعـراق صـلاه/ترتلها الحياة/

والعراق ابتسامة حُبٍّ ومجد على وجه الإله

غير أن قصائد هذه المجموعة ليست دامية دامعة كما يبدو، بل هي مشرقة بالأمل، وبكلّ ما يجعل الحياة جديرة بالحياة من خلال احتفال الشاعر بالحبّ سبيلا إلى تحقيق الوجود

 2- الحبّ:

منذ القصيدة الأولى في الديوان يعلن أحمد زعبار انخراطه في حزب العشاق على مذهب أسلافه من أمثال محي الدين ابن عربي وعمر بن الفارض، والنفّري،،، فجاءت النصوص طافحة بالحب مرتلة آياته، ومتأملة في هذا الإحساس الذي ينقذ المرء من غربته ويجعله ينتمي إلى فضاء أوسع في الزمان والمكان، إنه فضاء الإنسانية فجعل المجموعة عنوانا لهذا الإحساس الجامع بين الماديّ والروحي "تفاح المحبّة":

أدمنت نار الحب حتّى أنَّني أصبحت من جمراته لا أُحرق
الـنـاس تـقـتـلـهـم تباريح الهوى      وأنـا أنـا فــي كـل حــبٍّ أُخـلــقُ

العشق قول الله للإنسان كن         والذات ذات الله إذ تتحقق
ويتردد فعل "أدمنت" في القصيدة وكأنه يردد بشكل آخر فعل ابن عربي "أدين بدين الحب..."

وهذا التوجه الصوفي يخلّص الحبّ من كل ما علق به من أحكام أخلاقية مرعبة وسلوك تاريخي ليتحوّل إلى ضرب من العبادة، بل هو جوهرها لأنه تجسيد لقول الله وإرادته "كن" وتحمل مختلف القصائد حرص الشاعر على المزج بين الروح والجسد في تكامل مثالي:

الحبّ/ أن تمتلئ الروح بالروح/ أن يفيض الجسد بالرغبة/ ويحدث عنك ويبوح.

وفي هذا الفلك ستكون محاورة الشاعر مع النفّري لتقريب المفاهيم وتتعدد محاولات الشاعر لتعريف الحبّ، لأن التصوُّر الأول قد لا يصل إلى ذهن القارئ فيفصّل الأمر رغم اقتناعه أن الحبّ يستعصي على التعريف:

 الحبّ صدق لا تكلّف/هو ما يُحسّ /ولا يُمسّ/ولا يُعرَّف.
وحرص شاعرنا على أن يكون صوتا وامتدادا لشاعر العشق الصوفي النفّري، وكأنه يبلغ رسالته من جديد:

و قال لي/العشق كينونة الكون وفيض الكيان/الروح تُنفخ فيها الروح /وقال: هو الصمت مرتديا ثوب الوجود/ منتشيا لا ينطق/العشق كلّ الكلّ/الإيمان عشق مغلق.

لذا تكون نتيجة العشق الاتحاد مع الكون:

 وقال:/إن عشقت/ما الكون /إلاّ.... أنت./

ولعلّ المفتاح إلى نظرية العشق يتمثل في كسر الحاجز بين الدين والدنيا:

وقال لي:/ يا عبد الطين/ إن أضعتَ الدنيا / ما نفع الدين.
وباختصار، فالحبّ هو الحياة: "العاجز عن الحبّ، عاجز عن الحياة/ لا يرى ولا يُرى/ تمرّ به الدنيا ولا يقطف إلا الجسد

وَمِمَّا يجعل الحياة مشرقة أن أحمد عمر زعبار يخلّص الحب من كل معاني الخوف والرعب التي قد تسكن الكائن بفعل الثقافة التقليدية، وسلطة الفقهاء:

لا تحبّني خوفا ولا رعبا/ الخوف فتوى العاجز / الحبّ جسر والخوف حاجز.

إضافة إلى هذه المشاغل، ضمت قصائد هذه المجموعة جملة من التأملات في الحياة والموت والعلاقات الإنسانية بمناسبة وفاة الأمّ بكل ما تمثله من معانٍ وقيمة ورمزية، وكذلك موت الطفل السوري إيلان على شاطئ بحر، وهو يسعى إلى الفرار من جحيم الحرب في سوريا إلى مصير مجهول.

وما يميّز " تفاح المحبّة" أنها فاضت بكل أنواع العواطف الإنسانية وترجمت هشاشة الكائن في أشكال تعبيرية متنوعة في إيقاعاتها، فحافظت قصائد على إيقاعات الخليل، والتزمت أخرى بنظام التفعيلة وفرضت قصيدة النثر نفسها على عدد وافر من النصوص فجاءت المجموعة ثرية عميقة مشوقة، وقد نضجت على نار هادئة فلم يتعجّل أحمد عمر زعبار في إخراجها للناس إلا بعد أن عجنتها الموهبة وصقلتها التجربة فاستوت غذاء للفكر والرّوح وشهادة على أنّ الحلم والحبّ باقيان وأن الوطن يعيش في الشاعر وإن تناءت المسافات.

 

مزيد من القراءة