نجوم أريحا

(1)
بقلم: ليانة بدر
التصنيف: روايات
الناشر: Cambourakis
عام: 2024

الطبعة الفرنسية الثانية من " نجوم اريحا " ، في العربية صدرت الطبعة الاولى عن دار الهلال ، والثانية عن دار الآداب.

"هل ظلّت قطعة الزجاج الخضراء تتجسد بين الحين والآخر إلى حدّ تحولها إلى مرآة تطالعني فيها صورتي وحدها حين ذهبت إلى البيت العربي القديم؟ ما أذكره تماماً هو أن نداءً غامضاً تداخل فيّ حتى بدأت أظنه جزءاً مني أو أنني جزء منه... توت توت.. توت رنّ. الصوت في خاطري. سمعتهم ينادون ويتنادون المطرودين والمبعدين منّا للإبحار إلى الوطن رغماً عن الإبعاد القسري كانت سفينة "العودة" التي ستنطلق في اليونان، وكان عليّ الذهاب معهم... القطعة الزجاجية الخضراء استحالت إلى سفينة بحالها هذه المرة. سفينة بألف شراع، وبألفيّ مجذاف.. حدقت إلى الأفق، رأيت أريحا غافية كعادتها تحت قمة قرنطل.. التفت متقصية أحوال الغروب. ما زالت السماء تنثر غيومها.. أفتش عن مسرى الفضاء الذي يصل ببوابة بيتنا هناك.. أريحا أين هي الآن؟ إنني أراها وأحلف أنني أشهد كلّ أركانها، وزواياها، أزقتها، بيوتها، أسطحتها وخباياها من بقعة الرمل الصغيرة التي أقف عليها.. هنا أنت. أنا. والعالم. تحت هذه القبّة الزرقاء الوسيعة التي ركضت طفولتي في أبهائها. إنني أراها وأقسم أنني أشهد كلّ أقسامها، قنواتها، مساربها، ومخلوقاتها المجتمعة أرقب كل شيء في مكاني.. أريحا.. آمين. أقطف غسيل الدار عن السطح، أنزل حاملة السلّة القشية الطافحة بالثياب، غسيل الملائكة، والنجوم لها نسيجها أيضاً. أدخل إلى صالة بيتنا، وأعاود الجلوس على مكتبتي التي رسمت عليه أيضاً خربشاتي الأولى أمسح الغبار عن الأباجورة المزخرفة بأوراق الشجر المخضب. أفتح الدرج بمفتاحه السري وأتأمل كل تلك اليوميات التي سجلتها أيام الدراسة. أفتش عن نصف دينار حصلت عليه جائزة على استظهار أبيات شعر قديم. وأحفر رموزاً جديدة لأسرار المعبود التي لم يعرفها أحد سوى ذلك القزم الحديدي على سطح الدار. أنظر إلى الكنبة مقابل الشباك. فأرى والدي يتحامل على شلله، يرمّم جمود جسده، ويحاول الحركة. ينهض، ينهض هذا الذي ما كان بإمكانه القيام حتى من أجل غبّة ماء. يرفع ظهره، كتفه، رقبته، رويداً رويداً، ويقوم كي يتطلع إلى المنظر فيما وراء النافذة. إلى كلّ ما بذرته فينا أريحا من عناصر وذرّات ذابت في فيض أجسادنا، وصارت جزءاً منها. هكذا رأيته هناك، ضالعاً في لملمة الأسطوانات الموسيقية، ومشجعاً للأغنيات التي لن يجرفها الزمن. إنني ابنتك يا والدي. أنا الولد الذي علّم أباه. أقف هنا على هذا الشاطئ الرملي المالح وأنظر إلى غروب الشمس شيئاً فشيئاً. عساني أنتظر النجوم. نجوم أريحا على حافّة هذا الصباح".

"نجوم أريحا" ليست حكاية أو قصة، إنها الرائحة، النكهة والشذى لزمن مضى ومستقبل نابض على حفاف الآمال. نبحر مع ليانة بدر في رحلة في ذاكرة مدينة، مدينة أدمنت روح الرواية استرجاعات أحداثها، تفاصيل أماكنها معالمها وأشخاصها. مبتدئة بأريحا التي تمتلئ باللاجئين عام 48، لتصل بذكرياتها إلى أريحا الضائعة المغيبة تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 67، مفتشة بين هذا كله عمن يعرف أريحا؟ بل على من يجرؤ ادعاء معرفتها إن لم يعشها ويرقب مفاتن خصوصيتها الطبيعية والسكانية، والتاريخية..! فهي أريحا المدينة الأولى التي بنيت في التاريخ مدينة للقمر. تتآلف في حكاية ليانة بدر الوجدانيات مع الواقع، الهواجس مع الحنين والألم مع الأمل فتشكل بأضمومتها أغانٍ عذبة ينشدها كل عربي متطلع إلى سفوح وهامات ذلك الوطن الخالد في الفؤاد.