الفصل والوصل

(0)
بقلم: سعيد سالم
التصنيف: روايات

د. احمد المصرى

من الوعي بالذات إلى مساءلتها

اغتراب من أجل الاقتراب

قراءة فى روايةالفصل والوصل لسعيد سالم

 

لقد أعجبني الوجدُ       بمن أهواهُ والفَقدُ

فلا بُعدٌ ولا قُربٌ       ولا وَصلٌ ولا صدُّ

ولا فوقٌ ولا تحتٌ         ولا قبلٌ ولا بَعْدُ

ولا عُرفٌ ولا نُكرٌ     ولا يأسٌ ولا وَعْدُ

فهذا مُنتهى سؤلي   [ وأنت ] الواحدُ الفردُ

ثمة علاقة وثيقة بين التجربتين الصوفية والأدبية تكمن فى سعى كل منهما نحو الأسمى والأرقى، وتقديم صورة للعالم البديل الذى يرتقى الصوفى من أجله معراج الروح ،ويبغيه الأديب ويتوق إليه مرتكزاً على الثنائيات الضدية إظهاراً لعوار مجتمعه ومفاسده أو محلقاً فى عوالم خيالية مثالية يقدم من خلالها صورة ضمنية تجسد حلمه الأسمى بالمجتمع المثالى الذى يصبو للعيش فيه وقد برزت هذه العلاقة بوضوح فى كتابات سعيد سالم بوجه عام وفى آخر أعماله بوجه خاص مثل مجموعته القصصية الكشف وروايته الفصل والوصل

حيث السعي الحثيث لاستبطان سر الوجود وإبراز الصراع العنيف بين الثنائيات الضدية المختلفة كالوجود والفناء والحياة والموت والخير والشر والإقبال على الحياة والزهد فيها، وغيرها من الضديات.

وعلى هذا الأساس تكون الكتابة عند سعيد سالم معادلة للحياة والوجود

وقد عبر عن هذا المعنى بقوله:

"لقد تبين لى بعد هذا العمر الطويل أن الكتابة الابداعية هى حياتى الحقيقية التى أمارسها بحب وشغف، بل وبشهوة فى معظم الأحيان نابعة من داخل الذات قادمة من خارج الزمن، أشبه بالأفعال الغريزية الأخرى كالأكل والنوم والجنس، إن لم تتفوق عليها جميعا فى المتعة. إن التوقف عن الكتابة يعنى لى الموت، واذا كان خلاصى الأرضى فى الحب وخلاصى السماوى فى الإيمان فإن الكتابة الابداعية عندى هى المعبر الذى يصل بين الخلاصين."
هكذا وصف سعيد سالم تجربته مع الكتابة مبينا أنها تعني له الحياة والوجود فهي نقطة الالتقاء بين الأرضي والسماوي ومحاولة التوفيق بينهما مزجا يريحه من التقلب بين الفصل والوصل،مزجا يشبه البرزخ الفاصل بين الماء العذب والماء المالح الذي عبر عنه سبح-انه وتعالى بقوله:

"مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان".

برزخ بين نواياه وأفعاله،بين عقله وقلبه،بينالانغماس في اللذة والزهد فيها.

دلالة العنوان:

عنوان العمل عنصر جوهرى من عناصر تكوينه، وبؤرة دلالية تعد مفتاحاً سحرياً لولوج أغوار النص العميقة ‘وقد يرتقى العنوان جمالياً ليصبح نصاً يتشاكل مع النص المتن ويتقابل معه، وقد ينافسه فى إحداث الأثر المناسب باعتماده على الاقتصاد فى اللفظ والتوسع فى الدلالة فيعتصر التجربة الإبداعية فى أقل عدد من الألفاظ وقد تخير كاتبنا لروايته عنوانا مميزا يحمل كل سمات العناوين الجيدة من إيجاز، وجذب للانتباه، وتعبير عن المضمون .

وهوعنوان للوهلة الأولى يجعلنا نتردد في كشف حقيقة ما يدل عليه فهل يعني الفصل والوصل بالمعنى البلاغي أم بالمعنى الصوفي؟

أما المعنى البلاغي: فهوباب من أبواب علم المعاني حيث يعني الوصل: عطف جملة على أخرى بالواو – مثل قوله تعالى:

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ"

 في حين يعني الفصل ترك هذا العطف بين الجملتين ، والمجيء بها منثورةً، تستأنفُ واحدة منها بعد الأخرى مثل قوله تعالى:

"وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ "

 .وقد جعل البلاغيون هذا الباب مرادفا للفهم البلاغي فقالوا إن البلاغة معرفة الفصل من الوصل

أما الفصل والوصل بالمعنى الصوفي فلهما معنى آخر، حيث يعني الوصل: التجرد والتعفف ، الاستئناس بالله تبارك وتعالى ،وهو هجرة مستدامة إلى الله سبلها العلم والعمل حتى يرتقي المتصوف من حال إلى حال عن طريق اعماله ومعارفه ، وهذا الوصل من عجبه لا يكون طمعاً في جنة أو خوفاً من نار ملتهبة وسعير وجحيم ، بلطوعاً في القرب ومعرفة لله في كماله فحسب ، أما الفصل فهو البعد عن الآخرة والتعلق بشهوات الدنيا والنهل من ملذاتها.

فهل يقصد الكاتب المعنى البلاغي أم المعنى الصوفي؟

تأتي الإجابة سريعا عند رؤيتنا لبيت الشعر الذي يحتل صدارة الرواية وهو:

توصلني وتقطعني وتدعو ثم تمتنع

                      فلا وصل ولا فصل ولا يأس ولا أمل

وكذا نتأكد أن المعنى الصوفي هو المعنى الذي يريده الكاتب.

وإذا كان الصوفي الطامع في الوصل أول ما يفعله هو السير في ركب المنطلقين إلى الحبيب مرتحلا بالكلية إليه كما يقول أبو القاسم الجنيد،فإن كاتبناقد جعل بطل روايته يسير ليلا ونهارا أملا في معرفة نفسه التي ستقود إلى معرفة الحبيب ،بطل يرحل عبر الطرقات يحمل كثيرا من روح وعقل الكاتب الذي يرحل عبر سطور كتاباته المختلفة باحثا عن خلاصه الحقيقي، ومن هنا نفهم إصرار سعيد سالم على عدم هجر الكتابة أو البعد عنها؛لأنها ببساطة الشريان الذي يمنحه الحياة .

أحداث الرواية:

تقع الرواية في مائة وثلاث وثمانين صفحة  بدأت بافتتاحية  مميزة كعادة سعيد سالم في رواياته وتنبع أهمية افتتاحية أي رواية من أنها تشكل أول اتصال للقارئ مع عمل لا يعلم عنه شيئاً فالماضى مجهول وكذلك المستقبل والحوادث لم تبدأ وليس ثمة خيوط بعد تربط عناصر السرد بعضها ببعض. والافتتاحية يناط بها إعطاء الخلفية العامة للعالم الروائى والخلفية الخاصة لكل شخصية بشكل يمكن القارئ من ربط الخيوط والأحداث التى ستنتج فيما بعد.

وسعيد سالم دائما يعرف من أين يبدأ، رأينا هذا بوضوح في روايته الحب والزمن  وها نحن نراه أيضا في هذه الرواية حيث البداية من قمة الحدث و نقطة التحول الفارقة بين حياتين متناقضتين مصورة الصراع المحتدم بينهما من أول كلمة في الرواية وحتى آخر كلمة فيها.

وقد تلت افتتاحية الرواية مجموعة من الفصول المتعددة والقصيرة يتقاسمها عنوانان يتكرران بالتناوب حتى آخر صفحات الرواية هما :وصل وفصل، ثم يأتى عنوان "مزج" محاولا التوفيق بين حالتين متناقضتين عانى منهما بطل الرواية على مدار رحلة شاقة وطويلة استغرقت كل صفحاتها تقريبا هما: عشقه للحياة الدنيا بكل مباهجها ومسراتها ، وبين رغبته في الحصول على منزلة عند الخالق فى الآخرة.

وتدور أحداث الرواية حول عادل المصري الذي يعيش صراعا فى الحياة  من أجل الوصول إلى المعرفة والنفاذ إلى جوهر الأشياء، والتحرر من أسر الجسد الطينى والتحليق بحرية فى العوالم العلوية حيث النقاء والبقاء ومعين الحب الخالد الذى لا ينفد، وفى سبيل الوصول إلى الهدف المبتغى يغترب كي يقترب عبر رحلة مليئة بصراعات متعددة بين فصل ووصل تارة مع نفسه وشهواته سعياً إلى قهرها والانتصار عليها، وتارة مع مجتمع فاسد يحيط به شره من كل جانب، وتارة مع الفتن والابتلاءات التى تعرض على قلبه ومن خلال هذا الصراع تولد الأحداث وتتنامى.

شخصيات الرواية:

يمتلك سعيد سالم قدرة فنية وخبرة روائية كبيرة مكنته من تقديم شخصيات روايته تقديما متقنا أيقظها من رقادها فوق الأوراق وبث فيها الحياة ، وجعلها لوحات فنية معبرة لا تنفصل عن بقية التقنيات السردية وإنما تنصهر معها لتخلق نصا أدبيا بالغ الثراء والإمتاع وقد حقق هذا التميز عبر الوصف الخارجى للشخصيات، أو الحوار الذي يدور بينها ، أو المنولوج الداخلي الدائر في نفوسها ، أو الاستعانة بالشخصيات الثانوية لتوضيح أفكار الشخصيات الرئيسة وصورها ، وغيرها من وسائل رسم الشخصية الروائية.

وإذا نظرنا لشخصية عادل المصري بطل الرواية فإننا نجده شخصية تعاني صراعا شديدا بين إرضاء الشهوات والخضوع لها وبين طلب المنزلة عند الله سبحانه وتعالى من وجهة أخرى مما يجعله كائناً غير متزن عاجز عن التصالح الداخلى بين دينه ودنياه.

وقد عبر الكاتب عن هذه الحالة خير تعبير حين قال:

"إننى أتمنى أحياناً أن أكون رجلاً ربانياً خالصاً ينكشف عن عين قلبى حجاب الحس وينفتح من دون قلبى باب القدس، فأرى ما لا عين رأت وأسمع ما لا أذن سمعت وأذوق من الحقائق والدقائق والرقائق ما لا يخطر على قلب بشر وأجدنى أبدأ المحاولة مرة وراء الأخرى لكنها لا تلبث أن تذوى فى أسابيع قليلة إذ يفتر حماسى بالتدريج وأجدني منجذبا من جديد إلى فلك الحياة،ربما لمجرد سماعي لبحة صوت أنثى تزلزل وجداني وتثير فيه عشقي للحياة ،

وكم تمنيت أحياناً أخرى أن أظل أعب من نشوة الحياة حتى الثمالة وأن اعتصر رحيقها وألتهم جمالها وأذوب فى فتنتها حتى الموت وأبدأ المحاولة لكنها لا تستغرق أكثر من فترة وجيزة حتى أفيق لنفسى وقد أنهكنى الشعور بالذنب فأعود مذبذباً من جديد لاطلت أرضا ولا سماء"

وهو شخصية صفرية تريد ألاتريد شيئا ترحل من مكان إلى آخر من الإسكندرية إلى الوادي الجديد إلى السويد تقابل أنماطا مختلفة من البشر،وترسم صورة للواقع السياسي والاجتماعي المصري والعربي .

وهناك شخصيات متنوعة مثل الحاجة فردوس،وسلمى التي تقوم على رعايتها،والشيخ منصور صوت الهداية أو الضمير الإيماني الذي يحاول دوما جذبه لطريق الهداية،وشخصيتي فيروز وآسيا،والمجذوب حسن وغيرها من الشخصيات.

علاقة الكاتب بشخصياته:

ما علاقة الكاتب بشخصياته الروائية؟ وما هى ماهية هذه العلاقة ؟ وهل هى علاقة تماثل أم اختلاف؟ ولا سيما مع بطل الرواية؟ وهل يحمل البطل أو الشخوص عموماً جزءا أو أجزاء من سمات الكاتب وحقيقته الإنسانية وواقعه الاجتماعى؟ وهل للمؤلف علاقة بالنص الإبداعى فى أثناء ممارسة العملية النقدية؟ بمعنى هل يحب الفصل بين النص ومبدعه أم يجب على النقد أن يعد مبدع النص جزءاً من العملية الإبداعية؟

الحقيقة أن سعيد سالم حاضر بقوة في جميع أعماله وقد أشار هو صراحة إلى هذا الحضور حيث قال: أنا أقر بوجودى فى جميع أعمالى ولكن بنسب مختلفة، ووجودى هذا متحقق بقدر لا مفر منه ولا بأس به من المكر الفنى، بحيث يذوب هذا التواجد فى كيان العمل الفنى، أو ينصهر معه، او أن يكون معه نسيجا ناعما متكاملا، وتلك هى رسالة الفن الحقيقية أن يحيلنا الذاتى الى الموضوعى ولكن بيسر واقتدار.

المشهدية الروائية:

الرواية منظومة لغويةتشكل عالمها الخاص أشخاص وكلمات وجمل والمواقف فيها صناعة لغويةبحتة عالم له نظامه الخاص قد يتشابه مع نظام الحياة لكنه ليس هو على الإطلاق ،وعلى هذا يمكن دراسة الحياة الروائية باعتبارها نتاجا لغويا إما سكونيا أي التوقف عند مشهد في حد ذاته خلال فترة زمنية معينة،أو تطوريا أي دراسة سلسلة المشاهد التي تكون كجمل الحياة الروائية،أو من خلال المنظورين معا وهذا هو الأصوب إذ لا يمكن تجزيء الرواية.

والمشهد عبارة عن توقف قصير أو طويل نسبيا يقوم الراوي من خلاله باستدراك ما أو بتوسع معين أو بإدخال عنصر جديد من شأنه المساهمة في لاحق السرد ،وقد يكون المشهد عبارة عن قصة قصيرة جدا تفيد في توضيح بعض خصائص الشخصيات مثلما نرى بوضوح في مشهد المحاكمة،أومشهد الالتقاء بالصياد العجوز،أو المجذوب حسن،وقد يبنى المشهد على حدث غامض مثل مشاهد بطل الرواية مع الشاب الذي التقاه عند محطة الترام وقد بين لنا التناقض الصارخ بين مظهره ومخبره.

وإذا كان سعيد سالم قد قام بتقطيع روايته إلى مشاهد وفصول متتالية ،فإن على المتلقي إدراك أن هذه المشاهد التي تبدو مستقلة في بعض الأحيان ليست منفصلة عن بعضها بل هي متصلة اتصالا وثيقا ومتسقة مع الفكرة الملحة عليه في الكتابة.

التفاعلات النصية:

من أبرز السمات اللغوية المميزة لكتابات سعيد سالم بصفة عامة، وهى تقنية فنية تفرضها طبيعة الرواية بعيداً عن استعراض الثقافات، وللتفاعلات النصية متعددة المصادر والأشكال دور كبير فى كسر نمطية الحكى المغلق عن طريق تهجينه وتجاوره مع أساليب سردية جديدة تسهم فى إثراء لغة الرواية والارتقاء بها.

وقد تنوعت صور التفاعل النصي في روايتنا فمنها التفاعل مع القرآن الكريم واقتباس بعض آياته الكريمة ،أو التفاعل مع أقوال الحكماء والعارفين بالله،كالغزالي وغيره،أو الفلاسفة كأفلاطون الذي يتناص معه تناص مخالفة،أوالشعر العربي بداية من التصدير الشعري الصوفي في أول الرواية ،ونهاية باقتباس رائع من شعر نزار قباني قرب نهاية الرواية يقول فيه:

وأكره أن أحب مثل الناس

وأكره أن أكتب مثل الناس

وأود لوكان فمي كنيسة

وأحرفي أجراس.

وهو اقتباس لا يعبر فقط عن إعجاب الكاتب بقدر ما يعبر عن غايته من الكتابة وسعيه للتميز والتفرد.

وأخيرا نحن أمام عمل مميز لكاتب شديد الوعي بذاته وبمجتمعه يثبت كل يوم أن معين إبداعه لا ينضب ولا يتوقف يتجاوز الكتابة عن ذاته إلى الوعي بها ومسائلتها بحثا عن حقيقتها وجوهر وجودها وعن مصيرها وحقيقة الكينونة والفوارق الدقيقة بينها.

يولد السؤال القلق حول الوجود والمصير من وقوع الذات في قبضة الشك غير المنظم من اهتزاز داخلي يربك لحظة الوعي ويأتي بالسؤال من غيرموقعه لذلك يجانب سؤال القلق السؤال عن المقدرة والإرادة والحق في الاختيار في رسم معالم الطريق ،فإذا كان الوجود قدرا،فالكينونة تتحقق بالتجربة والاختيار والصراع والوعي ،الحقيقة اختيار حتى الهزيمة اختيار والفشل اختيار أو هما نتيجة لاختيارات لم تكن موفقة أو لم تحسب بدقة إن النتيجة ليست سوى آثار الطريق التي حددنا معالمها بحرية واختيار وإرادة ووعي هنا تتحقق الذات من ذاتها تقبل الهزيمة كما تقبل الفشل لكن ترفض الاستسلام لظلمة اليأس وعتمة الانكسار تتحقق الكينونة من المقاومة ضد الصدأ الذي يتولد عن القلق والخوف والضعف.

وهنا تكمن روعة كتابات سعيد سالم.

مزيد من القراءة