طَيْفٌ صغيرٌ مراوغ

(0)
بقلم: فكري داود
التصنيف: روايات

الذات مرآة العالم فى رواية(طيف صغير مراوغ)

أو" عام جبلى جديد " لفكرى داود

د. محمد زيدان

(مؤتمر شرق الدلتا الثقافي السادس مارس2007)

" عام جبلى جديد " أو (طيف صغير مراوغ)، رواية تتقارب فيها أدوات الحكاية تقارباً شديداً ، حتى تتحد مع بعضها البعض فى لغة مصفاة إلى درجة كبيرة، وقد حدد مؤلفها لنفسه منذ البداية الأبعاد الزمنية والمكانية والإنسانية . تحديدا جعل الرواية كلها تقع على عاتق أربع ذوات حاضرة ( الراوي وزميليه ) بالإضافة إلى سعود بن عايض ، الذات الوحيدة الحاضرة حضوراً فاعلاً، وفى الوقت نفسه تنتمي إلى المكان ، ومن هنا يمكن أن نحدد بعدين رئيسيين للسرد :

البعد الأول : ـ

السرد الداخلى: وهو السرد الذى يقدم صورة للذات من الداخل، سواءً كانت ذات الراوي، أم كانت ذاتاً موازية له، وهو يستحوذ على أكثر من نصف الرواية، ومن خلاله يقدم الراوي الاسترجاعات، التى يقوم عليها البناء الروائى بالإضافة إلى اللغة المضافة إلى ذات الراوي، ويمكن أن نطلق عليها سرداً محايداً.

البعد الثاني : ـ

السرد الخارجى: وفيه يقدم الكاتب صورة شاملة، لعلاقات الذوات الحاضرة فى النص، ورؤيته التى تتضمن تفسيراً قسرياً لبعض الأحداث، بالإضافة إلى بُعد مهم من أبعاد النص، وهو البعد المكاني، ويشمل حيزاً فاعلاً فى الحكاية.

فالرواية – كما جاء عند محمد العتر –، ليست رواية حدث، وإنما هي مجموعة من المتواليات القصصية، التى تقدم تصورا واحداً، عن حالة اجتماعية ومكانية محددة – ( عام واحد فى جبال بجنوب شبه الجزيرة العربية)، يقدمها الراوي بضمير الأنا، الذى يستقصى أطراف الحالة، بداية من ذاته وحتى ذوات الآخرين، وانتهاء بالمعادل الفنى، الذى استخدمه الراوي – وهو " القرد "، إن اعتبرنا أن القرود تقدم أفعالاً، لا يمكن تفسيرها مقارنة بأفعال الإنسان.

حرص القاص فكرى داود، على أن يقدم متوالياته ( بعناوين فرعية منفصلة )، ولا يمكن فى هذه الحالة، أن نربط بالزمن النحوى بين الأحداث، إلا بما يقدم فى النص، على اعتبار أن الراوي يقيم بناءه على أساس الاختيار.

محاولة لفهم التفكير الشعبى ( عالم القرود )

يفترض المؤلف، أن هناك علاقة مابين القرود والإنسان، أكثرها بروزاً فى الرواية، العلاقات الجنسية التى افترضها، بين الفتاة البدوية وأحد القرود، وبين سعود وإحدي إناث القرود، وبين الشبه الوارد أحياناً من وجهة نظر التفكير الشعبى فى تلك المنطقة – بين ملامح بعض الأطفال القردية، والتى تشير إلى تلك العلاقة – وتعمَّقَ الراوي فى الوصف والإشارة، إلى هذا المنطق المحير فى الفهم والتصديق.

ويحتفى الوصف – السرد الخارجي احتفاءً ظاهراً بعالم القرود، حتى وصل الأمر إلى التغزل فيهم ، إنه عالم جديد لمعلم قدِم إلى المكان، من الدلتا فى مصر، إلى بيئة فائقة الخصوصية.

" أغصان السدر ملعب القرود المحبب ، تدهس أسنانها كل ماتقع عليه أيديهم من ثمار يتخذها الصغار أراجيج هوائية تتناثر – بفعل الأرجحة – الحبات الأكثر نضجاً ، تتلقفها أيدي مفترشى الأرض، تلهي أصابعهم عن العبث بشعورهم لتقتنص قملاته البذيئة، وتصعد بها إلى أفواههم، بغرض الفتك بها – تحتفظ حواسى بقدر متوازن من علاقاتها مع القرود، مرات عديدة تصنَّعْتُ اللعب مع المستأنس منهم، ومرات أخرى دفعت بالأحجار معتادي الإيذاء، كثيرا ما دقت أيديهم نافذتي ليلاً، قاطعةً وصال النوم " .

إن فكرى داود يقيم بناءً نصياً، على أساس وجود حافز سردي قوى، لا تنتهي احتمالاته على الإطلاق، هذا الحافز يعمل فى اتجاهين فى آن واحد، الاتجاه الحرّ : وهذا يعني أن السرد يستبطن عن طريق هذا الحافز، أكثر من دلالة عامة وخاصة، تتمحور الدلالات العامة حول رؤيتين مركزيتين:ـ

الرؤية الأولى : المكان ، وهو من أكثر الأبعاد إثارة للدهشة فى الرواية، بل إن مركزية السرد تنطلق أساساً من المكان، والذى لم يتعامل معه على أساس أنه بعد ثانوي، يقدم خلفيات حكائية لمدي زمني محدد، وإنما تعامل معه السرد على أساس أنه شريك فى الحكايات. وهذا بدوره يعني، أن المنطق التحفيزي الأساسى فى النص، ينطلق من الفضاء المكاني، والمفردات التى حشدها المؤلف لهذا الفضاء.

كذلك كان يصطنع عدداً من آليات التعامل مع هذا المكان، ومنها أنه يوازن بين حركة الذات، وحركة المكان، مضيفاً للاثنين من الصفات ما يجعل المتلقى يحسّ، أن هناك تلاحماً حياً بين حركة الذات، وما تمثله مفردات الفضاء من جانب آخر، ومن ذلك التلاحم ، نرى :

موقف الاسترجاع فى بداية الرواية، وهو يصف كلمات فالح:

’’صنع فم فالح ابتسامة ضيقة، بدأت حركة الكلمات تتردد بين شفتيه، انتقلت أسئلته بيننا كانتقال طائر غريب يبحث عن قوته فى أرض مجهوله‘‘ ص 10.

موقف توصيفى :

" من طرف السماء ، طل على استحياء هلال صغير ولاحت فى مرمي البصر، أشباح قردية متنافرة ، هلت معها رياح الريبة " ص 11

موقف انسجام نفسى، مع روح التفكير الشعبى، فيما يخص علاقة " صالحة " بالقرد :

 " جبل ممتد : له التفافه حدوة حصان،

متباهٍ هو برءوسه المتعددة، متقاربة الارتفاع " ص 19 .

موقف توصيفى، يشارك فيه الراوي الذوات، فى صنع الأحداث:

" دخل الليل دهاليز ثلثه الأخير، هبت نسمة جنوبية طرية خلف إحدي هضاب الجبل متعدد الرؤوس "

وبذلك يعد المكان، بما يتركه من ظلال على الأفعال وعلى الشخصيات، شريك أساسى فى رؤية الراوي، لهذه الحياة الجبلية الغريبة على المتلقى. وهو بدوره يساعد فى رصد الرؤية الثانية التى تسيطر على السرد .

الرؤية الثانية : وهي بادية من اهتمام النص إلى حد كبير، بعملية الاستبطان من وجهيها؛ استبطان ذاتي يتذرع برؤية داخل الشخصيات، وظلال الأماكن، وتفسير الأفعال، التى يقع معظمها تقريباً خارج الإطار الزمني للحدث، وهو المقصود به – هنا – وجود الذات الساردة، فى مكان وزمان محددين، فلسنا أمام حدث بمعني الفعل المركزى، والذى تتوزع حواليه دلالات النّ ، وعناصره السردية، وإنما نحن أمام أربعة ذوات مختلفة الثقافة، ذات رؤي متباينة، ويتم من خلالها استبطان تاريخ الإنسان والمكان على حد سواء.

 الاستبطان الذاتي، جاء فى النص على أكثر من صورة، توحى بعملية التشخيص، الذى يقدمها الراوي، من خلال المراوحة بين الزمنين الأصليين فى الرواية :

الزمن الأول: الحاضر فى النص – الراوي فى مدة محددة فى نجران .

الزمن الثاني: الغائب وهو زمن الاسترجاع، وهو زمن غالب، بمعني أن الدلالة تخرج منه، وتعود إليه فى رشاقة ظاهرة .

عملية التشخيص السردي، والتى استخدمها فكرى داود لتعميق رؤية الشخصية أو استبطانها، جاءت فى الرواية بآليات متعددة .

التشبيه بالتصريح: فى فصل بعنوان " أطفال الطين " وتحت عنوان جانبى " طقوس خاصة " يستخدم النص عناصر البيئة ( الجبلية ) مؤصلا للحالة الرئيسية، التى يريد أن يستخدمها لاستبطان الذات، وهو سرد خارجي عن " حسين " واحد من عناصر السرد الرئيسية .

" تبدو على حسين فى الفترة الأخيرة، أمارات الانفرادية مسلم نفسه للصمت ، يملأ علبة مسلى فارغة بالماء، تحت النخلات الثلاث يتخذ مجلساً، يصنع بالماء مع التراب الناعم طيناً، تشكله أنامله أطفالاً متفاوتة الأعمار، والأطوال، يستغرقنا التأمل عجباً : من أين لحسين – ذلك القاهرى – بهذه الصنعة ؟

تعود أنامله إلى الطين ؟ تصنع سيارة كبيرة، تعتليها الأطفال . يطلق فمه صوت آله دائرة .

خلفه تنتصبُ قاماتنا، تندب عيوننا فى المشهد، لا ينتظر انطلاق أسئلتنا، يقول :

هذا الكبير – أحد أطفال الطين – حسن ، ابني البكرى ، وهذه – الوسطي – مني ، ألا ترون جمال العيون ؟ وتلك الصغرى – أماني .. " ص 39

يتحلى السرد فى هذا الفصل، بحوار يتراوح من ناحية الشكل بين التصريح – ما يشبه – الاستعارة التصريحية، وبين التمثيل، من خلال الالتفات بضمر " الهو " وهذا يعني أن الراوي ينوب عن الذوات الأخرى، فى رصد وتعميق صورة الزمن الاسترجاعي، والذى يعد بدوره تأصيلاً لحالة الاستبطان القائمة فى النص .

تعميق روح التفكير الشعبى :

يلجأ فكرى داود، إلى تعميق الاستبطان الذاتي المرتبط بالمكان . وذلك بالمفاهيم الشعبية السائدة فى منطقة نجران، وهي مسألة العلاقة الجنسية، السائدة فى التفكير الشعبى لدي السكان ،والمقيمين فى تلك المنطقة، وهو نوع من التفكير الغامض، الذى لا يعتمد إلا على شائعات، تتناقلها الأجيال دون توثيق، وهي درجة من السرد، حملها النصّ أكثر مما تحتمل فى الذاكرة العربية، التى تأنف الخوض، فى مثل هذه العلاقات، ولكن اللافت عند فكرى داود، أنه ربط ذلك باستبطان المكان ومفرداته، وهو استبطان ممتد على مساحة النص كلها، سواءً فى نجران، أو فى مصر. ولنأخذ الفصل المعنون بـ " سعود..و ابنة القرود اللئيمة " كدال على هذا التوجه، فسعود، الذات المحورية، الذى يظهر المكان من خلالها متوهجاً، توهج المشاعر الدفينة بين ذات الراوي، وسعود، وبين سعود وما تتناوله الألسنة عن صالحة والقرد، ومشاعر الخوف من إشاعات حول قردة لئيمة، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يستقصى السرد علاقات إيجاب وسلب، فى ذاكرة سعود، فى فصول مثل :

( تنويع على لحن المواجهة ) الانفلات من بين أنياب الهلاك " ومنهم من يغني للوحدة موالاً ) .

" على بعد أميال من الديرة ، تقع المزرعة، تتوسطها بئر ضيقة عميقة، ترفع الآلة ماءها الأقرب إلى الملوحة، يصب عبر خراطيم ممدودة، قرب جذوع النخلات، تكسو السعف خضرة الحياة، مغلفة بصفرة الموت .

بُقَعٌ من حشائش متفرقة حادة الأوراق، نبات العشار عديم الفائدة وحبق بحر، تحمل وريقاته كل خصال النعناع، تعترينا الدهشة، كيف تمكن هذا النبات، ذو الرائحة الرقيقة، من التواؤم مع كل هذا العجف ؟!

يصيح سعود : قسما ؛ لن تطأ قدمي المزرعة، دون صحبتكم .

نعيد القراءة لملامح طريق الذهاب، تأخذنا صراحة التضاريس، لا مهادنة ولا غموض، لا تَخْفَى عنّا ، ضرورةُ احتفاظ كل ملمح بداخله، بمعظم أسراره الخاصة .

تغوض أحذيتنا، فى التربة الناعمة المملحة، تبحث عيوننا فى قلب البئر العميق ، عن لمعة الماء .

يسيطر التوتر، على القرد الوحيد هناك، كلما وقع بصره علينا، يحاول الانفراد بسعود، كحبيب يعمدُ إلى إقصاء محبوبته، عن سرب البنات ‘‘. ص 78

إن هناك تداخلاً واضحاً بين رؤي الذات – ( الراوي – سعود ) وهى ذوات رئيسي ، ورؤي الذوات المساعدة – سواء الحاضرة أم الغائبة – صالحة – فالح – زوجة وأبناء الراوي – وبين رؤي المكان، بل إن المؤلف صنع تواشجاً حياً بين مشاعر الذوات، وإحالات تتصل بالمعادل الموضوعي / الفنى للنص ( القرود ) وبين المكان – ذاكرة المكان المنطقة الجبلية الشديدة التفاعل مع الإنسان، وما تجود به ذاكرة الذوات من تفاعل مع الواقع .

- الذوات : فاعلية حركية ونفسية.

- المكان : فاعلية حركية ونفسية .

- الاسترجاع : فاعلية حركية ونفسية .

مزيد من القراءة