رواية "بيضة العقر" للروائي محمد الهجابي

 الجدل بين الواقع وقراءاته

 كتب حسن السوسي

ليس سهلاً قراءة عمل روائي من إنتاج الكاتب محمد الهجابي. فطريقته في الكتابة تكاد تكون فريدة في رأيي. ربما لأن موضوع رواية "بيضة العقر" موضوع معقد إلى درجة كبيرة، حيث تتداخل الوقائع والأمكنة والأزمنة وفق منطق سردي حريص على المزج بين أسلوب الكشف عن شخوص الرواية وبين أسلوب إبقائها في ظلال تذهب بالقارئ كل مذهب في محاولة تتبعها ورصدها في الزمان والمكان. وقد استوقفني كثيراً كيف ينتقل الراوي من "الأنا" إلى "الولد" إلى "الهلالي" إلى "سلام" مثلاً. كما انجذبت أيما انجذاب إلى كيفية تشكيل وإعادة تشكيل شخصية "زايد" ليس من حيث تحديد أدواره ضمن هيكلة المنظمة السياسية فحسب، وإنما أيضاً من حيث البحث له عن جذور في أملاكو وربط زيارته لأحد أقاربه بحادثة "تفاسكا" الشهيرة وما رافقها من تنكيل بأبناء منطقة كولميمة مطلع ثمانينيات القرن الماضي. كما استوقفني ذلك الجدل العميق والدينامي بين ما شكل في وعي الكاتب محددات إدراكه السياسي الأساسي وبين مآلاته الفكرية الايديولوجية والسياسية في مرحلة تجاذب عاطفي قوي بين ما يمكن اعتباره هويتين ثقافيتين شكلتا قطبي جذب بين انتماء أول هو اختيار، بالنظر إلى ظروفه غير أنه مع مرور الزمن اهتزت أسس هذا الاختيار، وبين انتماء بدا للهلالي أنه اختيار شبه كامل وهو الوحيد الذي عليه أن يتحمل مسؤوليته عنه وتجاهه. وقد كان عليه حينئذ أن لا يكترث بالقيل والقال داخل عائلته الحزبية الأولى لمعرفته المسبقة بمضامينه ومبرراته أولاً بأول. وكان عليه بالمقابل أن يحرص على عدم الوقوع في ما يمكن أن يعود به إلى المربع الأول في تجربته الجديدة. لم يكن يخامره أدنى شك في كونه قد أحسن الاختيار غير أنه يدرك تماماً أنه لا مجال للمطلقات في المجال الذي ولجه، وأن عليه أن يظل يقظاً. وهي يقظة من صميم الممارسة التي انخرط فيها بكل ما يملك من قوة ومعرفة، وما راكمه من تجربة وخبرات خلال سنوات مضت. يقظة الممارس المنسجم مع ذاته الوازن لقناعاته بميزان قرن الأفعال بالأفعال وليس يقظة المتفرج الزائفة مهما بدت للبعض أنها عين الحكمة التي ما بعدها حكمة.

رواية الكاتب محمد الهجابي "بيضة العقر" تسجيل لعدد من الوقائع في الزمان والمكان تسجيلاً إبداعياً يكاد من عايش بعضاً من تلك الوقائع يضيع وهو يقرأ الرواية بين أكثر من لعبة سردية يتوسل بها الكاتب في بناء الرواية تقذف بالقارئ بين عوالم السيرة الذاتية متعددة الذوات أن صحت العبارة، لأن الكاتب لا يحصرها في مجريات ما هو ملتصق بذات الراوي أو ما يمكن اعتباره بطل الرواية ومحورها وإنما ترتبط أيضاً بشخصيات تكاد تكون مدخلاً هي أيضاً لقراءة الرواية وإن لم تكن محوراً لها مثل شخصية هشام التي أثثت الكثير من وقائع الرواية وجعلت منها نموذجاً لشخصية فاعلة في عالم الراوي أو البطل الجديد داخل أسرته السياسية الجديدة. ويمكن اعتبار شخصية الهواري من تلك الشخصيات التي رأى الكاتب أنه من الضروري إبراز جوانب من سيرتها وإن بدرجة أقل ضمن البناء السردي للرواية. وبطبيعة الحال فالقارئ يجد نفسه يتنقل بين اسمي التحناوتي وطه قبل أن ينتبه إلى أنهما عنوانان لشخصية واحدة. أما بخصوص الفتيات والسيدات اللائي تمت الإشارة إليهن في الرواية فإن الكاتب تعمد أن يكنّ شخصيات روائية أكثر منهن شخصيات واقعية لغاية لا تخفى على القارئ الفطن على كل حال..

لست بطبيعة الحال ناقداً أدبياً حتى أركن إلى إبراز مميزات هذا العمل التقنية وما يمكن اعتباره جديداً في تناول الأحداث وفنون السرد الأدبي ومستجداتها. لذلك أبعدت نفسي عن الخوض في ما ليس لي فيه عمق دراية مكتفياً بقراءة الرواية من منظور ممارس لم يكن غائباً تماماً عن أحداث تلك الفترة من تاريخ المغرب. وعلى هذا المستوى يمكن لي أن أقول إن عمل الصديق محمد الهجابي رائد في مجاله لأنه حاول تأطير أوضاع عامة وخاصة في إطار رؤية شاملة لا تهمها الوقائع والأحداث والشخوص إلا بقدر ما تضيء جانباً من جوانب التفكير أو الممارسة خلال الفترة التي تغطيها الأحداث. وقد تركت لدي قراءة هذا العمل انطباعاً قوياً بأنه ليس إلا مقدمة لأعمال أخرى في السياق عينه. ومن هنا أنتظر جديد الهجابي بشغف كبير رغم أن قراءته فرضت علي في كثير من الأحيان العودة إلى القاموس لأتبين معنى عدد ليس بهين من الكلمات. صحيح أن هذا جعلني في فترة من الفترات أتردد في قراءة هذا العمل لكن تغلبي على هذا التردد مكنني من إثراء قاموسي اللغوي كما ممكني من متعة إعادة معايشة أحداث ووقائع من موقع غير المنغمس فيها متوسلاً في ذلك جهداً إبداعياً كبيراً يعود الفضل فيه إلى الكاتب المبدع محمد الهجابي.

نشر بمجلة "الرواية" بتاريخ 23 دجنبر 2015