فصل من رواية سنين ومرت

فصل من سنين ومرت
نشر لاول مرة بالاهرام منقول بتصرف

يضاجعك الحزن والجنون مضاجعة أبدية، هكذا كانت نبوءة س الاولى لصفية، افكارها تأخذها دائما الى البحث عن شئ لا تعرفه في أماكن غريبة
(من وحي جنون الفنون)

-1- ذات مرة قرأت "س" إعلانًا عن عرض مسرحي للكاتب الكبير «هنري ميللر» ذلك الذى كانت شهرته بالنسبة لها انه تزوج «مارلين مونرو» في نهاية حياته، كانت ترغب بشدة أن ترى مسرحية حقيقية للكاتب الذي قرأت عنه وهى صغيرة، عرفت أن المكان الذي ستعرض به اسمه «الهناجر»؛ سألت أبيها عنه فأخبرها بأنه مسرح يتبع دار الأوبرا، وسيحاول أن يوفر لها تذكرة.
علاقة أبيها بالمسرح قوية، ولصغر سنها اعتقد أنها تهتم بما هو أكبر منها، وتجاهل طلبها بكلمة «حاضر»، وعندما عادت إلى الإعلان مرة أخرى، وجدت مكتوبًا عليه «مجانًا»، فاعتمدت على نفسها واتجهت إلى دار الأوبرا وحدها ، كانت وقتها في سن السابعة عشرة، دخلت المكان، انبهرت بشكل الممثلين الشباب والمخرجين وصخب البروفات قبل العرض، وقفت في ذهول الإعجاب بحالة الفن، وحدها تمامًا تنتظر بدء العرض.
لاحظت “س” أن هناك فتاة تكبرها بكثير، اقتربت الفتاة منها ثم نظرت ل”س” بثبات في عينها وسألتها: انتِ بتعرفي تشوفي الفنجان؟ لا تعرف “س” لماذا أجابتها بنعم، طلبت منها الجلوس وطلبت لنفسها فنجانًا من القهوة، وعندما أنهته طلبت منها قراءته، قرأته لها، انبهرت بها، ونادت أصدقاءها من الفنانين وقالت لهم: هنا بنت عبقرية تقرأ جيدًا، تعجبت من أن هناك فنانين يهتمون بهذه الأمور، حتى بداية العرض كانت قد قرأت أكثر من فنجان لأكثر من فنان أصبحوا نجومًا كبارًا الآن، لازمت “س” تلك الفتاة طوال الوقت، يوميًّا تقابلها، حتى عرَّفَتها مقهى الحرية.
تدخن صفية بشراهة وغريبة الأطوار، سألتها “س” : كيف عرفت أنني أقرأ الفنجان، قالت لها: عينك يبدو عليها ذلك، روحك ممسوسة بالجن الطيب، ضحكت وقالت لها: أنها لا تؤمن بهذه الخرافات، وأنها على يقين بأنه لو كان هناك جن، فهو في حاله والإنس في حاله ولا اختلاط بينهما، هل سمعتِ يومًا عن سمكة دخلت في الجن أو عن نجمة سقطت على رأس إنسان ليصير أبو لمعة؟!
ضحكت صفية ضحكة ضيقت عينيها الضيقتين أصلاً، ثم أخبرت “س” سرها ، وهو أنها ملبوسة من جن كافر، يريد منها أن تتحرر من عذريتها وهي لا تقوى على مقاومته، وأنها تأتي إلى مقهى «الحرية» لتشرب حتى التوهان وتأخذ معها عابر سبيل لتخلص من عذاب الشق المغلق، ورغم حرصها اليومي على ذلك، فإنها عندما تسكر تقاوم، ورغم الإغواء الشديد المتجلي من جسدها وعينيها وانجذاب الرجال إليها، فإنها تهرب جريًا في الشارع كالمجاذيب. سألتها إن كان بإمكانها تخليصها من عفريت الرغبة المختبئ في أحشائها، قالت لها ارحميني وارحمي نفسك واتركيني لحالي، أنا لا أصدق بالمسّ.
اكتسبَت صفية تعاطف الجميع، فهي بلا مأوًى ولا سند أو منقذ، اجتمع أصدقاؤها الطيبون في محاولة لإيجاد حل أمثل لمشكلتها، فتاة كهذه، في وجهها مسحة جمال قابلة للتألق، نحيفة جدًّا وطويلة، ولها شعر طويل يسهم في الإغراء وقت استغلاله، كيف سيمنع أصدقاؤها الطيبون فتيل القنبلة من الاشتعال، زاد همهم بها وهي تبدأ باختلاس النظرات إلى الشباب العابرين، وسلفة السجائر الفرط من الرجال، لم تفكر أن تجلس إلى الطيبين المهمومين بها، تركتهم يفكرون لها، وذهبت إلى الإسكندرية مع بعض الشباب في محاولة للبحث عمن يخلصها من حزنها.
عادت رافضة مساعداتهم الفقيرة، وقبلت مساعدة أيادٍ تقبل على الاحتضان.
تلك البراءة والطفولة في عينها، كيف تجاهلتها ولم تكترث لسيرها وراء مشاعر طفولية مخيفة؟! فالأطفال يعشقون إيذاء أنفسهم... لذلك يراقبهم الكبار بشدة.
-2-
يراقبون صفية الفنانة الشابة، التى سافرت حول العالم فى دراسة التمثيل «clown» كيف ستقوم تلك الهاربة من بلدتها الريفية بدورها على المسرح، وقتما هربت «صفية» تركت خلفها بعض الكلمات المبعثرة في أرجاء المكان، تذكرهم بمن كانت هنا، فمن يذهب سيجد عمرًا مضى بأيامه محفورًا على جدار المكان، هجرته ولم يكن هجر الغدر، فالغدر لا تبقى معه ذكرى، تركت خلفها قصاصات هنا وهناك توضح لمن لا يعرف من كانت ولماذا هجرت، فلها مع كل جمع حكاية مؤثرة عن هروبها.
عندما جاءت صفية إلى ذلك المقهى بحثًا عن الحرية، كان كل ما يشغلها أن تنسى الماضي المؤلم الذي عاشته، تنسى الطوب اللبن المبني به بيتها وجلباب أمها المتسخ من جلوسها أمام فرن الخبيز، ومشهدإخوتها الصغار المهملين ولعبهم في فناء الدار.
أطلقت صفية شعرها الأسود بغجرية وعلَّت صوتها بميوعة الإغواء، لاتلقي باللوم علىطريق خال من الإشارات، ولا على سيارة لا تجيد الإلتزام بالإيحاءات، وتلقي باللوم على خطواتها التي لا تعرف كيف تدير موتور الأقدام التعبة ولا تجيد إصلاحه، ظلت تقضي أيامها ولياليها على غير رغبة في هذا الطريق، ولم تقصد أن تهين استقرارها الشفاف.
أصبحت مشاعًا متاحًا، لكل من يريد أن يجرب جسد وعقل فتاة الريف الحرة. صارت أكثر جرأة، وفي هذه الملابس التي ترتديها في الصيف في أي مكان إعلان صريح عن حريتها، لتنادي كل مستثقف خبير ليقترب منها، ويترك ختمًا خاصًا به على صك حريتها المزعوم، ستكتشف بعد سنوات قليلة أنها خُدِعَت كثيرًا بهذا الوهم، ستعاود الحديث عن الريف وأهميته، وعن حنان أمها المفقود، وعن كل الأشياء التي ستحاول أن تجعلها تبدو كالفلكلور الخاص ببيتها هي فقط.
ليتها كانت كبيرة بالقدر المنقذ لها من مصير اعتقالها بمنزل ارتدى فجأة جلبابًا متشددًا، يرفض تمثيلها المسرحي، بعدما وافق يومًا على أن تسافر إلى باريس في ورشة تمثيل باهرة، خرجت منها «clown» محترف، وبمجرد عودتها، استقبلها زملاؤها المسرحيون بحفاوة آملين فيها خيرًا لتغير صورة المهرج عند الناس بما تعلمته هناك، ولكنها فوجئت بتغير أهلها، فقد حبسوها، ولكن المخرج العبقري الذي أراد بشدة أن تعمل معه، قرر أن يتزوجها لتؤدي الدور الذي يريدها فيه، وذهب لخطبتها، استقبله الأهل في صالون ليس مذهبًا بالطبع، رفض أهله تلك العائلة التي يبدو عليها الخبل الرسمي، فقد دخلت هي مرتدية ملابس تشبه الساري الهندي، وجلس أخوها وأبوها متربصين لأهل المخرج الشاب، يسألان عن أشياء غريبة، وأمها أخذت تتحدث عن عفريت المسرح الذي ركب البنت وأنها تنوي أن تخرجه منها عن قريب.
خرج المخرج بعائلته جريًا على السلالم ولم يعودوا أبدًا، بعدها تحولت لأداء دور المهرج على أرض الواقع، فمرة تتزوج وتنتقب، وأخرى تهرب للزواج بمسيحي، تعود فيحبسونها داخل غرفة فوق سطح البيت، تهرب مرة أخرى، تعود إلى مقهى آخرليستغلونها قليلاً، تعود بمزاجها إلى البيت، يحبسونها مرة أخرى، تتمرد، تقرر حلق رأسها والنزول من البيت وهي ترتدي الجينز والبلوزة المفتوحة، يأخذونها بهدوء إلى مستشفى العباسية، تقضي أيامها هناك بهدوء، يعتقدون أنها شفيت، كما اعتقدوا تمامًا أنها مريضة، يحبسونها للمرة العشرين، تهرب للمرة الثلاثين، ومازالت وسط البلد تتحدث كلما رأتها عن كيف أن هذه البنت المجنونة كانت ستصبح ممثلة مسرحية كبيرة، متخصصة في أداء دور الـ»clown» ببراعة.
ورغم اختفائها إلا أن “س” تعرف أن لصفية ظهور جديد حتمى ، لأن صفحة نهاية الحكاية مازالت معها وعليها ان تستعيدها ، فقد قرأت “س” فنجانا كانت قد تركته مقلوبا قبل اختفائها مباشرة ، وكتبت لها تفاصيل الفنجان وهاهى تنتظر ظهور «صفية» حتى تخبرها ،أن الطالع هذه المرة لن يكون بقسوة كل المرات السابقة ، وانها اخيرا ستنهى مآساتها .