عوالم عزة رشاد

شيرين أبو النجا
اخبار الأدب 26/07/2014


تعرفت علي كتابة عزة رشاد عبر رواية‮ "‬ذاكرة التيه‮" ‬التي صدرت عام‮ ‬2003‮ ‬من دار ميريت،‮ ‬وجاءت الرواية حينها وهي تحمل صوتاً‮ ‬متميزاً،‮ ‬خافتاً،‮ ‬لا يهمل اللغة،‮ ‬ويوظف التقنيات ببراعة ودون افتعال،‮ ‬ويمتع القارئ في رحلة ذاكرة الصوت السردي لسحر‮. ‬وبالرغم من أن الرواية تبدأ من النهاية،‮ ‬موشية بحيلة الذاكرة،‮ ‬إلا أنها تنجح في جذب القارئ وتوريطه بشكل كامل‮. ‬وكانت الشاعرة‮ ‬ملكة بدر صاحبة ديوان‮ "‬دون خسائر فادحة‮" ‬قد كتبت عن الرواية في عام‮ ‬2008‮ ‬تقول‮: "‬رواية تكتب القارئ بينما يقرأها،‮ ‬ومن الصعب جدا ألا تتلبس بأحد خواطرك،‮ ‬مشاعرك،‮ ‬بفكرة أو بمليون من الدائرة برأسك ليل نهار بين سطور هذه الرواية،‮ ‬فيما تقرأ ستشعر أن كل جملة تستحق أن تكتبها في كراسة اقتباساتك،‮ ‬ذلك أن عزة رشاد تنتقل بين المواقف بإحساسها قبل عقلها،‮ ‬وهي لا تصدر الحكمة كما يفعل بعض الكتاب‮...". ‬يكمن سر تلك الرواية في الجملة الأخيرة المُصاغة ببراعة،‮ "‬لا تصدر الحكمة‮"‬،‮ ‬بل هي تغوص في تيه الذاكرة‮. ‬والأصل في شكل الذاكرة هو التيه،‮ ‬وليس إتباع تلك الخطوط الطولية المنظمة الواضحة الحاسمة التي تعمد الذات الذكورية إلي توظيفها،‮ ‬ودارت حول هذه الإشكالية الكثير من الدراسات النقدية،‮ ‬أهمها ما قدمته الناقدة الأمريكية شاري بنستوك،‮ ‬التي أوضحت الفارق الجوهري بين الذات الذكورية والأنثوية في طرح السيرة الذاتية‮- ‬حيث الذاكرة المتشرذمة‮ ‬غير المتسقة هي السمة الرئيسية لذاكرة الكتابة النسوية‮. ‬يتسع عالم عزة رشاد في مجموعتها القصصية الثانية‮ (‬بعد‮ "‬أحب نورا‮...‬أكره نورهان‮" ‬عام‮ ‬2005‮)‬،‮ ‬وعنوانها‮ "‬نصف ضوء‮" (‬دار هفن،‮ ‬2010‮). ‬تحتوي المجموعة علي قسمين،‮ ‬الأول يحمل اسم المجموعة‮ "‬نصف ضوء‮"‬،‮ ‬والثاني عنوانه‮ "‬كانوا ولا يزالون‮". ‬إلا أن المجموعة بأكملها تنهل من شرعية العنوان الرئيسي‮ "‬نصف ضوء‮"‬،‮ ‬فأين إذن النصف الآخر؟ وكيف يمكن تجزئة الضوء،‮ ‬وهو أشعة لا يمكن السيطرة عليها،‮ ‬فهي تنفذ من أي مكان‮. ‬وفي حين سيطر الموت المباغت علي القسم الأول من المجموعة استنادا إلي المأثور الشعبي المتعلق بالموت المبكر،‮ ‬يكشف القسم الثاني عن مناطق العتمة في النفس‮. ‬فالشخصيات تمر بلحظة كشف مباغتة،‮ ‬لحظة إدراك ما كان معتما،‮ ‬وهي اللحظة التي تجعلها تري بوضح ما كانت عليه،‮ ‬ويكتمل الضوء‮. ‬
وفي العام الجاري‮- ‬2014‮- ‬صدر للكاتبة مجموعة قصصية من سلسلة أخبار اليوم بعنوان‮ "‬بنات أحلامي‮"‬،‮ ‬كتب لها الناقد والكاتب أحمد الخميسي مقدمة تستحقها الكاتبة بالفعل،‮ ‬ونبه فيها القارئ إلي مواطن القوة في كتابتها،‮ ‬إلا أنني أختلف معه‮- ‬وهو يعرف ذلك من خلال النقاش الممتع الذي أجريناه سويا علي صفحات هذه الجريدة منذ عدة سنوات‮- ‬في التعميم الذي أصدره فيما يتعلق بالكتابة النسوية،‮ ‬وعليه فقد قام بنفي‮ "‬تهمة‮" ‬هذا التوجه عن كتابة عزة رشاد‮. ‬وتأتي المفارقة عندما أُعلن في هذا المقال أن عزة رشاد هي من القلائل في مصر اللواتي تمكن من تقديم كتابة نسوية تحمل قدرا كبيرا من النضج والتأمل‮. ‬أما ما هي الكتابة النسوية‮ (‬السؤال الذي يطرحه الجميع من باب الهجوم ليس إلا فهو يستحق من سائله الكثير من البحث،‮ ‬والتجربة والخطأ والتردد والتراكم حتي يُمكن تكوين رأي نقدي‮). ‬
‮ ‬يتسع عالم عزة رشاد في هذه المجموعة وتقدم بالفعل بنات أحلامها‮ (‬وليس أفكارها‮)‬،‮ ‬فتُعيد التنقيب في الفكرة الأثيرة لديها‮: ‬الموت،‮ ‬بتجلياته المختلفة‮. ‬ويبدو أن فكرة الموت،‮ ‬سواء جاءت في شكل الغياب،‮ ‬أو الفقد،‮ ‬أو الخسارة،‮ ‬أو الموت المباشر،‮ ‬لا تنفصل بأي حال عن رمز الأم،‮ ‬فجاءت القصة الأولي قوية وواضحة في مزج كل المشاعر‮ (‬الأم،‮ ‬الغيرة،‮ ‬الطلاق،‮ ‬الزواج،‮ ‬موت الروابط‮) ‬ليتحول الأمر إلي‮ "‬الياسمين الشائك‮"‬،‮ ‬وهي مفارقة مستحيلة‮. ‬اشتغلت عزة رشاد في هذه المجموعة علي تقنية الإبهام،‮ ‬ذاك الخط الفاصل بين الحلم والصحو،‮ ‬وما هو بحلم وما هو بيقظة،‮ ‬وهي اللحظة التي تُسير دفة السرد وترسم عالم الشخصيات التي يقبع معظمها في نصف ضوء وفي محاولة لترميم الأحلام‮. ‬تبدو القصص كلها متجانسة في خفوت الصوت،‮ ‬التيه،‮ ‬محاولة الفهم،‮ ‬عناء المرور بالكابوس ومحاولة الإمساك به،‮ ‬إلا أن قصة‮ "‬غزوة الأزرق‮" ‬تبدو في طرافتها مختلفة في اللون والأسلوب عن بقية المجموعة‮. ‬
‮ ‬تُتوج عزة رشاد عالمها برواية صدرت هذا العام أيضا عن الكتب خان وعنوانها‮ "‬شجرة اللبخ‮". ‬العالم الذي نسجته سحر في رواية‮ "‬ذاكرة التيه‮" ‬اتسع كثيرا في شجرة اللبخ ليضم أكثر من صوت في أسرة ممتدة،‮ ‬مُصورا البيئة المحيطة في درب السوالمة،‮ ‬في النصف الأول من القرن العشرين‮. ‬في حين تقل درجة الإبهام يزداد اشتغال عزة رشاد علي المعتقد الشعبي،‮ ‬مستغلة بذلك الفترة الزمنية في القرية كمكان للحدث الرئيسي،‮ ‬بالرغم من تنقل رضوان بك بين الدرب والقاهرة‮ (‬التي يموت فيها‮). ‬ومن حادث مبني علي المعتقد الشعبي‮ "‬النعش طار‮"‬،‮ ‬تبدأ الكاتبة من النهاية‮ (‬مثل ذاكرة التيه‮)‬،‮ ‬وهي لحظة تلقي العزاء في رضوان بك‮. ‬وإن كانت هي النهاية الأولي،‮ ‬لأن النهاية الثانية تأتي في الخاتمة بصوت لم يعش كل الأحداث بل سمعها وهي تنتقل من جيل لجيل فيتحول درب السوالمة ورضوان بك إلي حكاية شفوية متعددة الطبعات‮. ‬وكأن لحظة تلقي العزاء هي اللحظة التي تجبر ذاكرة كل الشخصيات علي اجترار ما وقع،‮ ‬ليكشف العالم الروائي عن الرؤية الثاقبة لإشكالية الطبقة،‮ ‬الصعود الطبقي‮ (‬سعاد‮)‬،‮ ‬سلطة الطبقة والعرق‮ (‬صافيناز‮)‬،‮ ‬الخضوع للطبقة‮ (‬فارس‮)‬،‮ ‬احتقار الطبقة‮ (‬قدرية‮)‬،‮ ‬رفض الطبقة‮ (‬جميلة‮)‬،‮ ‬الاحتماء بالطبقة‮ (‬شفاعة‮)‬،‮ ‬قوة الطبقة‮ (‬رضوان‮)‬،‮ ‬الحراك الطبقي‮ (‬متولي وليلي‮). ‬تتداخل سياسات الهوية بين الفلاحين من ناحية ووضع رضوان بك البلبيسي من ناحية أخري،‮ ‬وتتوارث العداوات،‮ ‬فيتحول ابن مبارز إلي عفريت،‮ ‬ويتحول متولي إلي أراجوز يقاوم الاحتلال بالسخرية،‮ ‬ويتحول حسنين إلي متواطئ يؤكد للجميع أن نعش البك طار واستقر تحت شجرة اللبخ،‮ ‬لكن الرائحة تفوح ولا تذهب مطلقا،‮ ‬وتبقي الشيء الأكيد الوحيد الباقي من الحكاية بأكملها‮. ‬تنسج عزة رشاد عالمها الروائي والقصصي بهدوء شديد،‮ ‬يسحبك السرد إلي عالم يكمن هناك خارج العاصمة والمركز،‮ ‬عالم لا يقدر علي سرده إلا عين متأملة،‮ "‬لا تصدر الحكمة‮". ‬