حول رواية جميل عطية ابراهيم المسألة الهمجية

محنة الانسان التاريخي في حقبة خرافة نهاية التاريخ

جريدة القدس اللندنية - 2004/02/05

بقلم : فتحي أبو رفيعة

جميل عطية ابراهيم في المسألة الهمجية

هل أصبح العالم مكانا تستعصي الحياة فيه؟ هل أصبحت الغلبة للأقوي ولم يعد للضعفاء أن يرثوا الأرض التي وعدوا بها؟ هل سادت أفكار العولمة والحداثة ونهاية التاريخ حتي قبل أن يتوصل الناس إلي حد أدني من توافق الآراء حول معانيها وكنهها؟ وهل أصابت الفوضي تاريخ العالم فبشر بعضهم، أو أنذر، بنهايته، وأصبحت المجازر البشرية، وحروب الإبادة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والاستنساخ، والهندسة الوراثية، وبطش القوي الكولونيالية الجديدة، ونهب الثروات الوطنية (حتي علي يد الوطنيين أنفسهم)، وهدم قيم الماضي، هل أصبح كل ذلك سمة من سمات الألفية الجديدة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو السبيل إلي الخلاص؟ هل يكون ذلك بالتشبث بالماضي وصونه والبناء عليه، أم بالتخلص منه والعودة إلي حالة بدائية، ولو كان ذلك من خلال طقس طوطمي ووهمي يتخذ شكلا من أشكال الخرافات والميثولوجيا التاريخية من قبيل حرق الآثار أو إلقائها في اليمّ درءا لما يمكن أن يحل به وجودها من كوارث، أو طلبا لما يمكن أن يجود به التخلص منها من نعيم وازدهار؟ تعكس هذه التساؤلات بعضا مما تغص به صفحات المسألة الهمجية ، أحدث أعمال الروائي المرموق جميل عطية ابراهيم، التي صدرت مؤخرا عن دار ميريت للنشر والمعلومات بالقاهرة. وتقدم الرواية، من خلال تجربة رومانسية ذاتية، رؤية فلسفية حداثية لواقع عالمي ومحلي مقبض ومستقبل بلا ملامح. وسيتأكد من جديد لقارئ المسألة الهمجية الطابع الذي يتسم به دائما البطل الرئيسي في مجمل أعمال جميل عطية، وهو البطل المثقل بهموم واقعه، المشتبك دائما مع تراثه وماضيه، سقراط الذي لا يكف عن طرح التساؤلات والافتراضات بحثا عن الحقيقة النهائية. والبطل الرئيسي في المسألة الهمجية هو نبيل سعيد، الباحث والمحقق في التراث والناشط في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان. يعيش نبيل سعيد في الخارج بصورة شبه دائمة. ويضطر إلي الحضور إلي القاهرة لاسترداد شقته التي استولي عليها صاحب العقار، والتي عُثر فيها علي جثة ابن صاحب العقار هذا مشنوقا. ويمكن اعتبار المسألة الهمجية بمثابة دفتر أحوال لهذه الزيارة التي ربما لم تستغرق سوي بضعة أسابيع لكنها كانت حافلة بالأحداث سواء علي المستوي الشخصي لبطل الرواية، أو علي مستوي التطورات السياسية في المنطقة، وكان أبرزها مذبحة جنين في الأرض المحتلة، وجهود التحقيق والإغاثة الدولية في وقت ضرب فيه العدو عرض الحائط بكل الأعراف والقوانين الدولية وخاصة اتفاقيات جنيف. وحينما يسأل بطل الرواية رئيس لجنة الصليب الأحمر الدولية عن وضعية الأرض المحتلة في ظل هذه الاتفاقات، يقول له إن شارون يعتبر الأراضي الفلسطينية أراض متنازع عليها ولا تخضع لهذه الاتفاقيات. هكذا ببساطة وضعت الأراضي المحتلة خارج نطاق الشرعية الدولية. لا قانون دوليا ولا أخلاقيا؟ بينما اتفاقيات جنيف هي آخر خطوط الدفاع لتنظيم همجية الإنسان ، يكون تعليق نبيل سعيد في القاهرة التي عمتها المظاهرات والإضرابات احتجاجا علي استمرار الاجتياح الهمجي الإسرائيلي. كانت أحداث جنين جانبا من المواجع التي ألمت بنبيل سعيد ووافق موعدها رحلته إلي القاهرة التي أتاها بقلب مفتوح، آملا في استعادة شقته المغتصبة من صاحب العقار الذي عُثر علي ابنه مشنوقا فيها. وكان هذا الابن، وهو عالم في الكيمائيات قد حول الشقة إلي معمل لتجارب إشعاعية ونووية خطيرة. وأدت التعديات التي قام بها إلي طمس آثار الشقة وتغطية جدرانها بجدران سميكة من الصلب، ووضع صنابير للمياه في غرفة المعيشة. باختصار، أصبحت شقة ملوثة بالنفايات الذرية والإشعاعات. أما لماذا وجد الابن مشنوقا، فالأب يبرر ذلك بأن ابنه قتلته معادلة رياضية مجردة فشل في حلها، فانتحر. وهذا بالطبع، في رأي نبيل سعيد، مجاف للملابسات الحقيقية وراء هذا الحادث. يسعي كمال الأغبر جاهدا إلي الحصول علي تنازل من نبيل سعيد عن الشقة. يستعين نبيل سعيد بمحاميه الذي ينصحه باللجوء إلي النيابة وعدم التنازل أو التعامل أساسا مع كمال الأغبر. ما أن تطأ قدما نبيل سعيد الشارع في أول يوم من أيام زيارته إلي القاهرة حتي تنطلق الأسئلة من رأسه في كل اتجاه: من أين يأتي كل هؤلاء الناس؟ هل هم راحلون أم عائدون؟ قضيتان تشغلاني: قضية شقتي المغتصبة التي تنظرها المحاكم منذ سبعة عشر عاما، وقضية أخري تتعلق بالمحكمة الجنائية في روما بشأن محاكمة مجرمي الحرب . هكذا تصور نبيل سعيد في أول يوم من أيام رحلته إلي الوطن قادما من غربة طويلة أجهدته. لكنه وجد في مكتب المحامي مفاجأة غيرت كل حساباته. يتعرف نبيل في مكتب المحامي علي سلمي مرجان، أستاذة جامعية شابة، كانت قد سمعت عنه من قبل وسمع عنها. تدعوه إلي فنجان قهوة. تمر عليهما الساعات في أحد المقاهي الأدبية. يدعوها إلي زيارة صديق فنان في نفس الحي، لا تمانع. تنطلق بينهما شرارة الألفة والقرب والمودة. وتبدأ قصة حب صاخبة ومثيرة بين المحقق الكهل وأستاذة الأدب، الشاعرة الشابة التي تصغره بأكثر من خمسة وعشرين عاما (أو بين المحقق والوردة ، وأظن أن هذا هو العنوان الذي فكر جميل في البداية، حسبما نشر، في إعطائه لهذه الرواية). وهكذا يتحدد المحوران الرئيسيان اللذان تدور حولهما أحداث المسألة الهمجية : محور نبيل/كمال الأغبر، ومحور نبيل/سلمي. يضاف إلي هذه الشخصيات الرئيسية الثلاث شخصية رئيسية أخري هي شخصية الرسام الذي استضاف نبيل وسلمي في يوم لقائهما الأول، والذي بدأ في رسم لوحة شخصية لسلمي. و المسألة الهمجية هي نتاج التفاعل بين هذه الشخصيات الرئيسية وشخصيات ثانوية أخري في ظروف واقع محلي ودولي متغير. ورغم التردد الذي اتسمت به العلاقة بين نبيل وسلمي من البداية بحكم اختلاف الأجيال والمفاهيم، إلا أنه مع الصفحات الأخيرة للرواية، ربما بفضل ما جمعهما من حوارات مستفيضة ومتعمقة ومن لقاءات صريحة وحميمية، نجدهما قد حققا التوافق الكامل عاطفيا وفكريا، حتي أن سلمي ترضخ في النهاية لمطالب نبيل الغريبة بأن يحرق الملابس التي كانت ترتديها قبل تاريخ معين (هو تاريخ لقائهما). وتسيطر عليه هذه الفكرة علي نحو دفع بالرواية إلي أن تتخذ شكلا من أشكال الواقعية السحرية التي تخلط الواقع بالخيال والخارق للطبيعة (شُغل غارثيا ماركيز، حسب تعليق سلمي مرجان في حوار مع نبيل سعيد). لكن الرواية، في جانبها الآخر، تنتهي دون حل للنزاع بين كمال الأغبر ونبيل سعيد. علي أن هذه الخطوط العريضة والبالغة التجريد والمكثفة قدر الإمكان لفحوي المسألة الهمجية هي مجرد إطار نظري للرواية، هو، في ظني، أبعد ما يكون عن فحواها الحقيقية والأبعاد الفعلية التي تتغياها. فـ المسألة الهمجية هي تجل آخر من تجليات جميل عطية إبراهيم التي لا سبيل إلي فهمها الفهم الصحيح ما لم ينظر إليها بالمعايير التي تحكم فكر جميل ومشروعه الأدبي المتماسك وعميق الدلالات. وبداية، لابد من التأكيد مرة أخري علي الطابع الفكري الذي يتسم به دائما البطل الرئيسي في كل أعمال جميل عطية. ويمكن القول بأن هذا البطل، في أعمال سابقة بقدر ما هو أيضا في المسألة الهمجية ، هو كائن تاريخي، أو ما يسمي في علم الإنسان homo historicus. ويعتبر فلاسفة علم الإنسان أن هذا الإنسان التاريخي هو وحده القادر علي تنظيم الفوضي التاريخية وتوضيحها، وأن الرؤية الإدراكية للماضي، التي هي من سمات الكائن أو الإنسان التاريخي، هي التي تضفي علي الإنسان العاقل صفة البشر، كما أن طبيعة الإنسان، بوصفه كائنا تاريخيا، هي التي تجعله قادرا علي تراكم المعرفة الجماعية التي ينطوي عليها الماضي. وهاهو جميل عطية يواصل في المسألة الهمجية ما دأب عليه في أعماله السابقة من تركيز علي قوة الأحداث التاريخية في العمل الروائي، أي أثر الحقيقة التاريخية علي الخيال الروائي، وجعل التاريخ دائما خلفية لتفكيره. و المسألة الهمجية حافلة بالأدلة علي هذا الربط التاريخي. فحينما يتحدث نبيل سعيد عن سلمي، لا يملك القارئ إلا أن يربط حديثه عنها بالحديث عن الوطن وواقعه ومستقبله: "ابتعدت الدكتورة سلمي عني، وجلست في ركن معتم من الصالة علي الأرض، وحيرتها ظاهرة، تتأمل جدران الشقة والأثاث والسجاد القديم. تربعت علي الأرض مثل فلاحة، وشغلت نفسها عني. تشبثت في جلستها بالأرض، وهي لا تكف عن لمس الأشياء، تبحث عن ركيزة لتستند إليها، تميل، تحرك رأسها وتمد يدها وتمسك بالأشياء. تناولت طرف سجادة، وأخذت تفحص العقد، قالت: سجاد قديم. قلت: من مجموعة نادرة، حصل عليها في الخمسينات كما أعتقد. كنت أظنها قد نسيت المسألة، لكنها كانت تفكر فيها. وهذا منطقي، ويتسق مع طبيعتها وشخصيتها، بالإضافة إلي أنه من المنطقي أن تفكر فيها، وبعمق أيضا، فالمرأة لم تعد تقف علي أرض صلبة. انهار عالم ظنته في البداية يخصها قبل أن تمسك به... أحسست بخوفها، ويبدو أنها لم تقو علي الوقوف فأسرعت بالجلوس علي الأرض. الكراسي لم تعد توفر لها الأمان. تجلس وتميل بفخذيها وتلمس بهما الأرض، تثبث فخذيها في الأرض لعلها تلتصق بها. كنت أعرف، وقلت: هل رأت سلمي شيئا بعد؟ (هل رأت سلمي شيئا بعد؟ سؤال لا تخفي دلالته). وإمعانا في وصفة الواقعية السحرية الغارثية، يركز جميل عطية في المسألة الهمجية علي لعبة رمان البلي، وهي كرات معدنية ذات استخدامات صناعية (وقد تكون كرات زجاجية يلعب بها الأطفال)، والتي يقوم الرسام ببعثرتها في الشقة، ويطلب إلي نبيل وسلمي جمعها، ليقوم الرسام ببعثرتها من جديد، إلي أن يكلَّ نبيل من المجهود الذي بذله في جمع الكرات، ويتساءل عن السبب وراء قيام الرسام بهذه اللعبة الغريبة. وحتي نهاية الرواية لا يقدم المؤلف تفسيرا لهذه اللعبة التي تبدو ضربا من المعاناة السيزيفية (نسبة إلي سيزيف الذي حكمت عليه الآلهة برفع كتلة من الحجارة إلي قمة جبل، وما أن تصل إلي القمة حتي تنزلق إلي السفح من جديد، وتصبح معاناة سيزيف معاناة أزلية مع تدحرج حبات البلي في الغرف المغلقة، بدأت الدكتورة سلمي تتقلب وتغير موضعها ولا تهدأ في موضع ثابت. تقعد، تقوم، تقترب من النافذة ثم تبتعد عنها وتتربع علي الأرض. تسقط أٍشعة النهار الذهبية علي ملابسها، تتوهج ألوانها. يحترق قلبي . وبالطبع فإن لعبة الرمان بلي نفسها لعبة مجازية وتعبير عن القلق وعدم الاستقرار. تسأل سلمي نبيل سعيد وهي تتسمع دحرجة البلي في الشقة العتيقة: ألا تسمع شيئا؟ يكذب عليها قائلا: لا شيء. الشقة هادئة، أليس كذلك؟ تنظر إليه في توجس وجسدها ينتفض. تسدد إليه نظرات قاتلة. نبيل سعيد يكذب؟ قال مستسلما: نعم، أنا أكذب. قالت في غضب: لم نتفق علي الكذب. ألا تسمع ما أسمعه. أصبت بالصمم؟ طرشت فجأة؟ تعلقت بذراعي وأخذته في حضنها، قالت لا تخف. كنت لا أزال في حيرة من أمري ولم أعتذر لها عن سقطتي، وقررت أن أعتذر لها في وقت لاحق،عندما نفيق من هذا الكابوس . وهكذا، فإن هناك دائما في ثنايا النص نصا آخر، النص الثانوي أو التحتي الذي يصر عليه ديريدا. ومن خلال هذا التداخل النصي يربط المؤلف بين أحداث خاصة وأحداث عامة، بين الواقع الشخصي للراوي والواقع الأوسع نطاقا للوجود السياسي والاجتماعي حوله. وهاهي سلمي، التي رأينا البطل يحدثها في البداية وكأنه يخاطب وطنا مهددا وغير مستقر، تحمل هذه الصورة علي امتداد النص الثانوي. ومن خلال اللوحة التي يرسمها لها الفنان، صديق الراوي، تبدأ رحلة نهوضها وانبعاثها الجديد الذي يتوق إليه الراوي. رأيت بداية الرسم، وأود رؤية الولادة الحقيقية، فالساعات الأخيرة هي أعظم اللحظات حينما يحط الجمال علي اللوحة مع آخر ضربة للفرشاة، ويكتمل الخلق، وتكتسب اللوحة وجودها بعيدا عن الرسام . بل إن المفاوضات المضنية مع كمال بك الأغبر الذي اغتصب شقة الراوي تعكس مفرداتها وشخوصها دلالة تتعدي هذا النطاق الشخصي. ورغم أن محامي الراوي نصحه بعدم التفاوض معه، فقد قرر الراوي في النهاية التصالح مع هذا الأغبر، وربما التنازل عن الشقة، لكنه يلوم نفسه أحيانا علي تعامله مع هذا العدو قائلا إنه يقتلني بطريقة حديثة. رجل ليس من معارفي ومن أشد أعدائي، لماذا ألتقي به من أصله؟ أجلت البت في المسألة، فأنا لن أخسر أكثر مما خسرته، والوقت في صالحي، وأنا دوما أراهن علي القادم من الأيام . بطل المسألة الهمجية مغترب أزلي ، وهي التسمية التي اقترحت سلمي إطلاقها علي لوحة يرسمها له صديقه الفنان. وهذا الشعور الغائر بالغربة سيلازم البطل، والقارئ، علي صفحات الرواية من بدايتها إلي نهايتها. وسيسعي نبيل سعيد كثيرا إلي أن ينفض عن نفسه هذا الشعور المقبض، حتي وإن كان من خلال ابتسامة ودودة من بائعة فل عابرة: أخذتني مدينتي بالود، وفارقتني غربتي. تخلصت من قضاياي السخيفة والغريبة التي ترهقني مع كلمات سلمي وهي تقول: تعرفني منذ سنوات عديدة . وحينما يخلو نبيل سعيد إلي نفسه، ممسكا بوحدته ، علي حد تعبيره البالغ الشفافية، يشعر بتكلس الغربة في داخله، ويسعي إلي الانطلاق خارج هذا الأسر: حاضري يتسرب نقطة نقطة. يذوب كموج البحر علي شاطئ النسيان، ولا يتبقي لي سوي الماضي، وقد تسرب هو الآخر. في جنيف لم أصنع حاضرا لي. تركت نفسي لأيامي الماضية، بحثا عن القادم الذي تخيلته كنسمة الفجر الندية، وللأسف لم يأت ذلك القادم أبدا . ذهبت إلي المدينة القديمة أتلمس خيالاتي الضائعة في سراديب ذاكرتي. كنت طوال السنين أظن أنها في أمان في داخلي، ثم طحنتها أيامي. نفضت غبار الحذاء، وضربت حافة البنطلون، وجلست في مقهي حقير في زقاق ضيق. طلبت الشاي الأخضر بعيدا عن المقهي الشهير في منطقة الحسين الذي تتردد عليه سلمي ورفاقها من المثقفين. جئت إلي منطقة الحسين المزدحمة أبحث عن ذاتي . لا تكف سلمي عن إثارته بين الحين والحين بقولها: جيل 67 لا يحق له الكلام في السياسة . يختلط الحديث عن اللوحة بالحديث عن الواقع العربي الراهن: الحصار مفروض علي عرفات وعلي الشعب الفلسطيني، عمليات إبادة علي نطاق واسع، جرائم حرب ترتكب في المدن والقري الفلسطينية، الصور علي شاشات التليفزيون وفي الصحف، الناس تحس بالهزيمة، والحكام العرب يتشاورون ويؤكدون رغبتهم في السلام مع شاورن. لم يتبق سوي القيء والسعال . يغرق نبيل سعيد في تأملاته: هي لوحة لم تكتمل: قدم وعين وسنة بيضاء. سلمي جمال وعقل راجح. لماذا أسقط الفنان بقية أجزاء الجسد؟ الجنين لم يكتمل. هي هجمة وحشية تأخذ دورتها قصرت أم طالت، وبعدها يتشكل الجنين وينزل من رحم الأيام. سنوات الستينات لم تكن كلها هزائم. نعم. قلت ذلك لنفسي وتضايقت. هو العجز العربي المحبط الذي يمنعني من الكلام. تأملت اللوحة عن قرب. خطوط خفية لم تتأكد ترسم مسارات إضاءة لم تبزغ. تفاءلت. لن تكون لوحة مقبضة . في ثنايا المسألة الهمجية سيطرب القارئ لحكايا المغترب الأزلي التي يدسها بنعومة داخل النص. حكايات قصيرة ربما لا تستغرق فقرة أو فقرتين لكنها حكايات شجية وداعمة للجو النفسي القاتم الذي يعيشه نبيل سعيد، ولا بأس من الإشارة إلي واحدة فقط من تلك الحكايا: تعلم هانز فوجلي السباحة والجري وألعاب القوي وتخطي الحواجز والقفز فوق النيران وتسلق الجبال. تعلم كل ذلك من أجل البقاء معلقا في الجو. وسقط بطائرته علي أسلاك كهرباء الضغط العالي في سفح جبال مورين بعد حديثنا بأربع ساعات. بكيته. أعطاني قبل موته عنوانه وأرقام تليفوناته والفاكس وعنوان البريد الاليكتروني الخاص به. مدني بكل وسائل الاتصال به، وبعدها مات. مزقت الورقة عند وضع جثمانه في سيارة دفن الموتي. مزقت الورقة وشيعته إلي الأبد . حكايات سريعة أشبه بأحلام فترة النقاهة المحفوظية، ولا عجب فالرواية تتضمن مايشكل مداخلة بين المحقق والوردة عن نجيب محفوظ نفسه رأت فيها الباحثة الحديثة أن نجيب محفوظ أغلق الحارة علي حركة الأدب في الخمسين سنة الماضية بالضبة والمفتاح . لكن نبيل سعيد يري أن قولها عدوانيا وغريبا شديد الغرابة وأن عمنا نجيب محفوظ فتح أبواب الأدب وشق طرقا جديدة في السرد، وعلمنا قراءة الرواية الحديثة. ويتذكر نبيل سعيد، وهو هنا المؤلف نفسه، أنه قال ذات مرة إعجابا وليس نقدا، إنه حبيس حارة جدنا نجيب محفوظ. يقول جميل عطية إبراهيم علي لسان نبيل سعيد: لأن حاضري به الكثير من الدم المسفوك والماء الآسن، نظرت إلي قاع البئر أنبش عن جواهري وأبحث عن دعائم عمري، فقبضت علي الكثير من الصدف والرمال والدم المسفوك، والقليل من الجواهر . وفي الفصول الأخيرة من الرواية، يلقي جميل بشباكه في بحار عميقة ومترامية الأطراف ويشد قارئة إلي دوامة من الأحداث الاجتماعية بين المهمشين الذين يعيشون وسط المقابر، وحادث اغتصاب تعرضت له بائعة الفل التي تعرف عليها في بداية زيارته، ويغرق البطل في رؤي كابوسية تختلط فيها العناكب وقناديل البحر وكثبان الرمل والساعات المكسورة بدوي المدافع والقنابل النووية ونجمة داود. وعلي لسان نبيل سعيد أيضا ينقل جميل إلي القارئ جوانب من خلاصة رؤيته للأحداث والتاريخ، فهو يقول: التاريخ دوما ملبد بقليل من الحقائق وكثير من الأوهام، كل إضاءة تصنع ظلالها وتعيد تلوين الألوان، وتكشف عن الوجه الآخر من الواقع، تبينت أن كل مااعتقدت بكذبه في سابق أيامي كان صحيحا، وأن معظم أوهامي كانت حقائق، واختلطت أوراقي. في المسألة الهمجية تتحول سلمي إلي معادل موضوعي لوجود البطل وهويته، ولذلك فإنه يصر علي أن يصنع منها أسطورة كي تبقي ويكتب لها الخلود: علي يديها رأيت مولد الخرافة بيننا. لا بأس. اللعب بالكلمات ليس عيبا، وكل أٍسطورة لها وظيفة. سرت إلي جوارها مهموما وقد ثقلت مخاوفي وزادت عن قدرتي علي احتمال مكاره جديدة. ألوان ملابسها طلاسم وتعاويذ. وإذا أردت إنقاذها، لا بد من حرق ملابسها، ونزولها عارية في النيل لتغتسل. رفضت حرق هذه الملابس في الحمام أو في الشرفة، أو فوق السطوح. يجب حرق هذه الملابس في منطقة أثرية تليق بها. هذا حفل. لنصنع أسطورة القرن الحادي والعشرين علي طريقتنا . المسألة الهمجية بيان جديد للناس، يتجاوز المحلي إلي العالمي، ويحمل صفات المانيفستو الكوني، نسبة إلي الرؤية الكونية التي لا يمل جميل عطية إبراهيم الدعوة إليها والسعي إلي تطبيقها في أعماله. ولذلك فقد جاء هذا البيان جامعا ومكثفا كي يلم بكل الأنواء التي تواجهها البشرية في واقعها الراهن. ولأن هذا البيان وظف الأسطورة والخرافة أو اختبأ وراءهما، فقد جاء أيضا مراوغا وملتبسا. لكن اعتراف المؤلف بأن اللعب بالكلمات ليس عيبا، وكل أسطورة لها وظيفة هو المفتاح أو طوق النجاة الذي يلقي به إلي القارئ لفك أسرار هذا العمل العظيم والاستمتاع به.