ليلة في حياة عبد التواب توتو

 اخبار الادب - 23 نوفمبر 2003

انتهيت في الفترة الأخيرة من قراءة روايتين تبلغ عدد صفحات كل منهما خمسمائة صفحة . الأولى " أمري كان لي " لصنع الله إبراهيم وهي بحاجة لنقاش طويل ، والثانية هي " ليلة في حياة عبد التواب توتو " لمحمد توفيق . وكتبت بالفعل مقالا عن رواية " أمرى كان لي " – قبل أن يتخذ صنع الله موقفه الأخير الذي أثار ردود أفعال مختلفة ، ولكني مازلت أؤجل نشره لكي لا تحسب أية ملاحظة أدبية في سياق موقف سياسي أو آخر . وهكذا أمسكت برواية محمد توفيق " ليلة في حياة عبد التواب توتو " ، روايته الأولى الصادرة عام 97 ، وكنت أظن أن قراءة رواية تتجاوز الخمسمائة صفحة أمر مستحيل في وقتنا ، لكني لم أستطع أن أترك الرواية إلا بعد أن انتهيت منها . روايته الجديدة " حكاية طفل اسمه عنتر " صدرت هذا العام عن دار ميريت وهي التي ساقتني للبحث عن أعماله السابقة حين أدركت بفضلها أنني أمام روائي كبير لا تدرجه خريطة الرواية المصرية الحديثة في مواقعها الظاهرة .

تمثل الرواية الأولى " ليلة في حياة عبد التواب توتو " الأساس الفني والفكري للعمل اللاحق لنفس الكاتب " حكاية طفل اسمه عنتر " . فيها سنجد اهتمام الكاتب بما وراء الطبيعة الذي يجسده الباشا الباحث عن أسرار العالم المجهول وسط المخطوطات القديمة دون أن يصل إلي شيء . ويمتد هذا الخط ذاته في الرواية الثانية في البحث عن السر وراء الظواهر الخارقة ، والتأمل في نهاية الجنس البشري .

وفي " ليلة في حياة .. " سنجد شخصيتين هما : " المخيخ " ، و " عبد التواب توتو " اللتين تبرزان لاحقا في " حكاية طفل " . بل وسنجد أننا تقريبا نتابع تطور هاتين الشخصيتين . ذلك أن المخيخ الذي كان مجرد شاب عبقري في الرواية الأولى يصبح في الرواية الثانية عالما فذا ، و " توتو" الذي بدأ من قبل مجرد رجل أعمال يغدو من كبار الأثرياء . ولا يقتصر استمرار الرواية الأولى في الثانية على ذلك الجانب وحده. ففي روايته الأولى الرائعة يعرض محمد توفيق لتاريخ المجتمع المصري بدءا من عصر الملك والباشوات ، إلي الناصرية ، ثم انفتاح السادات ، وانتشار الإرهاب المقنع بالدين ، وهزيمة جيل السبعينات ، والانكسار الذي أصاب أحلامه فجعل من فتاة مثل ليلى تهجر أسرتها وراء " أمراء الجماعات " ، بينما يغرق عبد التواب نفسه في البحث عن الثروة بكل السبل فيخسر ذاته وأحلامه كلها .

وبذلك تشكل الروايتين – تقريبا – ثنائية ، أو عملا واحدا مستمرا ، حتى على مستوى المعالجة الفنية والرؤية . ففي " ليلة في حياة .. " تبدأ الرواية ببحث الباشا عن المجهول ، وهي ذات البداية التي تبدأ بها الرواية الثانية حينما يفاجئ المارة في الميدان بسقوط الأثاث من إحدى الشقق الشاغرة إلي الشارع بفعل قوة مجهولة .

وفي الحالتين يترك محمد توفيق السؤال معلقا مفتوحا .. ما هي طبيعة تلك القوى ؟

كيف تمارس عملها ؟ هل يمكن اكتشافها أم لا ؟ . هناك أيضا ذلك التناول للزمن في الروايتين ، إذ يهجر محمد توفيق التتابع الزمني بمعناه المنطقي ، ليأخذ كتلة كبيرة من الزمن ويمزقها في مواضع عديدة منتقلا من مكان لآخر ، وعائدا من جديد إلي نفس الشريحة السابقة . وفي ليلة واحدة من حياة عبد التواب توتو أمام شاطئ البحر يعرض المؤلف لتاريخ مصر تقريبا منذ ما قبل قيام الثورة إلي الانفتاح ، ويواصل عرضه ذلك في روايته الثانية . ولا يمكن لمن يقرأ تلك الرواية أن تخرج من ذاكرته شخصيات مثل نبيهة أبو الغيط ، أو والدها ، أو الباشا ، أو شخصية صافي ناز هانم صاحبة الصالون الأدبي ، أو عبد القوى الضابط الذي صعد في عهد الثورة ، ثم ألقت به إلي أسفل السافلين . مرة أخرى ، يقدم محمد توفيق بانوراما مذهلة ، ومحكمة ، وممتعة لعصر كامل ، ومرة أخرى تغلب عليه نبرة المرارة . وثمة لوحات مدهشة لشريحة من شباب جيل عاش في شقة أطلقوا عليها " المنطاد " ، مرسومة بدقة وتمكن رفيع . إلا أن الكاتب في محاولته للنفاذ إلي النماذج السياسية المختلفة ، لم ير في تاريخ اليسار سوى تلك النماذج التي عاشت التناقض الشديد بين أقوالها وأفعالها وليست إيناس طه في روايته الأولى " ليلة من حياة .. " سوى بذرة شخصية كرم نافع في روايته الثانية . الاثنان كانا من اليساريين الثوريين ثم تخليا عن كل شئ وانهمكا في استثمار التاريخ القديم للانتفاع بمشاريع حقوق الإنسان والتطبيع . ولكن الرواية " ليلة في حياة عبد التواب توتو " تظل عملا ممتعا ، وقادرا على البقاء طويلا كعمل فني محكم ورائع يستحق أن يشغل بجدارة موقعا بارزا على خريطة الرواية المصرية الحديثة .