! وجهان سيئان للعملة ذاتها

" إذا أردت أن تسعد الآخرين، فاشفق بهم؛
وإن أردت أن تسعد نفسك، فاشفق عليهــا ! ".

- الدالاي لامــا الرابع عشر -

يعيش معنا في العالم، الآن، حوالي 780 مليون إنسان، في مسغبة؛ بينهم أربعون مليوناً، في قارة أفريقيا وحدها، يحيون في ظروف المجاعة، فعلاً. ومن المفارقات المثيرة للاستغراب، أن من يمتلكون الموارد المالية والمقدرة على مواجهة مثل هذه الأحوال المؤسفة، يعانون – هم أنفسهم – أعراض ( الوجه الآخر ) للمشكلة، فيموتون مستسلمين لمجموعة من الأمراض، لم تكن تصيب، في زمنٍ مضى، إلاَّ ( زبدة ) المجتمعات، من الأرستقراطيين، ذوي الأيدي الناعمة.

والمؤسف، أيضاً، أن أعراض الجوع تتبدى، أوضح ما تكون، على الأطفال؛ وثمة أكثر من 153 مليون طفل في العالم، يكابدون الجوع الحاد، ويموت منهم 6 مليون ضحية، كل سنة، جوعـــاً.

ومن سخرية الأقدار، أن إنتاج العالم من الغذاء وفير، ويكفي لإمداد كل فرد يعيش على سطح هذا الكوكب بمقدار من السعرات الحرارية يصل إلى 3 آلاف كيلو كالوري، باليوم الواحد؛ وهي كمية من الطاقة كافية تماماً لأن يعيش عليها الإنسان. ولكــن .. وآهٍ من هذا الاستدراك، لا يملك سُـــدسُ سكان العالم ثمن طعامهم، إذ أن دخل الفرد منهم لا يزيد عن دولار واحد باليوم، وهذا رقم أدنى بكثير من أن يوفر الاحتياجات الضرورية من الغذاء. إن هؤلاء، الذين يقترب عددهم من البليون، هم فقراء العالم، الذين لا مكان لهم، في عالم مغرم بتصنيــف كل شيئ، بما في ذلك البشر، والطعام الذي يأكلونه، والماء الذي يشربون.

إن هذه ( السلع الضرورية ) تذهب، فقط، لمن يملكون طلبها؛ والملاحظ – أيضاً – أن معظم سكان العالم الذين يداهمهم الموت المبكر، كانوا – فيما مضى – يموتون بسبب مجموعة من الأمراض، يمكن أن نطلق عليها اسم " أمراض الاتصــال "؛ غير أن طبيعة تلك الأمراض، التي تقصف أعمارهم مبكراً، قد تبدلت، في العقد الأخير – على الأقل – وأصبحت أكثر التصاقاً بصفة ( عدم الاتصــال )، أو ( الانعزال ). ولقد كــانت هـــذه الأفكار تُطـرح دون أسانيد تدعمها، حتى أصدرت دار للنشر بولاية ماساشوسيتس الأمريكية، مؤخــراً، سلسلة من الكتب، عنوانها ( الأعباء العالمية للأمراض )، تعد بمثابة تقرير فلسفي عن أحوال العالم الصحية، يرصد ويحلل أعداد ومسببات الوفيات في العالم، على مدى سنوات العقد الأخير من القرن العشرين؛ وكان متوسط عدد الوفيات فيها 50 مليوناً، في السنة. وكانت الدراسة التحليلية لأسباب الوفيات في العالم أهم ما في هذه السلسلة الفريدة والمهمة من الكتب، التي ينوي القائمون عليها الاستمرار في نشرها، لتغطي أحوال العالم الصحية، المرتبطة بالسلوكيات الغذائية والاجتماعية والبيئية، حتى عام 2020.

ومن النتائج ذات الدلالة، التي ترد في هذه السلسلة، التباين الواضح في نوعية الأمراض المميتة، التي تصيب كلاً من مواطني الدول المتقدمة، وسكان الدول الأقل تقدماً؛ ففي الأخيرة، تترتب قائمة الأمراض القاتلة كالتالي : إصابات الرئتين؛ وأمراض القلب؛ والإسهال المرتبط بمياه الشرب الملوثة؛ والسُـــل؛ والحصبة؛ والملاريا؛ بالإضافة إلى حوادث المرور. أما الأمراض المسببة للوفيات في بلدان العالم المتقدم، فالملاحظ أن نسبة كبيرة من حالات الإصابة بها تحدث في مراحل سنية مبكرة، وبالتالي تؤدي إلى خسائر كبيرة بين صغار السن، ويمكن وضعها جميعاً في قائمة ( أمراض الوفرة )، أو بالأحرى ( أمراض الإسراف )؛ وتبدأ بأمراض القلب، يليها سرطان الرئة، ثم سرطان القولون، ثم سرطان المستقيم، وسرطان المعدة؛ وتنتهي بحوادث الطرق، ثم مرض الســكَّـر. وهي، كلها، مرتبطة بمدخلات الجهاز الهضمي، أي بما يأكله البشر، وعلى نحو خاص، بالإفراط في تناول الغذاء البروتيني، والبروتينات الحيوانية على وجه التحديد، والإقبال الزائد على المواد السكرية. ويمكننا أن نقول إنها لصيقة بالسلوكيات البيئية غير الرشيدة، فالإسراف في هذه النوعيات من الطعام ( المتميز ) يعني مزيداً من الضغوط على موارده الطبيعية الحية؛ كما يمكن ترجمته إلى مزيد من المواد الملوثة للهواء والتربة والماء، تنبعث من، أو تتخلف عن، عمليات تصنيعه وتغليفه ونقله إلى مائدة المستهلك؛ وإلى مزيد من مخلفات المنزل – صلبة وعضوية – الناتجة عن هذا النمط الاستهلاكي؛ وهي كلها أعباء بيئية، لها تكلفتها العالية؛ إلا أن التكلفة الأعلى تتمثل في الخسائر البشرية، من ضحايا الأمراض التي تسببها تلك السلوكيات الغذائية غير الحكيمة.

وتوضح الإحصائيات أن تلك الظاهرة لم تعد قاصرة على دول العالم المتقدم، إذ يدخل في دائرتها نفرٌ من ( حديثي النعمة )، في الدول الفقيرة، تدفعهم الرغبة في تعويض سنوات الحرمان إلى الاستسلام لسلوكيات غذائية ليست من طبعهم، فينساقون إلى استهلاك مزيد من اللحوم، بكل ألوانها، ومن السكريات، ويدخنون بشراهة، ويعرفون الطريق إلى الكحوليات؛ وكلما ازداد غناهم، تصاعدت المــؤشــــــرات الـدالــــة على تزايد أعداد من يموتون منهم في ســـــن مبكرة، بسبب ( أمراض عدم الاتصال )، حتى أنها أصبحــت مساوية لنفس المعدلات في الدول الغنية.

وتؤدي النوبات القلبية، التي تهاجم أكلة اللحوم بالعالم المتقدم، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، إلى وفاة شخص واحد كل 45 ثانية !؛ كما تقول الإحصائيات أن 50% من الرجال الأمريكيين متوسطي الحال، يتعرضون للإصابة بهذه النوبات من وقت لآخر. والثابت طبياً أنه يمكن تفادي التعرض للنوبات القلبية، بنسبة 90%، إذا خلا الطعام من اللحوم ومنتجات الألبان والبيض. واللافــت للنظر، أن الإدارات الطبية في دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، لا تهتم بمراجعة الناس وتوجيههم فيما يخصُّ ارتباط نوعية طعامهم بالمشاكل الصحية التي يتعرضون لها، إذ لا يجد معظمُ الأمريكيين الأطباءَ القادرين على وصف نظام التغذية المناسب للوقاية من أمراض ( عدم الاتصال )؛ ولا غرابة في ذلك، فإن معظم مراكز التعليم الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية لا تشتمل مناهج الدراسة فيها على مقررات دراسية تهتم بأصول التغذية !.

لقد أصبحنــــا – عزيـــــزي القــــــارئ – نولي اهتماماً زائداً بأن تكون موائدنا ( عامرة )؛ ونقترب في سلوكياتنا الغذائية، كثيراً، من هذه الحدود المنذرة بالخطر؛ وقد كان المتعارف عليه بيننا أننا قومٌ لا نأكل حتى نجوع، فإذا أكلنا، لا نشبع. ولعل ما طرأ على سلوكياتنا الغذائية الأصيلة من تغيرات يفسر الرواج الذي تشهده عيادات القلب في بلادنا العربية .. فهل نمتلك القدرة والشجاعة على مراجعة أنفسنا، والتخلي عن أي سلوك يشوبه الإفراط ؟. لن يكون الأمر سهلاً؛ فإنك ستجد من يقول لك : انظر إلى آبائنا وأجدادنا، الذين عاشوا حتى التسعين أو تجاوزوها، وكانوا لا يمتنعون عن أي طعام، ولم يطلب منهم أحد أن يهجروا التدخين. لقد واجه كاتب هذه السطور مثل هذه المعارضة، وكان يرد عليها بأن المقارنة بين أحوالنا وحالة الآباء والأجداد لا تصــح؛ فقد كانوا متحركين، ويعملون أكثر منا، ولم تكن لديهم آلات تعمل بدلاً منهم، أو تغنيهم عن بذل الجهد، كما هو الحال معنا الآن؛ ثم إن طعام الأجداد كان أقرب إلى الطبيعة مما نأكله نحن من أطعمة تدخلت الآلات والكيماويات الحافظة في صنعها وإعدادها لنا.

عجيب أمر هذه المشكلة؛ مشكلة جوعى العالم، التي هي الوجه الآخر لمشكلة المتخمين بأكداس الطعام؛ وكلا الوجهين لا يســـرُّ !. والأعجــب، أن حلَّــها بسيط للغاية؛ فالأرض مستودع هائل للطعام، وفيه كفاية للجميع .. كل المطلوب، أن يقرَّ سكان هذا الكوكب بأن الحصـــول على الطعام حــقٌّ لهـــم جميعـــاً، وأنه ليس مجرد ( سلعة ) لا يقترب منها إلا من يملكون ثمن شرائها، ليأكلوا منها أكثر مما تطيقه طبيعة أجسامهم، فتتسبب في موتهم؛ بينما يموت – في الجانب الآخر – ســــغباً، من لا يملكون ثمن الشراء !