هايدغر بين الفلسفة والسياسة

 شخصيّة هايدغر هي شخصيّة غامضة ومُعقّدة ومتناقضة، وفلسفته أيضا تتسم بمثل صفاته: فتعقّد عباراته اللغوية وتعمّده الغموض ثم التناقض في أفكاره والإنقلابات في آرائه يمكن عدّها مِن بين ميزات شخصيّته وفلسفته على حدّ السّواء.

لقد جاء الرّجل إلى الفلسفة من دنيا اللاهوت، وقد كان في فترة من حياته مؤمنا ملتزما، على المستوى الديني، بتعاليم الكاثوليكية وقد مرّ بمراحل شاقّة أكثرها عوزه المادّي الشيء الذي جعله تحت رحمة مِنَح الجمعيات الخيريّة الكاثوليكية. أغدقت عليه وعلّقت به آمالها علّه يصبح مفكّرا كاثوليكيا مواليا للكنيسة الرومانية. لكنه في فترة لاحقة، بعد أن توطّد وثبّت قدميه في الجامعة وأصبح مدرّسا، أنقلب على أعقابه وأنكر الجميل وبدّل نِحْلته ودخل البروتستانتية.

في حياته الدراسية لم يكن من الطلبة المتألّقين، وقد تردّد في اختياراته الجامعية بين متابعة اللاهوت أو التوجّه نحو الفلسفة أو الرياضيات والعلوم الصحيحة. تابع دروس هوسّرل وأصبح مساعده في التعليم وعضده الأيمن، علّق به، هو أيضا، آمالا كبيرة وتمنّى أن يكون له خلفا ويواصل بحوثه ويقدّم بالفنمينولوجيا ويفتح لها آفاقا رحبة، لكنه خيّب آماله وانقلب عليه فكريّا، برفضه الفنمينولوجيا واشكالاتها ومناهجها؛ نَقدَه في كتابه الذي أهداه إياه، أي الوجود والزمان، واحتقره وازدراه شخصيّا وآذاه أشدّ الإيذاء[1].

دخل في صفوف الحزب النازي وهو حزب مَبنيّ على أسس عنصرية واضحة وجليّة (أقول واضحة وجليّة لكي لا يقدّم أي أحد، عاش تلك الفترة أو اطّلع على تاريخها وتاريخ صانعيها، أعذاره زاعما أنه لم يكن لأحد، في ذاك الوقت، أن يتوقّع المنعرج الذي ستأخذه الأحداث فيما بعد)؛ انزوى تحت رايته، تمسّك بتعاليمه، أعلى من شأن الثورة النازية ووصل به الأمر إلى حدّ تقديس قائدها، الشرّير الدموي، هتلر.

كان يرغب في التوزّر للحكومة النازية وكان مُتبعا لجميع تعاليمها ومُنساقا مع جميع تمظهراتها السياسية والثقافية (مِن حرق الكتب إلى واجب السلاح)؛ ألقى خطابا سياسيا في جامعة فرايبورغ (Freiburg)، حين تولى العِمادة، جمع فيه شتاتا من تخميناته الفلسفية وترجمها إلى لغة حربية ذات تعابير خطابية رنانة تهزّ الوجدان وتهيّج العاطفة ولكن في جوهرها سطحية ومُخزية لأنها تُخمد العقل وتذلّه وتحطّ بالفلسفة إلى أدنى درجات السطحية والخواء. أورد في ذاك الخطاب كلاما قوميّا حاقدا وتفاهات مُربكة لا تليق بصناعة الفلسفة العظيمة.

دَخل في مماحكات جدالية مع أقرانه الفلاسفة وتصرّف مع البعض منهم بعجرفة وبصلافة غير معتادة في المؤسّسات التعليمية؛ انجرّ مع التيار السائد دون أن يزن، بميزان العقل، العواقب والسلبيّات، لأن الرّجل لا يؤمن بالعقل ولا بالمنطق ولا بالإنسجام مع المبادئ لأن الرّجل عديم المبادئ.

أثنى على مقولة الصّراع  ودعا الطلبة والأساتذة إلى واجب العلم والسلاح والتخلّي عن التأمّل النظري البحت؛ حرّض السلطة النازية ضدّ زملائه المدرّسين وبعث بتقارير للجهات الرسميّة لا ينقصها شيىء عن رسائل الجواسيس، ضمّنها معلومات شخصية وتقييمات لتصرّفات أساتذة استشفّ فيهم معارضة النظام النازي.

بعد الحرب وبعد الكارثة الكبرى التي حلّت بجمع غفير من البشر في شتى أقطار الأرض، انزوى بالصمت، اتهم اللغة و الوجود بأنهما سببا اخفاقه وألقى باللائمة على ناقديه ووصفهم بضيق النظر وبأنهم لم يفهموا شيئا من فلسفته. لم يُِقدِم، ولو مرّة واحدة، على إدانة النازية ومجازرها ولا اعترف بأخطائه. بل إنه زوّر وغطّى وكذب وموّه بصورة مكشوفة وقدّم تعليلات واهية، الغرض من ورائها قلب التهم وتزويرالحقائق: إذ أنه من نازي مقتنع عنصري وعدوّ للسامية أصبح فجأة، وحينما دعت الحاجة، مِن دُعاة السّلام ومُنقضا لليهود ومُعارضا وناقدا للنازية[2].

كاتب هذه السطور لا يساوره شك في أن هايدغر كذب وخدع  وجرّ وراءه جمعا من المثقفين ردّدوا نفس تبريراته ودافعوا عنه بشتى الوسائل وقد أتعبهم الرجل وأضناهم إلى حدّ الهوس وأسالوا حبرا وما زالوا يسيلونه لا لشيء إلاّ لفتق فلسفته عن شخصيّته وابعاد تفكيره عن خياراته السياسية والبرهنة على أن فائض النظرية  يربو على الإلتزام السياسي الذي كان، على كلّ حال، ظرفيّا وهامشيا في نسقه الفكري .

وجاك درّدا هو من بين أولئك المفكّرين الذين أضنوا أنفسهم وأتعبوها، لتكلّفه الذبّ عن هايدغر والمدافعة عنه بشتى الوسائل.  وما فتئ الرّجل يعترف بدينه العظيم لهايدغر وقد عنون أحد كتبه "يد هايدغر"[3] La main de Heidegger). ودرّدا هذا مشهور بتفنّنه في ابتداع عناوين كتب ومقالات ناشزة وجدّ غريبة لا تطابق محتوياتها وهو أيضا مبرّز في تعذيب قارئه بثقل عباراته وبصعوبة المسك بجوهر أفكاره. وهذه التقنية التعبيرية مستمدّة  مباشرة من كتابات هايدغر وهي ارثه الأسلوبي الذي مرّره إلى مريديه مِن  المثقفين الفرنسيّين ومنه إلى المثقفين العرب الفرنكفونيّين[4].

فلسفة الوجود. آفاق مسدودة

مارتن هايدغر هو فيلسوف وجودي أو فيلسوف الوجود كما أكّد على ذلك دائما وفي كل موضع من مواضع فلسفته. وقد أعلن صراحة على أنّ الإشكالية المركزيّة في فلسفته هي اكتناه حقيقة الوجود ومعناه[5]. لقد ركز همّ فكره وغاية فلسفته للبحث عن تصور للوجود أصيل بعد أن وقع نسيانه من طرف الفلاسفة منذ إفلاطون حتى العهود الحديثة.

بيد أنّ الوجود الذي يتحدث عنه هايدغر ليس بمقولة منطقية ولا هو الرابطة الوجودية بين الموضوع والمحمول ولا حتى مقولة ميتافيزيقية كلاسيكية وإنما هو الوجود الذي يتحدد معناه من خلال ما أسماه هايدغر(Dasein) "الكائن هناك" أي، بعبارة أوضح، الوجود الإنساني الخاصّ والمتموقع في زمان مخصوص وفي مكان معيّن: علم الوجود تحوّل عنده من أنطولوجيا إلى أنثربولوجيا[6]. هذا ما تفطن إليه كثير من نقاده في ذلك الوقت ومن بينهم أستاذه هوسرل بعد أن قطع معه وأدرك جوهر أفكاره.

لكن هايدغر، بكلّ وثوق واعتداد بالنفس، اتّهم تراثا فلسفيا كاملا بأنه نسي اشكالية الوجود ولم يعتن بالتحقيق فيها، وتلك كانت أمّ الكوارث على الحضارة الغربيّة وعلى مصيرها. ومن ثمّ فقد آن الأوان، حسب زعمه، لفتح ذاك الملف من جديد ولإعادة إثارة تلك المسألة المركزية[7].

المُلفت للنظر أن مفهوما للوجود واضحا وقارّا، عند هايدغر، لا نعثر عليه أبدا. بل إنه عندما تكلم فيه أرجعه إلى ما أسماه أنطولوجيا وجودية وهي بالأساس تحليل لبعض أوضاع الوجود الإنساني وتصرفاته الحياتية أي إلى أمور نسبية وعرضية بالنسبة للوجود كمفهوم كلّي وشامل. فعلا، لا نعثر في تلك التحاليل التي أوردها في كتابه العمدة " الوجود والزمان"، إلاّ على مقولات من هذا القبيل: الوجود الأصيل والغير الأصيل، الوجود الإنساني كإمكانية ومشروع؛ الموجود الإنساني ككائن مقذوف به في العالم؛ الإستعداد للموت؛ الثرثرة اليومية وأشياء من هذا القبيل لا أكثر ولا أقل.

وأظن أن تركيز محور فلسفة ما على اشكالية الوجود، هكذا بإطلاق، وجعلها الأهم دون سواها من الإشكاليات الفلسفية، هو طريق لا مخرج له، وقد يؤدّي حتما إلى الكلل الفكري وإلى نوع من التكرار المملّ والمراوغة والتذبذب الذهني الشيء الذي قد يضعف من مصداقية الفيلسوف  وينسف من الأساس مشروعه النظري بكامله. وأعتقد أن شيئا من هذا القبيل قد حدث لهايدغر والدليل على ذلك أنه بعد الوجود والزمان (وحلّه الأنثروبولوجي)، حوّل وجهة نظره مرات عديدة: اتجه إلى موضوع التقنية، فشعر هولدرلن، فالثورة النازية، فنيتشه والعدمية وختمها بنداء للخروج من الفلسفة وطلب العون والخلاص من إله ما. هذه، حقيقة، خيبة أمل وسَير ضدّ التيار وضدّ ما كان ينتظره أي مُحب للفلسفة.

  ليست هذه خيبة الأمل الأولى أو الأخيرة، عند الولوج في خبايا فكر هايدغر وإدراك آثاره السلبية على الفكر الفلسفي وحتى على وجودها كفلسفة، بل إن الأمورعنده أخذت منعرجات خطيرة أشد حدّة  وفي بعض الأحيان وصلت إلى حدود البؤس الذهني.

        الفيلسوف الإيطالي جوفاني جنتيلي (Giovanni Gentile) هو فيلسوف الفاشية والمنظّر الرّسمي لها ومروّجها والمساهم في تجذيرها وفرضها على الساحة الثقافية في إيطاليا إثر الحرب العالمية الأولى؛  إيديولوجيا الفاشية تسعى إلى خلق إنسان جديد، الإنسان الفاشستي المتشبث بتراثه والمعتصم بقوميته والمجنّد نفسه للصراع وللحرب ولإعادة تحقيق مجد الإمبراطورية الرومانية في عصرها الأوّل والمطيع لأوامر القائد (Duce) التي تمثل قانونه ومثاله الأوحد.

هايدغر لم يكن الفيلسوف الرسمي للنازية، ( ذلك ما اضطلع به روزنبارغ "Rosenberg" المنظر الرسمي لتلك الإيديولوجيا)، بل هو فيلسوف مرتبط بالنازية ومقولاته الفلسفية تصبّ في تلك الإيديولوجيا، هذا إن لم تكن قد ساهمت فيها وجذّرتها حتى بعد انقضاء عهدها، إثر نهاية الحرب؛ الفرق بين جنتيلّي وهايدغر هو أن الأول احتفي بالثورة الفاشستية وسار مع تيارها ودعّمها وتسيّس لها وتقلد وزارتها، وكلّ ذلك كان بصفة مباشرة وعلنية. أمّا هايدغر فلم يحصل على أي منصب رسمي (عدا إدارة جامعة فرايبورغ، وهو منصب هامشي وغير محدّد)،  ولم يكن عنصرا من العناصر الفاعلة صاحبة القرار السياسي، (حتى وإن أراد ذلك  بقوّة وبإخلاص) في الحزب النازي الذي انتمى إليه رسميا.

لكن يجب الإعتراف بأن لا فرق هناك بين الإيديولوجيا الفاشية والإديولوجيا النازية ويبدو أن مشروعيهما السياسي والثقافي ينبعان من نفس النظرة للعالم (Weltanschauung). ولا فرق بين جنتيلي وهايدغر، على المستوى النظري، كلاهما سخّر عِلمه بالفلسفة لصالح إيديولوجيا لاإنسانية، عدوة للدّيموقراطية وللعقل وللتفكير الحرّ، ومُدمّرة لأسس التعايش السلمي بين البشر.

هايدغر استغل، إلى حد لا يطاق، تقنية التّورية اللغوية والتلاعب اللفظي، لتمرير خطابه السياسي وحتى الفلسفي، وهو في جوهره خطاب متهافت، من حيث المحتوى النظري، ولكنه جذّاب من جهة الإلغاز الشعري. وكثير من المفكرين والفلاسفة المعاصرين، بالأخص في العالم الفركفوني، وقعوا في شباك ألغازه اللغوية المستعصية وبدت في نظرهم دليلا على أصالة في التفكير لا تضاهى وعلى عمق نظري متميّز وفريد من نوعه. سارتر نفسه عبر عن ذلك حينما قال بأن هايدغر هو من بين أعظم فلاسفة العصر. ونيتشوية فوكو كان المحرك والسبب الأول فيها هو هايدغر.

لكن كل من غاص في فكر هايدغر وتعمّق في فلسفته مقلعا عن الإنبهار بلغته، فإنه لا بد من أن يطرح على نفسه هذا السؤال الأساسي والمبدئي: كيف يمكن لرجل، يُعدّ من أكبر فلاسفة القرن العشرين، أن يَنظمّ إلى الحزب النازي و أن ينخرط فيه، بل وأن  يلتلزم بجدّ وبحزم، سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي، بالتعبير عن " قيمه " والإعلاء من شأنه والدفاع عنه وتبريره؟

هل كان، كما صرح بذلك هو نفسه وثُلّة المدافعين عنه من أتباعه المُنصاعين، مِن غير الممكن أبدا التنبؤ بخطورة الثورة النازية وبمشروعها الرّجعي، حين بروزها في بدايتها الأولى؟ أم أنه كان على وعي من ذلك؟ اشكالية أخرى يطرحها الإرث الهايدغري ألا وهي: هل أن فلسفته تقود حتما إلى الإديولوجيا النازية، والتنظير لها فعلا، أو على الأقل إلى تبني أفكارها الأساسية، أم أنّ انتماءه إلى النازية، جاء كمجرّد خطأ في الحسبان و  كخيار سياسي ظرفي وعابر، لا يمس حياته النظرية "الثرية" والمتشعبة ولا يخدش جوهر فلسفته ككل؟

إذا تتبعنا فلسفة هايدغر وأطروحاته ومقولاته المبيتة وانتاجاته النظرية الصريحة، منذ عهد ما قبل الوجود والزمان (Sein und Zeit) حتى آخر حياته الفكرية،  مرورا أيضا بسيرته الشخصية والتزاماته السياسية، لا مَهرب من الإجابة على هذا السؤال الأخير بالإيجاب: فلسفة هايدغر وأفكاره ومفاهيمه، وبالجملة مساره النظري والتزاماته السياسية، إذا نظرنا إليها بعين ناقدة، تؤدي حتما إلى نفس النتيجة لأنها تنبع من نفس المصب.

الوجود والزمان نفسه لا يخلو من مقولات وأفكار لها ارتباط ما بالإيديولوجيا النازية أو تصُبّ فيها أو تُدعّمها؛ والأدهى أن الرجل قد أقر، في احدى فلتاته المعتادة، بذلك الترابط، واعترف صراحة بأن مقولة التاريخانية (Geschichtlichkeit)، مثلا، التي ربطها بالحياة الفعلية للدّازاين، هي إحدى المقولات التي بنى عليها التزامه بالحركة النازية وهي، بالإضافة إلى ذلك، تمثل عنصرا من العناصر المؤسسة في تلك الإيديولوجيا[8].

لكن دارس الفلسفة لا يملك إلاّ أن يتعجب أشد التعجب، من ذلك الإلتزام ، وأن يعي خطورة الفكر الهايدغري ككلّ، حينما ينزل من علياء النظرية ويباشر الخطابات السياسية الصّريحة لهايدغر وبعض أقواله التي ألقاها في مناسبات عديدة في الفترة التي أدار فيها الجامعة وتحمّس للثورة القومية الإشتراكية[9].

فخطاب العمادة، الذي ألقاه في سنة 1933 بجامعة فرايبورغ، هو من أوضح وأنقى خطابات هايدغر الملتزمة، وكخطاب سياسي ـ فلسفيي، قد يكون جديرا بأن يُقشّع بقايا الشكوك والتردّدات  من أذهان أتباعه ومناصريه.

لكن، على العكس من ذلك، يبدو أن أولئك الأنصار مُصرّون على عدم رؤية البداهة؛ وقد فعلوا ما في وسعهم، من تقنيات تأويلية ملتوية خالية من الروح النقدية ولكنها بالمقابل مشبّعة بروح المنافحة اليائسة والذب المتعمد، لتبرير ساحة الرجل وإخراج كلامه من معناه الأصلي وافراغه من محتواه السياسي الخطير بل، وفي بعض الأحيان، قلبت الموازين وعدّت  خطاباته السياسية، بمعنى ما، نقضا للنازية وتهجّما صريحا عليها في وقت غدت فيه الأصوات المعارضة نادرة جدّا وكف الفكر النقدي عن الوجود تماما.

لا يجب، حسب رأيي، أن نحمل كلام أولئك الأتباع المنصاعين على محمل الجدّ ولا أن نعوّل عليهم لطلب الحقيقة، بل إن نكرانهم الوقائع بهذه الصيغة الفجّة، لَدليل على تهافت في الفكر وتعنت وإصرار على المرور قدما في الجهة الخاطئة، لأنه يبدو أن  الإعتراف بتلك الحقائق قد يمس قناعاتهم الشخصية ويناقض تحزباتهم الإيديولوجية.

النصوص التي بين أيدينا تقي القارئ الحصيف الوقوع في فخ تلك التبريرات والتبسيطات المجحفة  والغريبة عن عقل الفيلسوف. يكفي أن نقرأها وأن نتمعنها حتى نعي خطورة الموقف الهايدغري: الرجل، في خطاب العمادة ـ الذي هو خطاب ضعيف في محتواه الفلسفي ـ  يردّد مقولات نابعة أساسا من صلب النازية ويزكيها معتبرا إياها حاملة لخلاص الأمة الألمانية ومروجة لقيم ومعايير أخلاقية وثقافية عليا تعود في جذورها إلى اليونان، حيث الإلتزام العملي الحربي والإلتزام النظري التأملي متوازيان لا يفترقان.

هذا الخطاب المشحون وجدانا والذي تنقصه أي معايير الكتابة الفلسفية هو في جوهره متماسك مع مسار تفكير هايدغر ويعبر عن تلك الثورة الرجعية المتطرفة والعنصرية، عدوة الحداثة والوضعية العلمية التي انساق ورائها منذ دخوله في معمعة الفلسفة. هذا المسار الذهني هو في الطرف المقابل لنقيضه، أي التيار اليساري الديموقراطي الداعي لرفع الإستغلال على الطبقة الشغيلة وإلى تكريس الأخوة  ونبذ الحروب وتجذير فكرة السلم الدائم بين شعوب العالم.

لقد اختار هايدغر لنفسه الطريق المناقض أي طريق الصراع والحرب والإعلاء من الشأن والقومية العنصرية الحاقدة والعداء للسامية، مُطوّعا صناعة الفلسفة العظيمة للتعبير عن تلك الأغراض، ومستغلا، لتحقيق ذلك، الآليات التي في حوزته وبالأخص منها الغموض اللغوي والخطابة.

المُهمّ هنا والمحير حقا هو أن الخيارات السياسية التي تبناها هايدغر والقاعدة الفكرية التي تؤسسها لم تصدر من مفكر في الأطراف، أي من صغار المفكرين الذين لا يحسب لهم حساب في الساحة النظرية إذاك، بل من فيلسوف كبيرـ اعترف به الجميع خلال حياته وبعد موته ـ واع بأهمية الفلسفة ومُطّلع على تاريخها واشكالاتها، ويبدو أنه قد نذر حياته لتلك المهمة: أي تدريس الفلسفة والكتابة فيها.

هذه هي النقطة الأكثر حرجا والمخيبة للآمال حقا في جميع مناحيها، وهي تمس بالأخص مهمّة المثقف في مُجمل فعاليته النظرية ودوره في المجتمع وصواب اختياره لأي جهة يجب أن يلتزم ويدعّم.

الفيلسوف يتميز بيقظة الفكر وبالنباهة ومن عادته التريث في الحكم والتثبت من الأشياء المعطاة أمامه ومن الأحداث الدّائرة حوله؛ عقل الفيلسوف هو عقل مُحصّن ذو بنية نظرية متينة ولا يمكن للأحداث العابرة أن تعبث به بسهولة: لأن اطّلاعه العميق على أنساق الأفكار وعلى الأحداث التاريخية وسِيَر الرجال، يتيح له اكتساب نظرة شاملة وعامة حول الإنسانية، ويقيه شرّ السقوط في خيارات متسرّعة ذات عواقب وخيمة.

لكن هايدغر، بإنتاجاته النظريّة وبتوجهاته السياسية وما أخلصت إليه مُجمل فلسفته، اختار، منذ البداية، منعرجا خطيرا، منعرجا يروج لإيديولوجيا الغلبة والقهر والعداء للعلم وللفلسفة ولكلية المبادئ الإنسانية؛ فلسفته هي فلسفة لاإنسانية بالأساس، لأن مقولاتها مبنيّة على قاعدة نظريّة معادية للإنسانية كمفهوم يشترك فيه كل البشر، وتسد الأبواب أمام أيّ فهم في هذا الإتجاه وهو لا يواري ذلك أبدا، لأن الرّجل لا يعترف إلاّ بالخصوصية القومية، ويُنظّرلمفهوم الفردية المكتفية بذاتها التي لا ترى  الخلاص والمجد إلاّ لشعب واحد، الشعب الذي تتجذر فيه الميتافيزيقا والإرث اليوناني أي: الشعب الألماني.

 

[1]  في مقالها " ما الفلسفة الوجودية؟ "، الذي نشر سنة 1946 في مجلّة (Partisan Review) وفي احدى الهوامش ذكرت حنّا آرندت ( Hannah Arendt) كيف أن هايدغر « منع هوسّرل، استاذه وصديقه، الذي ورث عنه كرسيّ الأستاذية، من التردّد على الكلّية لأنه كان يهوديّا ». وقد اعترض عليها الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرس ( Karl Jaspers ) قائلا بأن هذه المعلومة غير صحية وليست مطابقة للأحداث، وقد يكون من المحتمل جدّا أن هايدغر قد انصاع لأوامر منزّلة مِن أعلى، أي مِن قبل السلطات النازية التي فرضت بمرسوم وِزاري، على كلّ عميد، اتخاذ مثل تلك الإجراءات. وقد أجابت آرندت بأنه، إن كان الأمر على هذه الشاكلة، قد كان على هايدغر، بالأحرى، أن يقدّم استقالته عوضا أن ينصاع لتلك الأوامر وأضافت قائلة « وبما أنني أعلم أن ذاك المرسوم وذاك التوقيع قد أوديا بحياته [هوسّرل] لا يمكنني إلاّ أن أعتبر هايدغر مجرما بالقوّة».

ذكرته الكاتبة، إلزبييتا إتنغر في كتابها : حنا آرندت/ مارتن هايدغر المترجم من الإنجليزية إلى الإيطالية وقد استعملت هذه الترجمة الأخيرة بعنوان:

ELZBIETTA ETTINGER, Hannah Arendt/Martin Heidegger, una storia d’amore. Garzanti 1996, p. 63

 

[2]  المُدافع الأكثر ثبوتا في مواقفه  والذي أسال حبرا ومازال يسيله لتبرير هايدغر من أية تهمة تمس شخصيته وفلسفته هو الكاتب الفرنسي (François Fédier) الذي فاق كل الهايدغاريين شراسة وحزما وإن أدّاه ذلك إلى نكران الحقائق التاريخية أو إضعاف أثرها والتقليل من شأنها. وقد بين ذلك في عدّة مقالات غايتها تبريرية دفاعية وصلت إلى حدّ الوقاحة الفكرية. في احدى محاضراته وصل به الحدّ إلى القول بأن الفقرة العاشرة من الوجود والزمان يجب قراءتها على الأقلّ مرّة كلّ شهر، هذه ليست فقط عجرفة فكرية بل ازدراء واضح بمستمعيه واحتقار لقرّائه. يمكن الإطلاع على حوصلة لتلك التبريرات الواهية، في مقدّمة مطوّلة جدّا لكتاب نشر فيه خطابات هايدغر السياسية  للفترة الممتدّة ما بين 1933 و 1966.  المرجع أسفله، وكلام فيدييه جاء في الصفحات 21 ـ 125 والصفحات، 371 ـ 404  من الترجمة الإيطالية.

MARTIN HEIDEGGER, Politische Schriften, Vittorio Klostermann Frankfurt a. M.  Editions Gallimard, Paris 1995 - )trad. ital. Heidegger, Scritti Politici (1933 –1966) Prefazione, postfazione e note di François Fédier. Piemme, Alessandria 1998(

 

 

[3] الترجمة الإيطالية لـ

J. Derrida, Psyché. Invention de l'autre, Galilée, 1987. (La mano di Heidegger, a cura di G. Scibilia, Laterza Roma-Bari, 1991).

[4] ­في احدى مقالاتها تقصّ الكاتبة المصريّة نوال السعداوي ما حدث لها هي وزملائها الأساتذة وجمع غفير من الطلبة أثناء وبعد استماعها لمحاضرة ألقاها جاك درّدا، قائلة " في ربيع 1994 في جامعة ديوك الأمريكية بولاية نورث كارولينا جاءنا المفكّر الفرنسي المشهور في العالم «جاك ديريدا» ليلقي علينا محاضرة عن صراع الثقافات في عصر ما بعد الحداثة. يمكن القول دون مبالغة أن لغة المحاضر كانت معقدة شديدة التعقيد غامضة شديدة الغموض فلم يفهمها أحد من الأساتذة الكبار أو الصغار أو طلبة الجامعة وطالباتها. أحد زملائنا الأساتذة كان مُعارا من الأرجنتين أصابه احباط أو الشعور بالنقص أو الغباء فلم يملك الشجاعة ليسأل سؤالا واحدا أثناء المحاضرة. لكن بعض الأسئلة طرحت ولم تفعل إجابة جاك ديريدا شيئا سوى زيادة التعقيد والغموض. تلك الليلة رأى زميلنا الأرجنتيني وهو نائم كابوسا له أصابع جاك ديريدا تحوط عنقه وتخنقه. هبّ من النوم مفزوعا وهو يصيح: هذا إرهاب فكري!"  نوال السعداوي، قضايا المرأة والفكر والسياسة، مكتبة مدبولي، القاهرة 2002، ص، 221 ـ 222.

 

[5]  في رسالة بعث بها إلى الملتقى الفرنسي حول موضوع: الذاتية والتعالي، (Subjectivité et transcendance)، يعلن هايدغر ويؤكد على أن إشكالية فلسفته الأساسية تتركز حول مسألة الوجود التي لم يتطرق إليها أحد من قبله  وإن وقع البحث فيها فهو بالعرض.

أورِد في ما يلي نص الرسالة بالفرنسية ثم تعليق ج. فال (J. WAHL) عليها، (التشديد في النص الفرنسي من عندي):

Lettre de M. M. Heidegger 

Je vous remercie beaucoup pour votre aimable invitation à votre  conférence à laquelle je ne puis malheureusement pas assister à cause du travail du semestre en cours.

                Vos remarques critiques au sujet de la « philosophie de l’existence » sont très instructives. Je dois cependant redire que mes tendances philosophiques, bien qu’il soit question dans Sein und Zeit d’« Existenz » et de « Kierkegaard », ne peuvent pas être classées comme Existenzphilosophie. Mais cette erreur d’interprétation sera probablement difficile à écarter pour le moment.

                Je suis tout à fait d’accord avec vous pour dire que la « philosophie de l’existence » est exposée au double danger soit de tomber dans la théologie, soit de tomber dans l’abstraction.  Mais la question qui me préoccupe n’est pas celle de l’existence de l’homme ; c’est celle de l’être dans son ensemble et en tant que tel. Et Nietzsche non plus n’est pas un philosophe de l’existence, mais dans sa doctrine de la volonté et de l’éternel retour, il pose l’antique          et l’unique question de l’être. Mais la question qui est seule posée dans Sein und Zeit n’est aucunement traitée, ni par Kierkegaard, ni par Nietzsche, et Jaspers passe tout à fait à coté.

                Mais peut-être ces remarques sont-elles une esquisse trop générale pour éclaircir l’essentiel.

وهذا تعليق ج. فال على رسالة هايدغر، وأعتبره تعليقا صائبا ومتوازنا ولا يمكن إلا مصادقته:

Je suis heureux de pouvoir reproduire cette lettre. Il n’en reste pas moins que la philosophie de l’existence est pour Heidegger le point de départ nécessaire, si  ont veut constituer une philosophie de l’être. Je me demande aussi ce que sur l’être proprement dit Heidegger nous apporte. Il nous dit qu’il est le temps, avec ses trois moments, ses trois extases/ mais il est très difficile d’isoler sur ce point sa pensée sur l’être de ses éléments « existentiels », car ses trois extases se définissent par rapport à la Sorge. (Bulletin de la Société Française de Philosophie, T. XXXVII, 1937 p.193-94).  

                 

[6]  الجانب الأنثربولوجي لتحليلات هايدغر نعثر عليه بوضوح في الوجود والزمان: دراسة الوجود ككل تختار كمبدإ أوّلي للتحليل، موجود خاصّ ألا وهو الإنسان (Diese Seiende, das wir selbst je sind). الإنسان هو الموجود الوحيد الذي بمقدوره أن يتساءل عن معنى الوجود: وطرح الإشكال الأنطولوجي وحلّه، يفترض مسبقا، فحصا فينومينولوجيا لذاك الدازاين الذي يمثل المفتاح الأساسي لكلّ ميتافيزيقا. وهايدغر يؤكّد أن تحليل الدازاين ليس هدفا في ذاته، بل يمثل مدخلا لإرساء مقوّمات أنطولوجيا عامة للوجود.(Die Analytik des Daseins,...,soll die fundamentalontologische Problematik, die Frage nach dem Sinn von Sein überhaupt, vorbereiten) " تحليل الدازاين [الوجود الإنساني] ...تريد أن تكون بمثابة التهيئة، لإشكالية الأنطولوجيا الأساسية: مسألة معنى الوجود بصفة عامة". ولكن في نهاية المطاف، لا نعثر  إلاّ على هذا التحليل ولا ذكر للوجود بما هو وجود أو لأنطولوجيا عامّة.

MARTIN HEIDEGGER, Sein und Zeit, Max Niemeyer Verlag, Tübingen 2001, p, 183.

 من الأكيد أن هايدغر لم يحقق شيئا من مشروعه ذاك، لا نعثر عنده على الأنطولوجيا المعلن عنها والمبرمج لها. يقول بأن ذلك لم يكن متاحا له لأن الوجود والزمان كان مجرّد مدخل لذاك المبحث لا أكثر، لم يتم كتابة أجزائه التالية،  لأن الكلمات انعدمت للتعبير عن الوجود.  أعتقد، على عكس ذلك، أن الوجود والزمان هو كتاب مكتمل وموحّد، وحسب الطرح الهايدغاري فإنه لا يمكن أن يقول إلاّ ما قاله هناك، أما غياب الكلمات للتعبير عن الوجود، فإني لا أعتقد أبدا في جدّيتها ولا في أنها  سبب كاف يمكن أن تفسّر مأزق فلسفته.

 

[8] سنرى هذا بالتفصيل لاحقا.

[9]  في الرّابع والعشرين من شهر جوان 1933 وبمناسبة الإحتفال بدخول فصل الصيف، ألقى الفيلسوف هايدغر شعرا أمام مجموعة من الطلبة، هو أقرب إلى الهذيان منه إلى الشعر، وخاتمة القصيدة تبيّن الذهنية السائدة في ذاك الوقت والجوّ الذي تدور فيه مثل تلك المهازل، يقول  مبتهلا للنيران وللثورة النازية: « يا نار! كلّمينا: لا يجب عليك أن تصبحي عمياء في الصراع: يجب عليك أن تبقي لامعة [لغرض] الفعل. يا لهيب! فليعلمنا اضطرامك بجلاء: أن الثورة الألمانية لا تنام، أنها تنثر حولها وتضيئ السبيل، الذي ليس لنا بعده عودة [..]. أيتها اللهب، أشعّي: أيتها القلوب احترقي». ورد في:

MARTIN HEIDEGGER, Politische Schriften, Vittorio Klostermann Frankfurt a. M.  Editions Gallimard, Paris 1995 –( trad. ital. Heidegger, Scritti Politici (1933 –1966) Prefazione, postfazione e note di François Fédier. Piemme, Alessandria 1998. p. 147)