حياة حطمها الإدمان

 

لم تستطع سعاد أن تمنع إحساساً بالخوف تسلل إلى قلبها عندما امتدت يدها لتوقظ زوجها كعادتها كل يوم ولم تجده في مكانه وتسارعت دقات قلبها.. هل من المعقول أن يكون قد عاد إلى إدمانه ؟ ألم يعدها في الأيام الأخيرة بأنه لن يقترب من الزجاجة بعد أن اشتدت عليه آلام معدته وحذره الطبيب من التمادي في استهتاره بصحته.

تذكر إنه قال لها" لن أعود إلى شرب الكحول مرة أخرى .. اعلم إن ذلك فوق طاقتي لكنى سأحاول"

يومها شعرت سعاد باسترخاء لذيذ لم تشعر به منذ ثلاث سنوات.. منذ أن أدمن زوجها على الكحول وتحولت أيامها الجميلة إلى مشاحنات ومناقشات تصل إلى حد يضربها زوجها عندما يكون سكراناً.

منذ متى كان أحمد يرضى لنفسه أن يضربها.. كان طيباً حنوناًُ عليها وعلى أبنائها الثلاثة.. الخمر لم تبقي من شخصيته السابقة إلا القليل يتمتعون به في الساعات القليلة التي يفيق فيها من سكره.

وانتبهت سعاد إلى واقعها .. وحاولت أن تنفض عنها آلامها السابقة لكي لا تفسد جمال حاضرها.. فهي سعيدة لا تكاد الدنيا أن تسعها.. فقد استطاعت بحبها وتضحياتها أن تقنع أحمد بترك الكحول.

وتحركت لتنهض من فراشها .. ومشت ببطء .. جسدها لا يقوى على حملها .. لم يبق العذاب اليومي الذي تعيشه منذ سنوا ت شيئاً من صحتها أو من جمالهاإلا القليل .. كانت رؤيتها لزوجها مدمناً تسبب لها قلقاً شديداً وتعاسة لا تستطيع احتمالها .. يضاعفها رؤيتها لأبنائها يتعذبون وهم يعيشون مع أب سكير يملأ البيت بصراخه وشتائمه .. وينهال على أمهم ضرباً أمام أعينهم .. ونظراتهم الحزينة المتسائلة تعذبها وهى تسأل عن السبب الذي جعل أباهم ينقلب إلى هذه الصورة الوحشية بعد أن كان حنوناً وعطوفاً عليهم .. يسأل عن أحوالهم .. لا تستطيع أن تنسى منظرهم وهم ينسحبون في هدوء حزين إلى حجراتهم.. وعندما يهدأ النقاش كان صوت بكائهم يصل إليها ليضاعف من آلامها .. وهزت سعاد رأسها لتقطع تسلسل أفكارها المؤلمة .. وعاد إليها هدوئها النفسي عندما تذكرت إن أحمد لم يقترب من الزجاجة أسبوعا كاملاً هذا كثير ما كان يستطيعه من قبل.. لكنه فعلها الآن من أجلها ومن أجل أبنائها.

وشردت بأفكارها من جديد وهى تمشط خصلات شعرها لترفعه عالياً كعادتها .. أدهشها ما قاله لها يوماً عندما سألته في بداية أحدى نوباته .

"ما الذي دفعك إلى الإدمان .؟" آلمتها نظرته الحزينة وهو يجيبها"

" التعاسة ."

"لم تكن تبدو تعيساً ."

"لم أكن أصارحك بمشاعري .."

أجابته مندهشة ..

"الست زوجتك وحبيبتك.. لماذا لم تصارحني ؟.

أجابها بنبرة حزينة ..

"لم أكن أريد أن أبدو أمامك ضعيفاً"


"ماذا كان بك ؟"

" كنت خائفاًمن الفشل وكان الخوف والقلق يسببان لي كآبة شديدة كنت اشرب لأبتعد عن ذلك."

"ما سر هذا الخوف .؟"

" لا أدرى .. اشعر أنى فاشل ومكروه ولا استطيع أن احتفظ بمن أحب إلى الأبد لأني سأفشل في ذلك مثلما كنت فاشلاً طوال حياتي"

آلمها هذا الإحساس فقالت له ..

"لكنك لم تكن فاشلاً .. كنا نحبك وسنحبك دائماً .."


" حاولت أن اقنع نفسي بذلك لكنى فشلت وعاد إحساسي بالخوف يحطم سعادتي ويدفعني إلى الشراب لأنسى ضعفي.."

"غريب .. لماذا كل هذا التشاؤم .

أجابها حزيناً .

" ربما لأني لم اشعر أبدا بالحب ممن حولي .. لم اشعر به إلا من قلب والدتي لكن الموت بخل عليﱠ بها .. وتعذبت لفراقها كثيراً .. كان أبى قاسياً أو كان يتظاهر بالقسوة .. لم يكن يعترف بمشاعر الحب والعطف .. الحب لديه أن يكون قاسياً معي لكي أكون رجلاً.. الحنان والعطف لديه ضعف لا يليق بالرجال.. وازدادت قسوته بعد زواجه أصبح يصدق زوجته أكثر مما يصدقني.. ولسوء حظي كانت زوجة أبى تكرهني ودفعت أبى بأكاذيبها إلى أن يكرهني ويستهزئ بي .. ونجحت في أن تجعله يكره إنجاب الأبناء .. ويشكرها على عدم إنجابها .. ما عرفت قلباً قاسياً كقلبها .. جعلني اكره الحياة .. واكره والدي .."

وإنسابت دموعه على خده وهو يقول لها :

"لا أدرى لماذا ينجب الآباء الأبناء إذا كانوا سيشقونهم لماذا جاء بى أبى إلى الحياة إذا كان سيهملني كل ذلك الإهمال .. وسيعذبني باستهزائه وتحقيره .. كنت مكروهاً .. هل تعرفي ما معنى أن يكون الإنسان مكروهاً .. منبوذاً .. لم يسمعني أبى سوى إجابة واحدة كانت تضاعف من عذابي عندما أشكو إليه تعذيب زوجته لي .. كان يقول لي .

"زوجتي في مكان والدتك .. لكنك مشاغب وعنيد لا يستطيع أحد أن يحبك .. ولم أكن مشاغباً أو عنيداً إلا لأنني تعيس وكنت انتقم بعنادي وشغبي ممن يسبب لي هذا العذاب .. وظل الخوف نائماً في أعماقي .. يشقيني ويدفعني إلى الشراب لأنساه .."

ثم قال وهو يواصل حديثه باستهزاء .

". كيف تريدين لإنسان عانى كل ما عانيت أن لا يشعر إنه فاشل وغير محبوب .؟"

"لماذا لم تلجأ إلى طبيب نفسي ليساعدك.؟".

كنت خائفاً من كلام الناس ..

"وماذا أفادك الناس الآن ؟"

هز رأسه بأسى وعاد إلى كأسه وشروده.

وانتبهت سعاد إلى نفسها بعد أن مضت ساعة وهى شاردة مع أفكارها .. لماذا تفقد جمال حاضرها بهذه الذكريات المؤلمة .. آلم يقل لها أحمد إنه لن يقترب من الكحول أبدا .. لكن أين ذهب في هذه الساعة المبكرة .. وخرجت تبحث عنه .. تتنقل من غرفة إلى أخرى .. وكلما فشلت في أن تجده في إحداها كلما تسارعت ضربات قلبها خوفاً .. لم يبق سوى غرفة الإستقبال لم تدخلها .. مالها خائفة والقلق يكاد يمزقها لشدة ما يسببه لها من اضطراب .

وفتحت باب الغرفة .. السكون يسود المكان .. والتفتت إلى المقاعد .. ورأته مستلقياً على أحدها .. نائماً في هدوء .. ويداه ملقاة إلى جانب المقعد .. وتسمرت عيناها على الزجاجة خالية مرمية على الأرض .. وأخذت تهذى غير مصدقة ..

" لماذا يا أحمد .. لماذا .. ألم تعدني .؟"

وارتمت عليه تحاول إيقاظه .. وقلبها يزداد خفقاناً .. ماله لا يجيبها .. لا يرد عليها .. هل يكون قد حدث ما تخافه .. أيكون قد حدث الانفجارفي معدته الذي حذره الطبيب منه .. لا غير معقول .. غير معقول أن يذهب احمد ويتركها وحدها مع أطفالها الثلاثة اللذين ينتظرون السعادة تطل عليهم من جديد .

وارتمت عليه باكية تهزه بعنف ليتحرك لكنه لا يجيب وانساب خيط احمر من الدماء من فمه .. عرفت الحقيقة .. وأخذت تهذى باكية ..

"لماذا يا أحمد .. ألم تقل إنك تحبني وستنقذ ما بقى من حياتنا .. لماذا غدرت بنا وعدت إليه .. لمن تتركني أنا وأطفالي .."


نظرت إلى الزجاجة بحقد شديد .. خيل لها إنها تسخر منها إذ حطمت سعادتها .. وتراءت لها صور العذاب الذي تعرض لها زوجها .. العذاب التي عانت منه هي وأطفالها وأمسكت بها وأخذت تضربها بعنف وبشدة على الأرض ..