صباح جديد علي طــائر أبيض صغير

الطائرُ الأبيض الصغير ، استيقظ من نومه مفزعاً ، علي صوت طلقات الرصاص ، تطلع خائفاً من باب عشِّه ، نهض وخطا بساقين مرتعشتين ، وقف علي فرع الشجرة العجوز العالية ، نظر حواليه فرأى الأعشاش الممزقة والمتساقطة ، تطلع تحت ساقيه فرأى جنـوداً غرباء ، كانوا يتحدثون بلغة غريبة لم تألفها مسامعه ، بنادقهم بأيديهم ، ينتشرون بالمكان ، يجرون هنا وهناك ، ورأى طيوراً من أصدقائه وجيرانه صرعى علي الأرض ، انقبض قلـبه بقوَّة ، قال لنفسه : الموت قادمٌ لا محالة ، عندما رأى جنـدياً يُسـقط الفوارغ أرضاً ، ويضع بـدلاً منها طلـقات حـيَّة ، ثم رآه وهـو يرفـع البنـدقية بين يـديه ، ويصوبها نحـوه ..

انطلق الطائر الأبيض طـائراً ، في لحظةٍ حسبها دهـراً ، قبل أن تلحـقه رصـاصة الجنـدي التي مـرَّتْ بجـواره .

ظـلَّ الطـائر الأبيض الصغـير يضرب الهواء بجناحيه في بكـور الصبح ، مبتعـداً عن مصدر الموت ، كانت الشمس في مخبئها ، ولم تشرق بعـد .


عبر الطائر الأبيض الطرق السريعة بحـذر ، كان خائفاً من العربات المنطلقة بجنون ، والتي ظنَّها تفـرُ خائفة أيضاً من موتٍ مجهول .. ، وقف الطائر فوق كوبري علوي علي مفترق طرق يستريح ، ويلملم أنفاسه المضطربة والمبعثرة في فضاء المدينة ، لم تـر عيناه سوى الإسفلت الأسود الممتـد بطول الطريق ، والحفر المتباينة التي حفرتها القنابل ، وجانباً محطماً من الكوبري بفعل قـذيفة ، وأعمدة الإنارة المائلة ، مكسورة المصابيح ، واقفـةً تنظر لـه بصمت وعمى ، والأبنية الأسمنتية ـ عديدة الطوابق ـ التي تحجب الأفق لتؤكـد حضورها القاسي ، تتناثر علي مداخلهـا أكياس القمامة مبقورة البطون ، تتنافس عليها قطط وكلاب ضالة في معارك صغيرة تحسمها الأخيرة لصالحها ، ثمة أدخنة سوداء تتصاعـد من مكان مجهول ، تثقل الهواء المثقل بالغبار وروائح المخلفات ، أصوات مكتومة تفصح عن وجودها بين الضجيج ، هل هي طلقات رصاص أم انفجارات قنـابل ؟ ..

بحث الطائر الأبيض بعينية عن شجرةٍ ، أو نباتٍ أخضر ، أو نهرٍ صغير ، أو حتى زهرة واحـدة تنظر إليه من أصيص ، فلم يجـد ، انتابه حزنٌ علي حزنٍ ، ومرَّتْ أمامه قافلة من العربات المصفحة ، يعلـوها جنـود بنفـس السحـن الغريبـة المتوترة ، والبنادق سريعة الطلقـات ، كان هناك جندي ، إنَّه نفس الجندي الذي رآه تحت الشجرة ، هل هو حقاً أم أن خيال الخوف مـلأ عقـل الطائر الصغير بالوهـم ؟ ، رآه يصوب بندقيـته نحـوه ..

فـرَّ الطائر مبتعـداً بأقصى سرعـة ، وهو يقول لنفسـه :

ـ " هـذا مكـان غير آمن .. مكـاني ليـس هنـا " .


استأنف الطائر الأبيض طيرانه ، حلَّق فوق محطة السكك الحديدية للمدينة الصغيرة ، حـطَّ علي سقف المبنى ، رأى القضبان الحـديدية السـوداء الخارجة والداخلة والمتشابكة في امتدادها الطويل ، المبقعة بالزيوت السوداء والأتربة الناعمة والزلط والحجارة والأوراق المصفرة القديمة ، والسيمافور العالي وذراعه الممدودة في وجـه المدينة بالتحـذير ، والأرصفة المستقيمة ، وأعمـدة الإنارة القصيرة التي ضاع نورها في نـور النهار ، والمظلاَّت الهرمية المتربة ، والمقـاعد الإسمنتية الملوثة بكتابات المراهقين الذين يدعون الرجـولة ، وركَّاب الصباح في صمتهم المريب ، أو ثرثراتهم الصغيرة الخائفة ، وهم يتجمعون ويتزاحمون انتظاراً للرحيل ، كانوا كثيرين ، وسمع الضجيج والصفير الحـاد للقطارات القادمة ، والأخرى الراحلة ، بعنفوان الدواليب الحـديدية الثقيـلة ..

بالقرب من باب المحطة ، رأى الطائر الأبيض دبَّابة ، ورأى حولها جنـودا بنفس السحن ، كانوا يرفعـون رشاشاتهم في الهـواء ، ورأى حاجزاً علي الباب الرئيسي ، كانوا يفتشون حقائب المسافرين ـ الذين يمرُّون بممر ضيق ـ ببـطء يُفقـد الأعصاب هدوءها ، رأى شاباً يقفـز عبر الحاجز منطلقاً بأقصى سرعة ، والجنود كانوا يلاحقونه برصاصاتهم ، لم يتيقن الطائر الأبيض الصغير من موت الشاب ، أو كونه تمكن من الفرار ، لأنه انطلق طائراً ومبتعـداً ، وهو يقول لنفسـه :

ـ " هـذا مكـان غير آمن .. مكـاني ليـس هنـا " .


استأنف الطائر الأبيض طيرانه ، مـرَّ فوق سوق المدينة ، حـطَّ علي السقف المصنوع من الصاج القـديم ، تأمل الباعة الكثيرين والمشترين القلائل ، وعربات " الكارو " التي تُفرغ حمولتها ، وصياح " العربجية " الغاضب لحيواناتهم الكسولة ، وعربات الخضر القليلة المبلولة بندى الصباح ، وفاكهة آخر الموسم التي يعكُف الباعة علي رصِّها بحرص في صفوف هرمية جذَّابة ، ورأى الزحام الشديد علي أرغفة الخبز الساخنة بوجوهها المحمرة الخارجة تـواً من عين الفرن ، وأسماك النهر الهامدة بحاملاتها المعـدنية التي يسقـط منها الماء ، ولحوم حيوانات مسلوخة بالمذبح ، معلقةً بخطافات من حـديد ، حيوانات مكتملة علي ضآلتها وهـزالها ، مكسوةً بـدهون بيضاء مصفـرَّة ، وأختامها الحمراء لامعة بلون الدماء ، ورأى سبـيل الماء القـديم ، الذي تعـددت صنابيره في توال محسوب ، علي حائط ضرب النشـع الرطـب في أصـوله المتداعيـة ..

كان الطائر الأبيض جائعاً وعطشاناً ، فكَّـر في الهبوط ، والتقاط بعض الفتات ، والشرب من مـاء السبيل .. ،عنـدما انطلق هابطاً ومرفرفاً بجناحيه صوب الأرض ، رأى حاجـزاً يقطع الطريق ، ورآهم خلف السبيل يتحصَّنون به ، ظهورهم للحـائط وعيونهم اللامعة بالريبة للقادمين و الخارجين من السوق ، بنادقهم الآلية بأيديهم علي أهبـة الاستعـداد ، والرصاصات المتحفزة مكدَّسة في أمشاط حول أحزمة خصورهم ، ودوَّى انفجار هائل ، اختلطت أشياء السوق ، وتناثرت أشلاء آدمية ، وفر الناس بذعـر ، وانطلقت رصاصات تلاحق شباناً يهربون ..، استـدار الطائر الأبيض في الهـواء ـ بزاوية حـادة ـ متراجعاً للخلف بسـرعة ، مبتعـداً عن المكان ، وهو يقول لنفسـه :

" هـذا مكـان غير آمن .. مكـاني ليـس هنـا "

وعـاود الطيران مبتعـداً وخائفـاً .


ظلَّ الطائر الأبيض الصغير يحلق طائراً بأجـواء المـدينة الصغيرة ، متنقـلاً من مكانٍ لآخر ، باحثـاً لـه عن مـأوى أو مأكـل أو مشـرب ، دون جـدوى .

المدارس الكثـيرة ، المستشفى الوحيـد ، مقاهي الشوارع الرئيسية ، الحدائق الصغيرة ذابلة النباتات ، أماكن اللهـو المهجورة ، سجن المدينة بأسـواره العاليـة ، وموقـف " الباصـات " الرئيسي وعربات " السرفيس " الصغيرة ..

كان عليه في كل مرَّة ، أن يرحل طائراً وممتلئاً بالخوف ، كلما رآهم بسحنهم الغريبة ، ولغتهم الغريبة ، وأسلحتهم الفتـَّاكة ، التي فتكتْ بأصدقائه وجيرانه ، مع مطلع الصبح ، عنـد الشجـرة العجـوز العاليـة .


كان الطائر الأبيض متعباً وخائفاً وجائعاً وعطشاناً ، عندما رأى كـوخاً طينياً علي حـافة المدينة ، هبـط علي سقفه المصنوع من القش والبوص ، تطلع حواليه ، وفـرح لرؤية الأرض المزروعة بالخضرة أمامه ، والهـدوء الذي يشمـل المكان الخـالي من الجنـود ، قـال لنفسه : سوف أبني عشـاً هنـا وأعيش فيه بعيـداً عن الخطر ، ورأى عجوزاً تقرفص أمام بـابه الخشبي ، كانت تستقبل شمس الصبح الطالعة من حافة الأفـق البعـيد ، ورأى كتاكيت صغيرة بزغبها الأصفر ومنابت ريشها ، تتجمع أمامها في دفء الشمس ، كانت أنامـل العجـوز تلقي لها بفتـات الخـبز ، تتجمع الكتاكيت فرحة وتنقرها بمناقيرها الصغيرة ، ولمح الطـائر الأبيض آنيـة صغـيرة من الفخـار بها مـاء بالقـرب من العجـوز ..

فكَّـر الطائر بعقـل الجـائع : كيـف يمكـنه الحصول علي بعـض هـذا الفتـات ؟ ..

قـال لنفسـه :
الجـوع كافـر ابن كافـر .

وقـال لنفسـه :
الغـرباء يحتلُّـون المدينة ، ولن تسمح لي بنـادقهم أن أهنـأ بأي طعـام أو شـراب .

وقـال لنفسـه :
الله رحيـم بالضعفاء ، هـو الذي هـداني إلي هـذا الكوخ .

وقـال لنفسـه :
لا بـد أن الكتاكيت سوف تشبع ، ولا بـد أن العجوز سوف تدخل كوخها ، أو ربما تغفـو نائمةً في دفء الشمس ، فأحصل آنئـذ علي بغيـتي من الفتـات والمـاء .

كان الوقت يمر بطيئاً ، والعجوز علي حالها مستمتعةً بدفء الشمس التي تعلو في السماء ، والجوع لا يرحم وهو يقرص أمعاء الطائر الأبيض ، ودفع الجوع بالطائر ليهبط بالقرب من العجـوز ، لم تنتبه إليـه ، سمعها تكلم الكتاكيت ، والكتاكيت التي شبعتْ تجمعتْ بالقرب منها ، وتضامتْ بأجسامها الصغيرة ، وأغمضت أجفانها تحت عين الشمس ، واستمع الطائر الأبيض للعجوز وهي تكلِّم كتاكيتها عن حكاية ولـدها " إبراهيم " ، عرف أنه ولدها الوحيـد ، وأنه كان فلاَّحا بسيطاً ، يزرع عـدة قراريط من الأرض بالقرب من الكوخ ، يزرعها بالحاصلات التي يحتاجها أبناء المدينة : طماطم وخيار وبصل وجرجير وخس وكرنب .. ، يمارس عمله بالأرض تحت وقع عينيها ودعاء قلبها لـه ، ويذهب للمدينة ويعـود إليها ، كان يحلم كما يحلم كل الشباب ، بالكوخ الذي يصير داراً ، والدار التي تعمرها زوجة ، والزوجة التي تنجب لـه الأطفال ، والأطفال الذين يكبرون ويتعلمون ويصيرون رجالاً لهم شأن .. يحلم ويحلم ويحلم ، حتى صحا علي كابوس الغرباء وهم يهاجمون المدينـة ، وخرج مع كل الشباب يدافعـون عن مدينتهم وعن مستقبلهم وعن أحلامهم ، لكنهم فيما بعـد قـالوا لها :

إن الغرباء قـد قتلـوه غـدراً برصاصاتهم ، وهـو يـدافع معهم عن المدينة .

لم تصـدقهم ، قالت لهم :

" إبراهيم " لم يمـت ، وإنه ما زال حيَّا ، وسوف يعـود إليها في يـوم ما .

كان الطائر الأبيض يستمع للعجوز التي تخاطب الكتاكيت بحزن ، ورغم الجوع الذي كان يعصف به ، فإنه بكى ، وتساقطتْ دموعه حزناً من أجلها ، وخطا بساقيه الرفيعتين عـدَّة خطوات صوب الكتاكيت ، ورأته العجوز ، اكتستْ ملامحها بالدهشة وهي تحـدق فيـه ، والتقـتْ عيناها الصغيرتان الدامعتان بعينيه الصغيرتين الدامعتين ، اتسع ركنا فمها المشـدود بابتسـامة ، وهتفـتْ بفـرح :

ـ " إبراهيـم .. تعـال يا بني " .
وفوجئ الطـائر الأبيـض .

ـ " إبراهيـم .. تعـال يا بني " .
ازدادتْ دهشته ، لكن الجوع المستبد بلـغ به أقصى مـدى ، فلم يتزحزح عن موضعـه :

ـ " إبراهيـم .. تعـال يا بني " .
كانت ابتسامتها مشجعةً لـه ، اقترب حتى بقايا الفتافيت التي خلفتها الكتاكيت ، راح يلتقطها بمنقاره وهو ينظـر إليها .. سألتـه :

ـ " أنت جـائع يا حبَّـة عيـني ؟ " .
ومدَّت أناملها في طبـق بجوارها ، وأخذتْ من طعام الكتاكيت وألقت أمامه .

كان الطـائر الأبيض يأكـل ، والعجوز تتحـدث معه ، وتقول لـه يا " إبراهيم " يا بني ، وتقول لـه لا تحمل هماً بشأن الأرض والزرع ، هي ترعاها قـدر استطاعتها ، وأنها تجـد كثيراً من أولاد الحلال الذين يساعدونها في الأرض ، أو بيـع إنتاجها في المدينة ، وقالت لـه إن غيبته قـد طالتْ عليها ، وإنها ظلَّـت تنتظره ، وتنتظر اليـوم الذي فيه يعـود ، ويبني الـدار ، ويتزوج ، ويحمل عنهـا كل أعبـاء شيخوختها ..

كان الطائر الأبيض قـد شبـع مع نهاية الحكاية ، وخطا نحـو آنية الماء وشرب ، ثم طـار نحـو السقف ، وسمع العجوز تودعـه :

ـ " مع السلامة يا إبراهيم .. لا تطـوِّل غيبـتك يا بني "

نام الطائر الأبيض نوماً عميقاً بين عقـد القش ، عندما استيقظ كان النهار قد عبر منتصفه ، قرر أن يبـدأ في يناء عش لـه ، ولم يجـد صعوبة في ذلك ، كانت المواد اللازمة لإقامة العـش حواليـه كثيرة من قـش وأفـرع نباتية صغـيرة ، وبات الطائر ليلته الأولى بالعـش الجـديد وهو يحلـم بالعجوز الطيِّـبة ، وولـدها الغائب إبراهيـم ، والغرباء ، والمـدينة المحتلة ، والأصدقاء والجيران الذين سقطوا غـدراً برصاص الجنـود .

ومع صباح اليوم الجـديد ، وجـدها أمام الباب مع كتاكيتها ، رأته وسعدتْ به ، أطعمته وسقته الماء ، وحكتْ له حكاية جـديدة عن " إبراهـيم " ، متى رُزقت به وليـداً ؟ ، كيف رعته بعـد رحيل أبيـه حتى صار رجلاً يملأ العين برجولته ؟ .

وصحبها الطائر الأبيض الصغير ، عندما أوصدت كوخها وذهبت للحقل ، رآها تحنو علي النباتات النامية ، ورآها تقتلع الحشائش الضارة والغريبة ، ورأى جيرانها الفلاَّحين يهبُّون لمساعدتها ، ويقدمون لها يـد العون ..

وتكـرر هـذا في صباحات أخرى كثـيرة ..

وجـاء ليل ، استيقـظ فيه الطائر الأبيض مفـزعاً ، علي صوت طلقات رصاص تشـق الفضاء ، نهض مذعوراً ، تطلع من فوق السقف ، رأى في عتمة الظلمة الجنـود الغرباء ينتشرون حول الكـوخ ، ويدفعـون الباب المتداعي ، وسمع صراخ العجوز ، وواحـداً منهم يصرخ بها بعـربية مكسورة الحـروف :

ـ " أين هُـم .. نحـن نبحـث عن المطلوبين الذين يهاجمون الجنـود "

وفـرَّ الطـائر الأبيـض هـارباً ، يتخبط في الظلام علي غير هـدى ، خـائفاً ومبتعـداً عن كوخ العجوز ، وسمع طلقات رصاص عشوائية تشق الظلام ، هل كانت الطلقات تلاحقه ؟ ، سـأل نفسـه عندما سقـط بأرض مزروعة ، وجُرح جناحه وسال دمه ، لملم نفسه واستقر بجـوار نبات ، بكى الطائر الأبيض حزناً علي مصير العجوز ، وقـال لنفسـه :

ـ " ليـس لي مكـان في مدينـة يحتلهـا الغـرباء .. عندما يطلع الصباح سأرحل لمدينة أخرى "

عنـدما جـاء الصباح ، وجـد الطائر نفسه وسط الأرض التي تزرعها العجوز ، ظـلَّ واقفاً بين نباتاتها القائمة لا يدري ماذا يفعـل ؟ ، تذكَّـر العجـوز وبكي بحـزن ، وهطلتْ الدموع من عينـيه ، لم يكن قـادراً علي التفكـير ، أو تنفيـذ قـرار الرحيـل ، والألم يضرب جنـاحه المصاب ، كان حزيناً من أجـل العجـوز ، لا بـد أن الغـرباء ، قُسـاة القلوب ، قـد قتلـوها وهم يستجوبونها بغبائهم ليـلاً عن المطلوبين ، أو أنها ستموت رعباً ـ وهي العجـوز الوحيدة ـ لرؤيتهم ، أو أنها ربما تنجـو ، وتطلع الطائر لسماء الصبح ، ودعـا الله للعجوز أن تنجو من الغرباء ، وفكَّـر أن هروبه الآن لمدينة أخرى ، وغيابه عن ناظريها إن كانت حيَّة ، سوف يقتلها كل يوم مئات المرَّات وهي تنتظره ، وتنتظر ولـدها " إبراهيم " ، ولا تـراه إلاَّ في عـودته إليهـا ..

وقرر الطـائر الأبيض الصغـير قراره الأخير ، بالعـودة إليها مهما كانت الأخطـار ..

طار الطائر الأبيض عائداً لكوخ العجوز ، كان يطير لمسافة قصيرة ثم يهبط ليستريح قليلاً بسبب ألم جناحه المصاب ، عندما اقترب من المكان ، رأى باب الكوخ محطماً ، والجنود الغرباء قـد رحلوا ، وكانت جثث الكتاكيت الدامية مبعثرة بعشوائية علي الأرض ، بعـد أن دهمتها الأحـذية الثقيـلة أثناء المداهمـة ، بحـث عن العجوز بعينيه فلم يـرها في أي مكان ولم يسمع لها صوتاً ، انقبض قلبـه وعصرته يـد الخوف ، هبـط ، اقترب من الباب ، رآها جالسةً ، امتلأ قلبـه بالسعادة ، وحمـد الله ، ورأته العجـوز ، والتقتْ عيناها الصغيرتان الدامعتان بعينيه الصغيرتين الدامعتين ، اتسع ركنا فمها المشـدود بابتسامة وهي تشهق بالبكـاء ، وهتفـتْ بفرحة مبـللةً بالدموع :

ـ " إبراهيم .. تعـال يا بني وشـفْ ما حصـل "

وعنـدما اقترب منها ورأتْ جرحَه انزعجتْ ، راحتْ تنظفه بالماء ، وتطهره ، وتلفه بقطعة قماش ، ثم حملته بيدهـا ونهضتْ ، أمام باب الكوخ المحطَّم جلستْ وهي تحتضنه بكفَّيها ، تستقبل قرص الشمس ، الذي يُشرق عنـد حافـة الكـون البعيـد