من رواية شهرزاد على بحيرة جنيف لجميل عطية ابراهيم

شهرزاد علي بحيرة جنيف

قادتني شهرزاد في المساء إلي مقهى صغير مريح في زقاق علي البحيرة ، وهي التي قدمت إلي جنيف لأول مرة ، قالت : هنا يجلس صديقي المسيح الدجال . أعرفه من فيينا ، سألتها عن أحواله ، قالت : ـ لا يفارق موضعه في محطة القطارات . أكملت شهرزاد : ـ من حين إلي آخر يذهب إلي الفاتيكان لمقابلة بعض الكرادلة لأمور لاهوتية تشغله ، ثم يعرج علي جنيف عدة أيام يسب الناس في الطرقات ويأتي إلي هذا المقهى في المساء . سألتني شهرزاد : متى رأيته آخر مرة ؟ قلت : منذ سبع سنوات . قالت : ـ أووووه . هذا زمن . تبدلت هيئته ، ضعف بدنه ، قلل من الزعيق ، علي كل ، سوف تراه بعد قليل .

تعرف شهرزاد تحركاته وأقواله ، وهذا غريب ؟ هل علمته في المقابل أسرار فتح القمقم وإطلاق الجني وحبسه ثانية؟ رجل مسطول دوما بالعظمة وحب الموعظة ومسكون بالغناء والرقص ، ما لنا به ؟ لست سعيدا بمعرفة شهرزاد لهذا الرجل ، وأقوالها أثارت ريبتي ، رجل اسمه المسيح الدجال ، هل يرجى منه خير ؟ هذه واحدة من أحاجي فاتنة الزمان .

رجل زئبقي من السهل عليه معرفة أسرارنا ، وهي التي باتت تشكو لطوب الأرض من سرقة بلورتها السحرية بواسطة الشركات عابرة القارات . القصد . سمعنا الزعيق والهيصة من بعيد ، ثم حل الرجل ، جاء . جسده مغطى بطبول وشخاليل ونواقيس . يطبل ويهز نواقيسه ويرقص ، صوته يغمر المنطقة الهادئة ويهز أمواج البحيرة الساكنة ، وأقواله كلها تدور في نطاق موعظة الناس وكأنه يمتلك الحقيقة . رحبنا بالدجال ، وتحيرني دوما عند لقائه هذه الكنية الغريبة : الدجال ، وأتردد في نطقها في مواجهته ، هل سمى بالدجال لعشقه شرب البيرة طوال النهار والليل ، وقذفه الناس بالطوب في حالة هياجه أم بسبب تجاوزات لسانه الفالت في أمور السماء والأرض ؟ نسيت الرجل في حضرة شهرزاد ، ونسيت سرقة أوراقنا وضياع القمقم والجني وفقدان البلورة السحرية التي تحولت بقدرة قادر في عصر العولمة إلي كومبيوتر .

القصد ، تركت لشهرزاد عنان قيادة سهرتنا ، لن نحقق في ضياع البلورة السحرية الليلة ، ونؤجل هذه المسألة إلي الغد ، والجني سوف يشطح ويعود ومعه القمقم . سهرة من ألف ليلة وليلة ، وهكذا يحلو السهر علي بحيرة جنيف في ليلة صيفية حارة وإلا فلا ، وهل هناك أجمل من السهر في حضرة شهرزاد ؟ هذه سهرة تبز ليالي بغداد الحالمة وكل ليالي شهرزاد السابقة. في البداية دار حوارنا يمينا وشمالا بالعربية ، قلت لشهرزاد همسا وأنا انظر في عيني الدجال حتى يسمعني : ـ هذا رجل يعرف العربية من زمن بعيد ويخدعنا ، يعرف العربية كمعرفته باللاتينية التي يسب بها الناس قرب محطة

قطارات فيينا .. فهم قولي ونظر إلي مبتسما وصمت . شغل عنا بترتيب طبوله وشخاليله ونواقيسه الصغيرة . سألت كريستينا الرجل مباشرة وقد توقف عن ترتيب أدواته وتحرر من بعض ملابسه الثقيلة ، عم أتي به إلي جنيف ؟ وقد ضايقها حديثنا بالعربية التي لا تعرفها وهي المترجمة المحترفة لسبع لغات . قال الرجل في جدية شديدة : ـ كنت في الفاتيكان ، وسحبتني النجمة الخضراء إلي هنا ، ربطتني وجرتني .

رفعت كريستينا رأسها في بلاهة إلي فوق تبحث عن النجمة الخضراء التي سحبت الرجل . هل هناك نجمة خضراء في السماء يا كريستينا ؟ قالت شهرزاد لي ضاحكة : صديقتك قلبها طيب . النجمة الخضراء ؟ بدأ صاحبنا حكايته من أوسع الأبواب : باب الفلك . ضحكنا .

هل أصارح صديقتي البريطانية التي تهوى شكسبير وأشباحه أننا في حاجة إلي شبح هذه الليلة كي ينذرنا ويهددنا بالموت لنتمهل قليلا في أمور دنيانا ، بينما منشار الزمان” طالع نازل“ ، يقص في أعمارنا . مرحبا بأشباح شكسبير في جنيف إلي جانب الجني والمسيح الدجال . هذا ما أريده ويرد عني عنه الهدوء المنبثق حولنا ـ حيث لا يجوز الصراخ حقيقة أو مجازا ، لو كنا في غابة أو في قارب أو حتى في ديسكو كان البوح والصراخ والعويل مقبولا ، ولكن علي البحيرة ؟ هذه فضيحة . شهرزاد نفسها لن تسمح لي باستدعاء أشباح شكسبير أو الغناء أو التطبيل ، وهي القادمة من قلب آسيا وليس أطرافها ..

طبال قديم وأجيد هز الشخاليل . "" واحدة ونص "" إيقاع متوحش ، أود .. ، هكذا فقط . حق البوح محفوظ للعشاق . وأنا لا أود البوح همسا ، طبلت . دققت في البداية بنعومة علي طبلتين صغيرتين وأخرى كبيرة . هززت شخاليل . تصاعد الخبط ، دارت دقات الأرجل وصفق الناس ، تشبع المقهى بدقات الواحدة والنص ، انطلق الدجال يتطوح ويهز وسطه ويدير ساقه حتى أعلي الفخذ كراقصة شرقية لعوب . ضحكت شهرزاد وسدت كريستينا فمها بيدها لتمنع انفجارها من الدهشة وأطربنا صاحبنا برقصه . ألم أقل ، هذه سهرة من ألف ليلة وليلة والرقص فيها حتى الصباح مباح . تمتعنا بالرقص ، ينقصنا ذكر المغنين ، سألتني شهرزاد مقلدة ناظم الغزالي : من علمك الضرب بالنواقيس ؟ ضحكت . أميرتان ودجال وآخر خائب الرجاء . توددت : ـ احكي يا شهرزاد . تمنعت . التفتت إلي صاحبها الدجال ، قالت : زدنا فهما يا سيدي . حدثنا عن الأرض الحرام قبل صياح الديك . وأردفت بالإنجليزية The free Zone ما حكاية الأرض الحرام ؟ شوقتني وصمتت ، شهرزاد لها ألف حكاية وحكاية ، هل توقفت عن ولادة الحكايات وأصبحت تتسولها من الدجالين في آخر الزمان ؟ صمت شهرزاد مصيبة . نكبة وحلت بالعالم العربي . عيب يا شهرزاد ؟ سمعتنا اهتزت . رجوتها ولا فائدة ، قالت : ـ في جعبته حكاية ولا كل الحكايات ؟ شرب صاحبنا زجاجة بيرة دفعة واحدة ، قال : - في البدء كان التسامح ، وبعد التسامح جاء الترقب ، وبعد الترقب جاء الشك ، وبعد الشك جاء اليقين ، واليقين منزلة منحطة في غيبة العقل الراجح . أصل الحكاية يا سادة يا كرام : أزمة شهدتها مدينة روما بعد موت قداسة البابا ، وبعد عدة أسابيع من النقاش المقدس ، اختار الكرادلة واحدا من شيوخ المسلمين عرف بالبر والتقوى والعلم الرشيد لتولي إدارة الكرسي البابوي بعيدا عن الشئون اللاهوتية التي تركت لأصحاب القداسة الكرادلة ، فرح المسلمون من الهند إلي الأندلس بشيخهم في الفاتيكان . وفرح أهل روما بتسامحهم وحكمتهم . دارت الأيام والشهور ونعس العالم ليستيقظ علي بركان ، ذهب الترقب وحل اليقين ، واليقين منزلة لها وجهان . اتهم المسلمون شيخهم بالكفر لقبوله المهمة البابوية وطالبوا برجمه ، واتهم رجال الفاتيكان الشيخ بتهم كثيرة ، وطالبوا برميه في برميل الزيت المغلي ، كعادة أهل روما . سيطرت علي أجواء روما ، مباحثات محمومة منبعها اليقين وغاب عنها التسامح ، ووصفت بالمقدسة . رأي قوم ضرورة التخلص من هذا الشيخ بسرعة ، وتشاجرت الفرق داخل الفاتيكان وخارجه ، وبعد عشر سنوات من البحث والتقصي ، اتفق الجميع علي ضرورة موت الشيخ مرتين ، مرة علي يد المسلمين ، ومرة علي يد أهل الفاتيكان . هل يموت أحد مرتين ؟ عقدت مجامع علمية أخرى وشغلت بمعرفة سر الموت ، وجاء علماء من الشرق والغرب والشمال والجنوب ، مهمتهم شرح ظاهرة الموت ، وكيف يقع ؟ وازدهرت الأحوال في روما . اختلط الجد بالمزاح ، وشمر السحرة عن سواعدهم ، وكانت المعضلة ، كيف يموت هذا الرجل مرتين في ذات اللحظة لرضا الفريقين . تقدمت العلوم الطبية مع دراسة ظاهرة الموت ، وشاعت كتب التشريح ، وزاد عليها كتب في المخ وترجمت معظم المراجع العربية الطبية ، والشيخ يتابع ما يدور في سلام ، يؤدي فرائضه ويعيش يومه ، شاكرا فضل الله . في كل ساعة تأتي رسالة من حاكم أو حكيم أو متوجس بها مسائل تفصيلية وثانوية في حاجة إلي نظر ، أين محبسه ؟ وماذا يأكل وكيف ينام ، ولماذا هنا وليس هناك ؟ عقدت مجامع أخرى واستمر البحث عشر سنوات ، اتفق الجانبان بعدها علي ضرورة بقائه في محبسه علي أرض حرام يحرسها الجانبان . وظل الشيخ قابعا في خيمة في منتصف فناء واسع تحت حراسة الفريقين . الجانبان يسهرون عليه ويتابعون صحته بدقة ، خشية موته قبل عقابه . ثلاثون عاما والقضية مثارة ، مات ناس وولد ناس ، وجاء بابا ورحل آخر والشيخ يعيش في أرض حرام بين الجانبين معززا مكرما تحت حراسه مشددة ، ولا حل في الأفق . ذات يوم وصل إلي روما صبي ممسوس أزعر من الشرق ، زعم إنه درس علوم التشريح في مكتبة سرية في الإسكندرية يملكها بقايا فراعنة ، وأن الدجاجة لا تموت فور ذبحها ، واقترح ابن الحرام ، ذبح الشيخ ، ثم رميه في برميل الزيت المغلي . شاعت أقوال الصبي ، وفتحت بابا شارك فيه أطباء وعلماء دين وأثيرت القضية من جديد . """ صمت الدجال وبدأ في جمع شخاليله وطبوله ، قال : ـ النجمة الخضراء غادرت السماء . قلت له أكمل : ـ ماذا جرى للشيخ الفاضل ؟ ماذا حل بالصبي الأزعر ؟ قال : ـ الحكاية في صحف الصباح غدا .

انتهت جنيف يوليو 2005