هبوط الليـل

أقترب من درجات السلم العريضة, عدد كبير من الممتحنين يقفون في مدخل العمارة , أحس بالتعب فجلس فوق درجة من درجات السلم , تابعه بعض الواقفين في دهشة ؛ فالدرجات متسخة بحث في الإسكندرية عن عمل دون طائل . أمتحن آخر مرة في شركة استثمارية ,أجاب على الأسئلة بنجاح, طلب منه الممتحن أن يكتب على ورقة أمامه؛ فأعجب بخطه ووافق على تعيينه في الشركة بشرط أن يوقع على " وصل أمانة" , صاح مندهشا :
- لماذا ؟!
- ستعرف أسرار شركتنا , وقد تتركنا وتعمل في شركة منافسة .
لم يوافق , جاء رجل آخر- قد يكون صاحب الشركة – تحدث في عجرفة :
- ما الذى يخيفك؛ سنأخذ الأبعدية منك؟! ولعلمك كل العاملين عندى وقعوا على " وصل الأمانة " أو على شيك على بياض.
لقد رسب في الدبلوم العام الماضى ؛ بينما نجح كل زملائه الذين كانوا يستذكرون معه. بعضهم كانوا أقل منه مقدرة ومعرفة ؛ لكنهم استطاعوا أن يخفوا أوراقا صغيرة مكتوبا فيها الأجوبة؛ وأخرجوها وقت الامتحان ونقلوا منها . منهم من سافر إلى دول الخليج وعمل هناك , وعمل صبرى وفوزى هنا في القاهرة . لم يكونا قريبين منه, ولولا أن بعض الذين يستذكرون معهما أصدقاء مقربـــــون لــــه ما ذاكر معهما . عمل صبرى وفوزى في وزارة الزراعة ؛ سكنا في حى شبرا . هو لم يذهب إليهما قط. لكن أحد أعضاء الشلة أعطاه عنوانهما , كاد يرمى الورقة المكتوب فيها العنوان؛ فهو لن يذهب إليهما مهما حدث؛ العنوان مازال في محفظته .
خرج أحد الموظفين, وقف فوق آخر درجة من الدرجات القليلة المواجهة لباب العمارة الكبير وصاح, ذكر أسماء الناجحين, كان اسمه ضمنهم , هب من مكانه وأسرع إلى الموظف الذى عاد إلى مقر الشركة, فدخل الباقى خلفه. قال الموظف :
- عليكم بالحضور باكر .
صاح دون جميع الموجودين :
- لماذا ؟
تابعه الموظف باستخفاف وقال في عصبية :
- للمقابلة الشخصية مع رئيس القطاع .

دفعه البعض خارج باب الشقة التى تقع إدارة الشركة بها . جر ساقيه وسار في هدوء شديد. انتظره البعض حتى هبط الدرجات ليتبعوه. هو مازال شابا لكن الشيخوخة يحسها في نفسه . يسير ويتحرك ببطء شديد , يلومه عليها الأصدقاء والأقارب . ملابسه متسخة ولحيته متناثرة . أخته الكبرى المتزوجة ؛ صاحت في أمه عندما زارتهم بالأمس:
- ابنك لم يتجاوز العشرين ويبدو كأنه في الخمسين .
الوقت طويل ممل ؟. أين يذهب ؟! ليس مهما . هي ليلة يقضيها على القهوة . أمسك كوب الشاى الساخن وأسند ظهره على مسند المقعد فغفا دون أن يحس , كاد الكوب يقع من يده . سار في شوارع القاهرة طويلا حتى تعب ؛ فجلس على مقهى آخر . لن يستطيع الصمود هكذا . لابد أن يجد مكانا ينام فيه , وهو لا يجد المال الكافى لأجرة لوكاندة . أقترض من أمه بالأمس واعدا إياها أن يرد لها ما اقترضه عندما يعمل .
سار بضعة خطوات ؛ واجهه حمام شعبى . هو لم يدخل حماما شعبيا من قبل . لكنه رآه كثيرا في السينما. حتما أجرته أقل من أجرة النوم في لوكاندة .
دخل الحمام , أحس بارتعاش جعل كلماته مهتزة وغير واضحة. قال الرجل البدين الجالس خلف السياج الخشبى :
- أهلا بك .
تمتم بكلمات غير مكتملة , لكن الرجل البدين يعرف كل شئ, قال:
- أنت في حاجة إلى حمام ساخن, شكلك يدل على ذلك, أدخل .
- لم يسأله الرجل عن الأجرة ولا عن البطاقة كما يحدث فى اللوكاندات.

خلع ملابسه , صرها , رائحة العرق تفوح منها لا لأنه لم يخلعها منذ الصباح فحسب ؛ وإنما لأنها لم تغسل منذ شهور عديدة ؛ خاصة ملابسه الداخلية التى في حاجة إلى تعرضها للشمس والهواء . إنه يستطيع أن يدفع أجرة هذا الحمام , فأجرته لن تتعدى الجنيه .
مد ساقيه في الحوض الساخن , أحس بارتياح . جسده في أشد الحاجة إلى الماء الساخن.
أقترب الرجل البدين , حمل ملابسه ووضعها في الدولاب قائلا:
- أطمئن , الدار أمان .
الوقت مر دون أن يحس. أجساد الرجال عارية حوله . بعضها نحيف مثله , والبعض بدينين وكروشهم تتدلى أمامهم. وفجأة صاح الرجل البدين بصوت مرتفع , سمعه كل الموجودين في الداخل :
- كل شئ تمام يا سعادة ألبك.
قال رجل قريب منه وهو يسعى إلى السور القصير ليجتازه:
- الضابط .
أسرعوا إلى ملابسهم لإحضار بطاقاتهم التى سيطلبها الضابط .
دخل المخبرون قبله . نظروا إلى الجميع في قرف وأفسحوا طريقا للضابط الذى أمسك عصا رفيعة . دفعه بها في صدره العارى , فهو الوحيد الذى مازال في الماء الساخن:
- بطاقتك .
سعى إلى السور القصير. ووضع قدميه فوق البلاط , بينما الضابط والمخبرون يذهبون إلى باقى رواد الحمام , يبحثون عن بطاقاتهم .
أمسك – هو – بطاقته وسار . كان عاريا إلا من سرواله القصير . المخبر أمسك البطاقة منه , جففها بملابسه وأعطاها للضابط الذى نظر إليها ثم صاح غاضبا :
- تأتى من الإسكندرية لتدخل حماما في القاهرة ؟
- أصل , أصل .
لم يستطع أن يكمل . قال الضابط في ضيق :
- أرتد ملابسك وأذهب الآن .
سار في شوارع القاهرة . الهواء البارد يدفع وجهه. يحس بأن جسده يرتعش بسبب التغيير الذى حدث فجأة من الماء الساخن إلى الهواء البارد جدا . سمع آذان الفجر آتيا من أول الشارع الطويل . أسرع باحثا عن مسجد يقضى فيه الساعات المتبقية من الليل .

‍قابله شاب رآه بالأمس, كان خارجا من باب العمارة الواسع . سأله في قلق :
- بدأت المقابلة الشخصية ؟
- للأسف, تأجلت للغد , رئيس القطاع لم يعد من سفره .
- كيف ؟!
نظر إليه زميل الامتحان وسار دون أن يجيب .
أسيظل في القاهرة حتى الغد؟ إنه قضى ليلة أمس في حمام شعبى ولولا ستر الله لقبض الضابط عليه . ماتبقى معه من قروش لا تكفى إلا لعودته في قطار الدرجة الثالثة الذى جاء فيه صباح أمس . أيذهب إلى صبرى وفوزى ؟! لكنه لا يحب أن يرياه في هيئته هذه ؛ أو قد يسيئا استقباله.
أشترى سندوتشا فول وأخذ يقضمه وهو سائر. ماذا لو عاد إلى الإسكندرية الآن . يركب أى قطار موجود في المحطة يكون ذاهبا إلى الإسكندرية . قد لا تكفى نقوده لثمن تذكرة . ليس مهما. فسوف يتهرب من الكمساري إلى أن تأتى المحطة التى تكفى نقوده لقطع تذكرة .
لكن نجاحه في الامتحان بالأمس ليس سهلا. وقد لا يحدث مرة أخرى . وحرام أن يضيّع هذه الفرصة , وإلا عاد إلى الشركة الاستثمارية التى أرادت أن تأخذ عليه " وصل أمانة" لكى يكون تحت رحمتهم طوال الوقت . نعم لابد أن يبقى للغد فمادام نجح في الامتحان التحريرى , فالمقابلة الشخصية ستكون سهلة وناجحة .ٍ سيذهب إلى بيت صبرى وفوزى , سيقابلهما ويطلب منهما البقاء لديهما حتى الصباح . ليلة واحدة ليست مشكلة . لكنه لا يستطيع الذهاب الآن , سينتظر حتى يعودا من عملهما . أرتاح فوق مقعد القهوة . لا يريد سوى أن يرتاح قليلا ويشرب كوب ماء. لكن الجرسون جاء خلفه وكأنه ينتظره :
- شاى . واحد شاى .
سيشربه دون رغبة منه . المهم أن يكون ساخنا ليدفئ معدته الخاوية .
ذهب إلى شبرا , سأل عن أسم الشارع المكتوب في الورقة . صعد الدرجات القليلة , ودق الباب . خرج فوزى , كان يرتدى فانلة سواريه . نظر إليه في دهشة . كان بملابسه وكأنه شحاذ يريد إحسانا . ضمه فوزى لصدره وصاح من مكانه :
- صبرى , مفاجأة .
جاء صبرى وأخذاه إلى الشقة – هي في الحقيقة حجرة واسعة ودورة مياه اقتطعتها صاحبة البيت من شقتها وأجرتها لتساعدها على المعيشة :
- ما الذى جاء بك إلى القاهرة ؟
كان متعبا , يريد أن ينام . لكنهما أصرا أن يأكل في الأول . بعد المغرب بقليل عرضا عليه الخروج لمشاهدة القاهرة في المساء . وأن يجلسوا في قهوة بالحسين .
أراد أن يبقى في الحجرة , المهم أن تنقضى هذه الليلة ويذهب إلى مقر الشركة لمقابلة رئيس القطاع وينتهى الأمر . لكنهما أصرا على الخروج والسير في الشوارع .
ذكروا ما كان يحدث أيام الدراسة . وضحكوا . أشار صبرى إلى امرأة تسير على الرصيف المقابل , تصرفاتها تعنى أنها تريد رجلا . :
- ما رأيكما ؟
أسرع قائلا:
- لا أملك مالا .
قال فوزى:
- أنت ضيفنا . كل مصاريفك على حسابنا .
كانت المرأة صغيرة الحجم . تغطى جزءا من شعرها بغطاء أسود من خيوط التريكو المتشابكة , وتمسك " بوكا " صغيرا في يدها . أقترب صبرى منها . داعب غطاء رأسها وهو سائر في الاتجاه المعاكس فاستدارت وتابعته .
كان وجهها شاحبا وشبشبها يطرقع في أرض الشارع .
في البيت قالت أنها من " المكس" في الإسكندرية . وجاءت لإنهاء بعض الأوراق الخاصة بزوجها العاجز , ولم تجد مكانا تبيت فيه .
تذكر – هو – الضابط الذى قابله في الحمام الشعبى : " تأتى من الإسكندرية لتدخل حماما شعبيا ؟‍! وها هى المرأة تأتى من غرب الإسكندرية لتبحث عن الزبائن هنا في القاهرة .
حجرة وحيدة وهم ثلاثة والمرأة فوق السرير الوحيد الذى يكفى لشخصين فقط.
عندما جاء دوره كانت المرأة منهكة , قالت له :
- سرت طويلا, منذ أن نزلت من قطار الإسكندرية وأنا أدور على قدمى من مكان لآخر.....
جلست فوق السرير وهو بجوارها وفوزى جلس على الأرض وأنشغل صبرى بإعداد الشاى في مكان ضيق بجوار دورة المياه , قالت :
- لا أريد شايا . كل ما أريده أن أنام .
قال فوزى :
- أنتما ضيفانا , ستنامان على السرير , وأنا وصبرى على الأرض .
قالت :
- ليس مهما . المهم أن أنام .
وصاح صبرى وهو يحمل صينية الشاى:
- مهما فعلتما , لن تناما إلا على السرير .
فرش فوزى فراشا قريبا من دورة المياه , وذهبا إليه . نام – هو – على السرير ناحية الحائط , وسرعان ما استغرقت المرأة في النوم . رمت ذراعها إلى الخارج وتصاعد صوت غطيطها . سمع صوت صبرى :
- غلبانة , من شدة تعبها نامت بسرعة .
لم ينم – هو- لحظة. تابع غطيط صبرى ثم فوزى وتناغم الصوتان مع صوت المرأة . قام ليذهب إلى دورة المياه, فرأى " بوك" المرأة ملقى بجوار السرير وذراع المرأة ملقى ناحيته .
عاد من دورة المياه وكاد يصعد السرير, يتخطى المرأة التى تنام على جنبها ؛ لينام في الداخل . فكر , نقوده لن تكفى لثمن تذكرة القطار, ولن يجد ما يأكل به طوال اليوم . أمسك " بوك" المرأة وفتحه . صبرى وفوزى ينامان بعيدا . وحتى لو كانا مستيقظين فلن يرياه . رأى النقود الكثيرة داخل البوك . المرأة استغلت وجودها في القاهرة وجمعت بعض النقود من الرجال , أو ربما هي صادقة , والنقود نقودها جاءت بها من الإسكندرية , وأنه وصبرى وفوزى كانوا أول زبائنها . ليس مهما ؛ المهم أن يأخذ شيئا من " بوكها " وفعلا , أخذ النقود التى لا يعرف عددها , ودسها في جيبه , ووضع " البوك" كما كان على الأرض.
في الصباح أرتدى ملابسه على عجل . خشى أن تصحو المرأة وتكتشف السرقة . وحتى إن اكتشفتها ؛ فسوف يعطيها صبرى وفوزى ما تريد . سيعوضاها عما فقدته .
قال صبرى – الوحيد الذى استيقظ منهم - :
- أنتظر حتى أعد لك إفطارا .
- شكرا , يكفى ما قدمتاه لى .
وأغلق باب الحجرة عليهم وسار في شوارع القاهرة ..