من رواية لجميل عطية ابراهيم

مساحة للجني

ترك الجني نجع البطوطة في مصر ، ولحق بي في جنيف لمضايقتي ، حضر بطينه " وعبله " لينكد علي . بضمير مستريح رأيت حبسه والبادئ أظلم . من خرج من داره يا جني قل مقداره ، وهذا نصيبك : الحبس في وسط جنيف بدلا من القمقم . هذه خريطة جنيف ، ومن العدل حبسه في هذا المستطيل الذي يطل علي البحيرة ، مستطيل واسع يسرح فيه ولا يغادره ، الحبس في القرن الحادي والعشرين يختلف عن الحبس في القرون الوسطي ، هنا ، تجرم اتفاقيات جنيف الحبس في زنازين ضيقة ، فما بالنا بقمقم ؟ ولكن ، هل يتمتع الجن بالمزايا التي يتمتع بها البشر والواردة في الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب ؟ لست متأكدا ، والمسألة في حاجة إلي بحث ، ومثل هذا البحث دونه مصاعب كبيرة .

مسألة حقوق الجن لم تصادفني طوال عملي علي مقربة من مقر الصليب الأحمر الدولي في جنيف . شغلت طوال سنوات عملي بحقوق المعتقلين في السجون العربية وشغلت مؤخرا بأحول المعتقلين في جوانتنامو وسجن أبي غريب ولم أشغل نفسي بحقوق الجن للأسف . عرفت في صباي أحوال الجن وخبرت خبائثهم ولعناتهم وألاعيبهم من سجل الزمان الذي تركته لنا شهرزاد فاتنة الزمان . حملت حكاياتهم معي في ترحالي ، ولم تكن بينها حكاية واحدة تكشف عن حق لهم . شهرزاد روت لنا مكائد الجن وتجاهلت حقوقهم . لماذا يا شهرزاد ؟ سؤال المختصين في الصليب الأحمر الدولي والقانون الإنساني والقانون الدولي واجب . الحيوانات لها حقوق ، فما بالنا بالجن ؟ هذه مهمتي .

الحديث خبط لصق عن الجن مع عقلاء الصليب الأحمر الدولي غير مقبول ، ربما يقبل الهلال الأحمر المحلي في دول مثل كوزوماتو أو أفغانستان أو بنجلاديش فتح باب الأخذ والرد بخصوص حقوق الجن ـ لكن عقلاء الصليب الأحمر الدولي في جنيف وكلهم سويسريون ، لن يتساهلوا في الأمر . لنقل أن المسألة تتعلق برجال الفضاء الخارجي القادمين من كواكب أخري ـ حقيقة لم يرهم أحد من قبل ولم يتحقق من وجودهم أحد في وقتنا الحالي ، لكن هذا لا يمنع دراسة حقوقهم وواجب الضيافة إذا قدموا إلينا في يوم من الأيام ، ووضع بروتوكولات للتفاهم معهم ، فربما نذهب إليهم مستقبلا .

استرحت لهذا الرأي الأخير .. ليس مستبعدا أن يسخر مني رجال الصليب الأحمر الدولي في البداية ، ثم يصدر أمر بطردي ومنعي من دخول مبني الصليب الأحمر ، لأنني تجاوزت مصائب الأرض وذهبت بعيدا في خيالي ، ونخسر القضية في جنيف قبل فتح ملفات حقوق الجن والعفاريت . نقطة واحدة في صالحي تكسب هذه المسألة خصوصيتها ، شهرزاد ذاتها بجلالة قدرها وعشق الملايين لها ، ربما تطلب السكني كسائحة عربية في هذه المنطقة التي اخترتها للجني ، لتكتمل الصحبة : شهريار . الجني . السياف .

ما أحلى تجول شهرزاد علي طريق البحيرة ؟؟ الجن في ألف ليلة وليلة يجوبون الأرض والسماء ، يعرفون الطالع ، يساعدون البشر أو يحتالون عليهم . يحسن مناقشة هذه المسألة مع كريستينا صديقتي قبل عرضها علي الصليب الأحمر الدولي ، وما خاب من استشار ، وهذه قضية تتعلق بالجن . كريستينا تشاهد مسرحيات شكسبير في مهرجان أدنبرة بصفة سنوية ، وتعرف طريقة تعامل شكسبير مع الأشباح خيرا مني ، وهذه مهمة ، نقطة ضعفها جهلها بتراث شهرزاد ، أطلعها علي بعض الحكايات ، وإذا خافت من الجن أقول لها الناس اللي فوق أو الناس اللي تحت . هذا أفضل .

المساحة الواقعة بين محطة السكك الحديد وبحيرة جنيف منطقة مناسبة ، وضعت خطا يبدأ من شارع الدجاجة الصداحة التي لا يسمع لها صوت نهارا أو ليلا ، وينتهي إلي البحيرة ، وجدت عرض هذه المساحة يناسب الجني ، أما بالنسبة لطول المستطيل ، وضعت خطا من "" شارع الدجاجة "" الصداحة حتى منظمة التجارة العالمية بطول شارع لوزان . أكملت أضلاع المستطيل واسترحت . قاعدة المستطيل بطول شارع لوزان وتوازي البحيرة . وعلي ناصية شارعي الدجاجة الصداحة وشارع لوزان ، بنك شهير ، وبعده شركة طيران ومحلات متخصصة في الملابس الراقية ، وعلي الناصية المقابلة شركتا طيران ومبني البورصة ، ومقهى ومطعم ، وصالة بلياردو ، وفندق كبير ، وبين كل بنك بنك أو محل صرافة . قرب منتصف شارع الدجاجة الصداحة تبدأ سلسلة محلات جواهر ثمينة وساعات غالية الثمن . وهذه وحدها سوف تسعد جني نجع البطوطة صاحبنا .هذا المستطيل العامر يضم حيا بأكمله يطلق عليه اسم "" الباكيه "" . حي من أعرق أحياء جنيف ويحمل ميزتين بفعل الزمن ، شوارع وبيوت راقية ، وأخري متوسطة الحال ، ولهذا يقطنه قلة من الأثرياء من السويسريين وكثرة من فقراء الأجانب أو متوسطي الحال ، وتفوح رائحة الكلاب المدللة والقطط من أرصفة هذه المنطقة .

من كثرة ما تجولت علي الأرصفة في هذا الحي ، أصبحت علي معرفة بأبناء البيوتات الثرية . أبناء البيوتات الثرية كلابهم دوما نظيفة ، ولا تغرق الأرصفة بالفضلات ، أما أبناء الفقراء ، فلا . يا فرحتك يا جني نجع البطوطة : نلت حسن الإقامة بشروط أفضل من شروط شهرزاد في ألف ليلة وليلة .في نهاية قاعدة المستطيل من الناحية الثانية ، مكلمة سادة العالم الجدد في منظمة التجارة العالمية ، بيانات واجتماعات حتى الفجر ، وهذه وحدها حكاية ..

يخطئ من يعتقد أن جني نجع البطوطة سوف يرضي بنصيبه ويقبل بالسكني في جنيف بسهولة ، جني نجع البطوطة حرامي ومشاغب ، وأعرفه منذ مولدي ، صحبني في المسرات وفي المحن ، وبالتأكيد سوف يحاول الهرب . لنرجع إلي الحيل القديمة في مواجهة الجن ، بول النساء الناضجات سوار الآمان ، الجني لا يقدر علي الاقتراب من بول امرأة ، وإذا اقترب احترق . أغرق أسوار المستطيل ، ببول كريستينا ، أدعها ترش المنطقة بعناية حول المنافذ ومداخل الطرقات ، وقبل مفاتحة البنية في هذه المسألة الحساسة ، التي يمارسها الناس نهارا وليلا ، بدأت التدريبات في شقتي نهارا ، وعلي حافة البحيرة ليلا .

أرمح وأوسع بين فخذي ، وأرفع ساقي اليمني ، ثم أتابع سيري عدة أمتار ، وأتوقف وأوسع ما بين فخذي .لم تطاوعني نفسي علي التبول في شقتي علي المقاعد وعلي السجاد ، ولا في الطرقات أثناء التوقف أو الجري ، تلك عملية صعبة علي النفس وفي حاجة إلي تدريبات مركزة . أرجأت عملية التبول والرش بعض الوقت . أذهب إلي كريستينا في شقتها الواسعة الجميلة ، أخلع ملابسي وأدور حول الشقة ، من غرفة النوم إلي الشرفة الطويلة الواسعة ، ثم أعبر غرفتي المعيشة والطعام جريا وأعود مرة أخري إلي الشرفة . تسألني لماذا الجري ؟ ـ تدريبات اليوجا الجديدة . بعد عدة أيام طلبت منها مصاحبتي الجري ، فعلت ، قالت : لا بأس في الجري داخل الشقة . طلبت منها الجري حول البحيرة ، قالت : هذا لا يصح . لنذهب إلي ناد من الأندية . ولما طلبت منها توسيع ما بين فخذيها ، ورفع ساقها عند الوقوف ، اعتذرت بشدة . غلب حماري . وعدت إلي نقطة البداية وتملكني الغم .

كيف نغرق المنطقة الواسعة بالبول لنمنع الجني من الهرب ؟ في البراري والغابات ، رائحة بول الأسد سند ملكية الأرض وما عليها وما في جوفها . يؤكد الأسد موطنه بعلامات البول التي يرشها حول مساحة تتراوح بين عشرين كيلومترا وثلاثين كيلومترا .في جيبي صور لعملية ترسيم الحدود عند الأسود ، وكلها تبرز حركة رفع النصف الخلفي إلي أعلي ، وتوسيع ما بين الفخذين . في جنيف لا تجري أسود في الطرقات ، وسرت من شارع " الدجاجة الصداحة "" في اتجاه البحيرة ، مهموما .الوقت ليلا ، والجو مائل إلي البرودة ، وبرزت في رأسي رؤية سديدة ، ما يقلقني منذ الصباح ، تخلصت منه ، ووجدت له حلا .

زحت كابوسا عن كاهلي ، ويتبقى التصرف بحكمة ، وعدم الإساءة إلي كريستينا من قريب أو بعيد . سرت في خط مستقيم علي هيئة مستطيل من شارع " الدجاجة الصداحة " وحتى منظمة التجارة العالمية ثم عدت إلي البحيرة وسرت علي الشاطئ حتى عدت إلي شارع "" الدجاجة الصياحة "" . درت حول المساحة التي خصصتها لحبس جني نجع البطوطة ، وتأكدت من صلاحيتها ، وأنها أفضل من القمقم . قمت برفع الحدود كخبير هندسي ، وقضايا الحدود هي الشغل الشاغل لمحامي النزاعات الدولية ، ومحكمة العدل الدولية ومحاكم التحكيم من قضية طابا إلي .. ولا تتم عملية رفع الحدود وترسيم العلامات وإقامة الأعمدة إلا علي الطبيعة ، هذه هي الأصول ، اليوم قمت بعملية الرفـع ، وبعد يومين أو ثلاثة تساعدني كريستينا في عملية ترسيم الحدود . المهمة صعبة ولن تخذلني .

طاوعتني كريستينا كثيرا ، وهذه المرة زادت طلباتي عن المقبول والمعقول والمسموح به في التعاملات بين الأحبة . طلبت المستحيل الفج . أربطها بحبل وأسرح بها كعنزة أو بقرة من شرق جنيف إلي غربها ، لرش منافذ المنطقة بالبول .. كريستينا حاصلة علي درجات علمية عالية ، وذات قلب طيب وتتفهم نوازعي الإنسانية ، ولكن ليس إلي حد الدوران في المدينة عارية أو شبه عارية والدنيا برد لتضع قطرات البول علي الأرض والجدران مثل كلاب الفقراء . رفضت كريستينا أقوالي بشدة وأغلقت باب الأخذ والرد في هذه القضية . ولتخفف من محنتي ، وغضبي المكتوم ، سألتني سؤالا عابرا لا معني له عن سبب مشاغلي هذه الأيام ؟ لم أقل لها شيئا عن الجني والقمقم الصغير ، قلت : ـ اتفاقيات جنيف وحقوق الناس .

كنا في شقتها ، نصحتني بإعادة الجني إلي القمقم . قالت : هذا أفضل . لا تسرق منه الخلود . طالما الجني في قمقمه فهو في ساحة الخلود ، ربما ينعم بأزمنة قادمة أفضل ، قد يغادر القمقم في آخر الألفية الثالثة مثلا ، أترك له المستقبل . البنت معها حق . تقبل الجني الحبس في القمقم راضيا غير متذمر من وقت شهرزاد إلي زمن العولمة الحالي . كرجل حكيم ، طلبت منها مسايرتي في أوهامي التي تغرق دروبي . هذه حكاياتي . دعتني إلي العشاء ، قالت : الطعام علي مزاجك . بيكاتا . سباكتي بولونيز . وشرائح الأناناس مع لحم الدجاج بالكاري . ما رأيك ؟ لم تكن بي رغبة في الطعام ، كنت مهموما ، طلبت منها الجري في الشقة قبل العشاء ، وافقتني .

قطع نفسي من الدوران في الشقة ، ولم أطلب منها شيئا ـ لم أكن متأكدا من عمق تفهمها لموقفي . وعندما توقفنا عن الجري في الشرفة ، قالت : ـ صديقاتي يقلن أن كريستينا علي وشك الجنون . صمت وزاد حزني . لم تزد . فهمت رسالتها ، لم أقل بعد العشاء نذهب سويا إلي منطقة البحيرة نرش المنافذ ومداخل الطرق . في القاهرة يرشون الشوارع بمادة لقتل الذباب ، وهنا نرش وسط جنيف بالبول . قالت : ـ أعددت زجاجات ملآنة بماء الكولونيا لرش المدينة ، كل شارع نقطة ، ما رأيك ؟ وافقتها . أكلنا وشربنا وضحكنا ، جلست كريستينا وقامت ، ذهبت وعادت مندفعة تصرخ : البول يغرق قطع السجاد والمقاعد والدواليب ؟ لم أكن قد تبولت علي قطع الأثاث سوى مرة واحدة ، وفي نيتي التبول ثلاث مرات علي الأثاث والجدران ، قلت : مساحة للجني . وفي البعيد البعيد رأيت الجني يجلس بجوار مقبرة جدي في نجع البطوطة