البحر يا ماريّا

غمامة العصافير التي طارت قرب الشمس، حملت معها نتفا من قلبي، لكني أوليت لها ظهري ومضيت أركل الأحجار التي بالطريق.
سماء من الزرقة والوهج كانت تلوح بي.. من الزرقة والوهج!
وكنت أحاول الفرار من تلك الذاكرة التي تشدنا دائما لأماكننا، بينما الأيام تتساقط مهملة أمام أعيننا، أقول-تلك الذاكرة هي صنو للموت.
وهكذا كنت أحدث نفسي وأنا أقطع الطريق الذي يشق المدينة  نحو البحر ونحوك يا ماريا وأنا "انني افتقد حتى ظلي، غير أن البرودة التي اجتاحت الفرح من قبل أصابت الحزن أيضا".

كانت مستلقية على الرمال الساخنة، وعيناها نحو البحر، وعين الشمس على ظهرها العاري، وحين اقتربت منها وجلست دونما كلمة، رفعت وجهها إلى ونظرت في وجهي، ودونما كلمة، عادت ترنو نحو البحر.
وكنت أكوم تلا صغيرا من الرمال الناعمة وأنا أفكر في افتقادها الوشيك حين سألتني: ألن تكف عن العبث بالرمال؟، كدت تطرف عيني. فأزحت كومة
الرمال بكفي، وسألتها وأنا أنفض التراب من يدي.
ستسافرين يا ماريا؟
بعد أسبوع.

كنت حقا أشعر بافتقادها، لكن قلبي كان قد تحول لعلبة فارغة صدئة، هززتها وأخذت أرجها بجوار أذني فلم أسمع لها صوتا.
سألتني:
هل ستصحبني للمطار؟
وهبطت الطائرات وصعدت، وتخيلت نفسي في زحمة المطار. واقفا في شرفة المودعين، تفر الدمعة من عيني فأمسحها بالمنديل الكيلينكس ثم أعود ألوح لها بيد- مع السلامة يا ماريا.
غير أن ضجيج المطار سرعان ما أصابني بالصداع، فقلت لها: كلا يا ماريا، لا أحب أن أذهب إلى المطار في الغرب، كان قرص الشمس يغوص في البحر رويدا رويدا، والنهار ينطفىء ، وماريا التي احتضنت ركبتيها وجلست تحدق في الشفق، هتفت بانبهارها الطفولي:
آه.. ليتني أستطيع أن أسبح حتى هناك.
الشمس يا ماريا ؟!
كلا.. أعني بيت أمي.

وكنت قد وقفت أنفض بنطلوني لأنصرف، فقلت لها.
هيا اذهبي يا ماريا، اذهبي وجربي.
وكنت أود لو تمهلت، لكنها أخذت تضرب بذراعيها وهي تمضي في البحر ثم تعود تلتفت نحوي وهي تصيح:
هل هذا يكفي.
فأقول لها:

أكثر يا ماريا.. اذهبي .. اذهبي.
وابتعدت كثيرا في البحر ولم أعد أرى في الأفق سوى نقطه صغيرة توغل في البعد ، غير أن الريح كانت تأتيني حاملة صوتها.
هل أذهب أكثر من ذلك.
فأصبح في وجه الريح بأعلى صوتي.
أكثر يا ماريا.. بعيدا.. بعيد.