اللوحة

وقف أمام اللوحة. فبدا عاجزاً عن فهم مضامينها. الشك يميز علاقاته. والغموض يلف ألوان اللوحة السريالية المائعة.

تلك غيمة مسافرة إلى بلاد واسعة ، وتلك غيمة ماطرة على رمل ذهبي اللون. غداً سيرحل فوق تلك الهضاب الموبوءة بالأمراض .. وسيقف عند النخيلات الصغيرة ، لكي يناجيها. ويلقنها أسرار المدينة. لن يكترث للقوارب المحطمة ، القوارب التي حملت الصبية ، والجواري ، والعبيد ، من الأراضي البكر ، ثم جثت على رمال الصحراء. لن يهتم بها مطلقاً. فقد قال ذلك لابنته حليمة. ويتمنى أن تكف حليمة ، عن أسئلتها يوماً ما ، الأسئلة التي عذبته كثيراً. فيحس بالإرتباك عند كل إجابة.
- أبي لماذا تغادر ، كما تغادر الغيوم؟ يحاول الإجابة فيتلعثم. أراد أن يقول :
- أنا لا أرغب في الرحيل. لكن اللوحة ذات الألوان المائعة تلك قد تغيبني في طياتها.
قالت حليمة بدلال ماكر :
- أبي أجبني كيف غادرت نوارس البحر الصاخبة. وعاد للساحل هدؤه. حاول أن يقول لها ، إن الشك قد سيطر عليها ، وأن الأنواء قد أفقدتها ثقتها. إلا أنه لم يقل شيئاً بل بدا صامتاً وحزيناً.

لماذا يحدق في تلك اللوحة. الوجوه لا تشبه الوجوه ، والغيوم تحاول الرحيل ، قبل الإعصار ، فلا تمطر. هذه الوجوه جزء من تاريخ طويل ، يحاول الهروب منه ، يرغب في تجاهله ، ونسيانه. فلا يستطيع. كان يتمنى أن يحقق أحلام حليمة الوردية ، إلا أنه الآن لا يدري كيف تفكر حليمة. كيف تنظر إلى الأشياء. الأشياء مجردة من عواطفنا ، مشاعرنا ، أفكارنا.
تحرك حراس المتحف في كل الإتجاهات ، سدوا جميع المنافذ ، والأبواب ، خوفاً من هروب الغيم من اللوحة. بينما وقفت حليمة ، من بعيد تبتسم ، وتحرك رأسها بحثاً عن أبيها. وجدته في أقصى القاعة ، يخاطب الزائرين. قال أبو حليمة للصحفيين ، اللذين جاءوا لمشاهدة اللوحة ذات الألوان المائعة :
- هذه اللوحة تعلمنا أشياء عديدة. أشياء يمكن للبعض تصديقها ، ويمكن للبعض الآخر منكم رفضها. هذه اللوحة تجردنا من مشاعرنا. حالاتنا النفسية. لقد نظرت حليمة إليها من قبل. فأضحت مشاعرها مكتوبة بعقلها لا بقلبها.
قال أحد الصحفيين ، أثناء فترة من الصمت :
- تقصد أن اللوحة تفرض من واقعها علينا كمشاهدين لها. فلا نشعر بمأساة رسومها.
- لا ليس ذلك ما قصدت بالضبط. بل إن اللوحة برسوماتها المائعة تجعل من الإنسان يفكر. بموضوعية تامة. بعيداً عن العاطفة.
قال صحفي آخر يرتدي نظارة سوداء :
- ولكن لم تقل لنا حتى الآن كيف اكتسبت تلك اللوحة هذه الصفة. من أين جاءتها تلك الميزة.
- أنظر إلى اللوحة لبضع دقائق. ثم قل لي هل أنا صادق فيما أدعي أم لا. 
نظر الصحفيون إلى اللوحة. فلم يجدوها. قال أحد الحراس إن اللوحة قد صودرت. فالناس في هذه المدينة ومنذ ثلاثة أيام ، بدأوا يتصرفون تصرفات حكيمة ، مجردة ، عاقلة. وهذا يهدد أمنها. توسل أحد الصحفيين أن يصورها. فلم تفلح توسلاته. بينما انزوى الرسام ، في أحد أركان المتحف. وأحس أنه يتدفق عاطفة لم يعهدها. صوت العصافير ، هذا الغروب المفاجئ للشمس .. أشعراه بالحزن والمرارة. حينها شعر بأنه لا فائدة ترجى من كل رسوماته. الرسومات التي اعتز بها دائماً. لم تعد تساوي شيئاً.
حليمة وحدها فقط ، تشعره بنوع من التوازن الذي يفقده فجأة. التوازن بينه وبين الآخر. يفكر بعيداً. يتألم. يشعر أن حياته دون حليمة ، ودون رسوماته ، بلا قيمة تذكر.

بعد قليل ، يسمع ضوضاء من بوابة المتحف الرئيسية. ضوضاء الحرس ، تأكد أنهم جاءوا للقبض عليه. فحاول الإفلات. إلى أين لا يهم.المهم هو الهروب. لا يرغب في أن يحاصر كقط مشاكس ، قد أغلقت الأبواب في وجهه.
تلفت لم يجد سوى اللوحة ذات الألوان المائعة ، فدخل فيها واختفى.
بحث عنه الحراس في كل مكان. فلم يجدوه.