بائع الـسوس

لم يدرك كيف ارتمى أرضاً بجانب دراجته الهوائية, أو هكذا بدا له تواً مع مرور الرصاص فوق رأسه قادماً من جانبي الزقاق الذي يستخدمه عادةً كطريق مختصرة بين بلدته والمنطقة الصناعية. كان الليل حالكاً تماماً إلا من بعض الانارة الخارجية لبعض البيوت, حتى بدأت شرارات الرصاص وأزيزها تقلب هذا السكون الذي اعتاد عليه يومياً.

صامتة هذه الأحياء القديمة, لكنها تعرف تماماً متى تستيقظ من سكونها المرعب, لتفرغ في جعبة الحاضر كابوس الماضي, وكبته المقيت عبر انكسارات الروح وفيضان الأوردة نهراً غاضباً قادر أن يأتي بربيع جديد, كلما حاول أحدهم حجب الشمس عن هذا التراب. تلك الشمس التي تعود أن يراقب اشراقها صباحاً من خلال سنابل القمح الضامرة أيام الحصاد في قريته البعيدة قبل أن يقرر هجرها, متجهاً إلى المدينة بحثاً عن مورد آخر للعيش.

لم يعرف تماماً للوهلة الأولى طبيعة الغضب الذي ولّد شرارة الرصاص بين سيارة الجيب وأخيلة رجال في الجهة الأخرى, لم يتمكن من رؤية وجوههم جيداً, حتى أنه لم يشعر بإي ألم في يده إثر السقوط السريع أرضاً, لأن أفكاره قد حملته إلى ذكريات متلاحقة سريعة مرّت أمامه كشريط فيديو, وكأنها اللحظات الأخيرة في حياته.

صحيح أنه نجا من الموت مرتين, كانت الأولى عندما انفجرت قذيفة بجانبه في حرب حزيران, والثانية عندما قصفت الطائرات المصنع الذي يعمل به أثناء حرب تشرين, لكنه لم يشعر في كلتا الحالتين باقتراب من الموت كما شعره هذه المرة في تبادل اطلاق النار بين أجهزة السلطة وبعض المعارضين الذين سمع عنهم الكثير لكن عمله المتواصل لأكثر من خمس عشرة ساعة يومياً, قد حجبه تماماً عمّا يدور حوله من أحداث.

كان يشعر بكل ما يدور تماماً, كلما رأى طوابير الناس تتهافت صباحاً على كوة بيع الخبز, التي كان يعمل فيها لثلاث ساعات صباحاً. وكثيراً ما اضطر ابنه الصغير للانتظار تلك الساعات وراء الطوابير, حتى يتمكن من رؤيته عندما ينتهي من بيع شحنات الخبز الموردة إليه من الخبز الآلي.

كانت فرحة ابنه كبيرة عندما يتمكن من الدخول إليه من الباب الجانبي ليساعده في تفريغ بعض صناديق الخبز, ثم يجمعها في احدى الزوايا استعداداً للشحنة التالية. ولشد ما كانت فرحته أكبر عندما ينتهي والده من بيع كامل الخبز, كانتصار محارب بعد معركةٍ ضارية.

بالرغم من أنّ عودته إلى الشارع من جديد, وما يحمله من احتكاك مع الكثير من أهل مدينته بكل مشاربهم, بعد أن يذهب إلى البيت لاعداد عربة السوس البارد, وما تحتاجه من قطع الثلج المتطاولة, لبدء عمله التالي في حّر الشمس كبائع للسوس.

رغم هذا لم يشأ بائع السوس أن يتجاوز الحدود السياسية المفروضة على الجميع, حتى أنه كان يتهرب من هذه المواضيع, رافضاً ابداء الرأي في تشجيع أو استنكار أي شيء سياسي يدور حوله. بل أكثر من هذا كان يراقب بحذر شديد رغبة ابنه ذي الاثني عشرة ربيعاً للسؤال عن بعض الأمور, وخصوصاً تلك المتعلقة بمحرماته الأساسية كالسياسة والدين.

مع هذا فهو يعرف تماماً أن نومه بعد السير الطويل, محاولاً أخذ قسط من الراحة قبل ان يبدأ ثالثةَ عمله الليلي في المنطقة الصناعية, كان بعداً آخر عن أفراد اسرته, وخصوصاً ابنه الكبير. وهذا لا بد أن يخلق في ذهنه الكثير من التساؤلات التي تحتاج لاجابه ليكون أكثرها تحدياً على الاطلاق: لماذا يضطر بائع السوس للعمل ثلاث مرات في اليوم تضعه دون شك في غربةٍ حقيقية حتى عن أفراد أسرته؟

وحدها جدران الزقاق وحفره, التي تمدد فوقها هرباً من الرصاص, تعلم تماماً الفرق بين الحياة والموت, وتستطيع متى أرادت أن ترمم نفسها, وتستعيد ألقها وشبابها رغم كل الجراح وأخاديد الزمن المحفوره على جبينها. إنها ارادة البقاء تسيره دون وعي لتضع أمامه لقمة العيش هدفاً وحيداً حوّله تدريجياً لآله مثل الآلات التي يتعامل معها في المصنع, مدركاً تماماً مصيرها حين التوقف النهائي عن العمل.

لم يفكر بائع السوس أبعد من أنها لحظاته الأخيرة, فإن لم يصبه الرصاص سيأخذونه كالشاهد الوحيد على ما جرى, وهناك سيغيبونه تماماً كما غيّب هو نفسه السياسة والدين حتى عن مخيلته. إنها أشد لحظات حياته حرجاً, أو بالأحرى أشد ما تبقى منها, وقد أدرك الآن بكل وعيه أن ما تبقى ليس بالكثير. مع اشتداد غضب الرصاص فوق رأسه كان يُشعره أنه يقترب من النهاية أكثر وأكثر, وللحظة تبادر إلى مخيلته أفراد أسرته النائمين الآن في غرفةٍ واحدة حول أمهم المسكينه, التي لا بد أنها ستبكيه كثيراً مع طلوع الصباح, كما سيبكيه أطفاله الخمسة دون أن يعلموا تماماً كيف حدث ذلك, ليضيف بعدها ابنه الكبير سؤاله الأهم : أين ذهب بائع السوس؟

هذا السؤال لن يكون حتماً سؤاله فقط, بل سيكون أيضاً سؤال جميع من تعود أن يشتري منه كل يوم, أو من رأى وجهه كل صباح خلف كوة الخبز وقد أمطر عرقاً غزيراً. وحدها قريته الصغيرة ستعرف الإجابة عن هذا السؤال إذا ما قدر لها أن تضمه كما كانت تعانقه أيام الحصاد.

حاول أن يسترق النظر لنوافذ البيوت حوله, علّهُ يجد ضوءاً يزحف نحوه, ولكن لا جدوى فلابد أن جميع الجيران أفاقوا على أزيز الرصاص, لكنهم آثروا أيضاً أن يغيبوا الضوء عن بيوتهم, فاكتفوا بسماع الأصوات تحت حلكة الظلام وكأن شيئاً لم يحدث. ياترى هل تحولت هذه المدينة إلى بائعي سوس مثله بمحرماته نفسها وانشغال وقته كاملاً في العمل وانجاب الكثير من الأولاد؟ كأنها تعلم تماماً أن طوفاناً ما لابد أن يحصد قسماً منهم ويمكن أن يحصدهم جميعاً. ومع هذا كان يحب هذه المدينة, مثلما أحبّ قريته الصغيرة. وبالرغم من غياب النور الذي بحث عنه, شعر من جديد بالنور القادم من شقوق الجدران القديمة, وكأن هذه الأزقة الأثرية تحاول أن تمده بالدفء الذي افتقده منذ أن غادر قريته, بل إنه لمس تماماً التشابه بين جدران تخبىء بين شقوقها نوراً دافئاً, وسنابل قمح تتطاول سعفاتها أمام خيوط الشمس الأولى.

لم يترك بائع السوس لأفراد اسرته شيئاً يذكر, غير البؤس والفقر والدين الذي عاش فيه رغم عمله المتواصل, ورغم أنه حاول أن يبقى بعيداً عن كل الأسئلة التي تدور حوله؛ لكنه الآن وجد نفسه مدفوعاً للبحث عن جواب سؤاله الأول الأكثر تحدياً له: من سيرعى اسرته لو رحل الآن؟ فمازال أطفاله صغاراً, وما هي الحكمة من قدرٍ كهذا؟

كانت فكرة الرحيل المبكر ترعبه أكثر من الموت نفسهُ, وهو الذي دنا منه مرتين في الماضي دون خوف. كان متفاءلاً كثيراً بأن المعجزة الألهية قد حدثت بعد حرب تشرين, وأن الوضع أخذ يستقر رويداً رويداً حتى الحرب الجديدة التي اندلعت هذا الصيف على الطرف الآخر من الحدود, بالإضافة إلى المناوشات الصغيرة الداخلية خلال العامين الماضيين, والتي لم يسمح حتى بادخالها إلى مخيلته, لكنها الآن قد أسقطته أرضاً بجانب دراجته كقدر لا مفرّ منهُ.

ما هذا القدر اللعين الذي أسقطه دون غيره, وهو الأب لأسرة لم تنضج بعد, في هذا المأزق الحرج؟ لقد ظنّ أنه سيبقى آمناً بالحفاظ على محرماته, والعيش كالكثير من القانعين غيره بهذا الواقع المزري؛ أما الآن فلن ينفعه صمته الدائم الذي تعود عليه, وعدم اكتراثه بما يجري حوله. لكن ما الفائدة لو تكلم الآن, أو بقي صامتاً, فهو في الحالتين يراقب بعينين واسعتين لحظاته الأخيرة.

أيها الوجع الذي لا يندمل كجرح نتن. أيها الغبار الذي كنت قصوراً في الماضي البعيد, ماذا تبقى على مسرحيتك الأخيرة غير مشهد آخر يضاف ببساطة لكل المشاهد المؤسفة البائسة في رحلة العمر القصيرة. أيتها السنين التي مرت بمخيلته, لماذا توقفت في هذه المحطة المرعبة, دون أن تَصلي هدفك الموعود؟

أغمض عينيه لبرهة, محاولاً الهروب من لحظته الأخيرة, إلا أنّ أزيز الرصاص المتطاير فوق رأسه جعله يفتحهم تماماً, وكأن الواقع الذي يعيش الآن لا مفر منه وقد استطاع بقوة اختراق محرماته وحدوده التي بدأت ترسم خطوطها على وجهه المتعب سنة بعد أخرى.

رغم أن حياته لم تخلو من محطات الفرح القليلة , عندما بدأ يرزق بأولاده واحداً بعد الآخر, وعندما كان يداعبهم كأب حنون ويشتري لهم الهدايا والثياب في العيد, لكن محطة الحزن الأخيرة غطت تماماً كل ومضات الفرح, عندما اعتصر قلبه متساءلاً من سيشتري الطعام لأطفاله بعد رحيله المبكر؟ أيها الإله الذي قدسك بفطرته, لماذا فعلت هذا به؟ هل كان سيئاً لهذا الحد حتى أردت رحيله باكراً؟ أم أنّ أطفاله سيذكرونه كبطلٍ اسطوري استطاع العمل بكل قوته حتى محطته الأخيرة, أم كان من الأفضل لو أنه عاش بضع سنين أخرى حتى ينهى أولاده تعليمهم الثانوي أو حتى يشتدّ ساعد ابنه البكر, ويصبح قادراً على خوض نفس التجربة التي عاشها كبائع سوس. تبادر إلى ذهنه أن عربة السوس, ودراجته الهوائية هي إرثه الوحيد, ولكن هل سيستطيع ابن الثانية عشرة ربيعاً أن يدفع هذه العربة الثقيلة. صحيح أن الصغير كان يصحبه بعض أيام العطل, أو يلاقيه في ساحة البلدة حين العودة من المدرسة, لكنه يتذكر أنّ اليدين الطريتين كانتا بحاجة له لدفع العربة الثقيلة في بعض الطرق الصاعدة, وتعتمد عليه كلياً عندما يريد رفع الجزء الخلفي من العربة الخشبية, كلما أراد الانعطاف في شارع آخر, مع الحفاظ على توازن الصناديق الزجاجية الثلاثة لعرق السوس والتمر هندي وماء الغسيل, وما تحمله العربة من حمل إضافي داخلي هو قطع الجليد المتطاولة للتبريد.

يا له من حمل ثقيل سيزداد وطأة على هذا الصغير الذي ودع طفولته مبكراً, واضعاً أمامه الكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى حل. آه لو تمكن فقط من أن يشرح له معنى أن " يسير الحيط الحيط, ويقول يا رب السترة" وهو الشعار الذي وضعه نصب عينه هروباً من التساؤلات الكثيرة التي كانت ترعبه بدورها عندما كان صغيراً.

أه كم يشعر بعطش شديد لكأس من شراب السوس البارد, ليطفأ هذا الظمأ واللهيب المرعب اللذان أصاباه فجأة. كانت الأفكار تتسارع لمخيلته أسرع من الرصاص المكتظ حوله, وكانت كل طلقة كفيلة وحدها أن تبسط أمامه كل ذكرياته التي عاشها, منذ أن ترك قريته الصغيرة للعمل في هذه المدينة العظيمة, كما كانت كفيلة أيضاً باخماد كل هذه الذكريات الملتهبة دفعة واحدة.

مع ابتعاد صوت الرصاص الذي كان يمّر منذ لحظات فوق رأسه مباشرةً؛ أخذت الأفكار بالتباطىء التدريجي, وكأنها كانت ترقص على أنغام الرصاص, حتى وجدّ نفسه وحيداً مرمياً على حفر الزقاق الصغير بجانب دراجته الهوائية, وحيداً في سكون مرعب لم يصدق للحظة أن الرصاص قد مزقه خلال ربع ساعة مضت, وأنّ سقوطه السريع أرضاً وسط حلكة الليل قد منحه فرصة أخرى في الحياة, خصوصاً عندما تأكد أن سيارة الجيب غادرت بعيداً.


****************
كتبت في ديلوار 8/12/‏2003‏‏