بط أبيض صغير

من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . توقفت منذ شهور طويلة عن شراء الصحف ، أية صحف . لم أعد أفتح التلفزيون . توقفت عن توقيع البيانات السياسية ، وتوقفت عن النقاش فيما يحدث حولنا . أخبار الأحداث السياسية الهامة صرت أتسقطها من أفواه معارفي خلال مكالمات هاتفية عابرة ، أو لقاءات بالمصادفة وسط المدينة . قلت لنفسي : لا شئ يتغير إلي الأفضل . وكنت أعلم أنني مخطئ ، وأن ما أقوله يعني أنني لا أرصد التغيرات بدقة . فلابد أن هناك أشياء تتحرك إلي الأحسن وأنا لا أراها . توقفت عن الكتابة في القضايا السياسية حتى عندما ُضربت رفح على حدود مصر ضربا وحشيا ، وتهدم من غزة ما تهدم ، وفقد ثلاثمائة ألف فلسطيني نصف دخولهم ، لأنهم شعب يؤمن بأن الهواء الذي زفرته رئتاه هواؤه ، وهم يقولون له إن ذلك الإيمان تعصب ، وأننا في النهاية سنحصل عوضا عن بلادنا على مجتمعات مدنية تزهو بتعددية الآراء وتناقش حقوق الإنسان وليس حقوق الأوطان ، فإذا لم يعجبنا ذلك العرض السخي فإن قصفا جديدا سيبدأ لتثبيت الإصلاح الديمقراطي وقبول الآخر . من قبل كنت أتابع كل شئ ، ثم توقفت عن متابعة أي شئ . لكني بحكم العادة والفضول القديم أشغل التلفزيون من حين لآخر، أشاهد فقط مقدمة النشرة الأخبارية التي تستغرق أقل من نصف الدقيقة ، وخلال ذلك ، مثل الماء الذي ترفع عنه السدود فجأة ، تتدفق نعوش أطفال الفلسطينيين من شاشة التلفزيون إلي صالة بيتي ، يحملها الناس وهم يهرولون بها قبل أن تشن عليهم غارة جديدة ، لدفعهم دفعا نحو الحرية التي يبغضونها لسبب ما . أغلق التلفزيون وأندم أنني فتحته . لكن طوفان الأطفال الذين ينظرون إلي بلوم يكون قد سرى من الشاشة الصغيرة وشغل كل فراغ في شقتي . طوفان ، ينظر إلي بعتاب ، وعدم فهم ، نظرة مذنبة ، مشبعة بالرجاء لأنه احتمي بمنزلي دون استئذان ، وشغل كل المساحات الشاغرة بين قطع الأثاث في غرفة مكتبي وغرفة نومي وفي الردهة الممتدة من الصالة إلي الحمام والمطبخ . يستريح الأطفال المبتلون بالدم قليلا من جحيم القتل اليومي ، ويألفون المكان ، ولا يغادرون شقتي ، لأن الدنيا في الخارج مرعبة . وما أن أنهض من مكاني لأنتقل إلي غرفة أخرى حتى يسارعون بالسير خلفي مثل سرب من البط الأبيض ، ويتبعون خطواتي أينما توجهت برؤوسهم المشجوجة ، وشريط الشاش الأبيض الذي يربط الفك السفلي بأعلى الرأس ، لكي لا يسقط الفك في الهواء . صفوف طويلة من البط الأبيض الصغير تسكن معي منذ شهور طويلة ، وتتبعني كأنها وجدتني وتخشى أن تفقدني الآن ، تتنقل ورائي من غرفة لأخرى ، وتسارع بالتكدس حول قدمي في المطبخ ، وحين أهم بمغادرة المسكن يقف البط الأبيض الصغير عند باب الشقة صفوفا ، يمط رقابه النحيلة الطويلة لأعلى ، يتفحصني ، ويهز رأسه قليلا ، ومنقاره السفلي مثبت بقطعة شاش إلي رأسه ، ينظر إلي صامتا ، متسائلا إن كنت سأعود إليه أم لا ؟ .
أرجع في المساء ، وأفتح الباب ، فتخفق أجنحة البط الصغير في الهواء ، وتضطرب صيحاته في جو الصالة ، وتسبح أياد ، وعيون مغلقة ، وعيون مفتوحة ، وكراسات ، وأقلام ، وأحذية وصنادل صغيرة . أخطو بين الصفوف البيضاء محاذرا نحو غرفة المكتب وتتدافع الصفوف ورائي ، أتوقف أمام باب الغرفة ، وأشيح بيدي له أن ينصرف ، أريد أن اهتف فيه ، لكنه يظل واقفا ، صامتا ، وعيناه معلقتان بي . في الليل يملأ البط الأبيض كل موضع في غرفة نومي ، ينعس فوق صوان الملابس ، وعند حافة النافذة ، وعلى أطراف سريري ، فإذا حركت ذراعي أو تقلبت على جنبي ارتطمت به . أتطلع إليه ، فيحدق في ، بصمت ، ورهبة ، وأمل . منذ شهور طويلة وأنا أشعر أن واجبي الأول أن أعيد تلك الكائنات البيضاء الصامتة إلي هيئتها البشرية الأولى ، وجلودها الغضة ، وصيحاتها ، وقدرتها على السير ، وأن على بكل ما أوتيت من قوة أن أفك عنها السحر الذي ربطها أمامي هكذا . منذ شهور طويلة وأنا لا أتعرض للأوضاع السياسية بكلمة . لأن شيئا لا يتبدل ، ولأن كل ما يمكن أن يقال معروف تماما.صرت أهرب من كل ذلك إلي الكتابة في النقد الأدبي ، أكتب وأحس بالخجل لأن صوت القنابل الإسرائيلية يكاد أن يصل لأذني ، ويكاد زجاج نوافذ شقتي أن يرتج منه، لكني أسد أذني وقلبي بإحكام ، وأستمر في الكتابة عن تقنيات القصة القصيرة ، أو التقدم ا لذي حققته الرواية المصرية . ثم أخرج قليلا أتجول في الشوارع القريبة وأعود . أفتح الباب ، فتلقاني الأجنحة البيضاء التي تخفق في الهواء ، وتلك النظرات ، والمناقير المربوطة بقطع الشاش الأبيض . فأشعر أنني كنت أهرب ، كأنني جندي تسلل خلال القصف ، وترك زملاءه وحدهم هناك ، وهبط من التل المشتعل بالنار إلي أشجار الغابات البعيدة . يقول لي البعض : " الحياة لا تتوقف ، والنقد ، والصحافة ، مهام ضرورية لا تتعطل " . أقول لنفسي : " بالطبع . يد محترقة لا تمنع اليد الأخرى من تناول الطعام " . لكن لماذا أحس بمرارة وأنا أكتب ، أو حين ألتقي بالأصدقاء القلائل ؟ أوحين أشرب كوب الماء وأجد صفوف البط الأبيض تتطلع إلي بنظرة مبهمة ؟ أحدق فيها هاتفا : وهل أنا المذنب ؟ هل أنا الذي ألقي بالقنابل كل يوم على الأطفال ؟ هل أنا وحدي الذي ينبغي له أن يفك هذا السحر الأسود ؟منذ شهور طويلة توقفت عن متابعة أي شئ . كل ما أفكر فيه الآن تلك الطيور البيضاء التي تواصل نموها في مسكني ، و تتخبط حولي ، وتمنعني من التنفس أو تناول الطعام ، وتدفعني إلي أن أربط فكي السفلي بأعلى رأسي بشر يط من الشاش ، ثم أقف متجمدا بين صفوفها ، وأرفع رقبتي النحيلة لأعلى ، وأمشى بينها في الغرف الفارغة ، نمشي معا بصمت على أمل أن تطرق الباب علينا يد بشرية .