تلك التي اصطفتني

( ولا أذكر الآن كيف التقينا / ولكنها بين مد الشــروق وجذر الغــروب اصطفتني / قالت تعال إلي جنتي.. واحتوتني )* 

في النهر العريض في ساعة عصـــاري والصهد المنبعث من الزرع انكسرت حدته . رمقتنـي بعيونها التي تحمل أقمارا وشمسا تشرق من ثغرها.
وقفت ذات الملاح في الماء تتأمل جسدي المبتل .. شعرها المتماوج يسترسل منثورا.. يـــفترش الماء حولها في نصف دائرة (( أبحث عن ملابسي وعن ظل يواريني ))
نادت بلا صوت " اتبعني يا أمين " تكاسلت(( إنه الغرق.. الموت يا ذات الوجه المليح.. ليسـت هناك امرأة تستحق أن أموت لأجلها )).
ألقت إلي بإحدى خصلاتها.. تقلص جسدي وأنا أقبض علي الخصلة بكلتا يديَّ. الرعب والغرق يحاصرانني.. هاتف خفي يربط بيننا.
أومأت للموج " أن يا موج احمله حملا خفيفا " غشيني الماء كان منعشا رائقا شفافا. 
أشارت " اترك جسدك لينا لدنا ولا تقاوم ".
انتظمت أنفاسي بلا غصة ولا شهقة ولا حشرجة.. كان الموج يفسح لي.
انطلقت تسبح متقلبة تارة تواجهني وأخري تظاهرني . كانت تمر بجوار الأزهار النائمة تتفتح 
والأعشاب المائية المتهدلة تنتصب. تغني كأروع ما سمعت بصوت ليس كأصواتنا.. صوت أشبه بموسيقي تهمس.
من السطح آلاف من الإبر الفضية طويلة لامـعة.. تعكس وميضها علي أسمــاك بكافة الألوان.. الأسماك الكبيرة تسبح حولنا في سكينة .. تبخ بيوضها تحت الأحجار وفي الكهوف المتوارية . الصغيرة تحتك زعانفها بجسدي وتحرك أفواهها النصف مفتوحة في سرعة (( ماذا تقولون ؟
لا أفهم حديثكم ))
أشارت الأسماك " أقرئ ملوك البـــحر السلام " " السلام عليكم يا ملوك البحر " أصوات عديدة تقرئني السلام . علي الماء كلمات مكتوبة ( إذا وهبت نفسك للبحر وغرقت فيه كنت كدابة من دوابه ).
أشارت الأسماك أن أسكب دموعك قربانا للنيل الغضبان . (( دموعي تفيض.. وهبتها قربانا.. نهرا بلا مزن ولا مواقيت.. لماذا لا يطفئ النيل حريقي ؟)).
النور بكل ألوان الطيف يغطي الأزهار..الممرات.. الأعشاب.. القيعان.. حتى الكهوف تغشاها. مشكاة في المنتصف ( لا شرقية ولا غربية) تشتعل بلا لهب ولا وهج.. لا يطفئها عبث الأمواج ولا نفخ الريح.
أمام أحد الكهوف توقفت..أشارت أن (( عشقتك من بين مدن الترحال.. مدن فوق الماء.. تحت الماء..وبعينيك مرثية للأشواق.. تمدد مضطجعا فوق أحداق الروح.
ألف نجـمة .. ألف قمــر .. وشمـس واحدة تناديك .. ها قد اصطفيتك ( فاخلع نعليك ) وأسكب أحزانك. . أدخل بيمينك أبواب جنتي)). 
كانت تراني من حيث لا أراها.. تنتظرني وتعلم أني قادم.. قادم.

كانت بهدوء الليل ورقة القطط الناعمة وحنان السماء الممطرة ودأب النحلة الشغالة.
كانت عيناها تعرفني. أتاني يقين أنها تعرفني جيدا. (( هل أسألك عنك ؟ هل أضيع جمال اللحظة التي تجمعني وإياك – أنت يا من تجمعين بين كرم العنب المختمر ومذاق التين الناضج ورائحة المانجو التي حان قطافها – في إجابة سؤالي ؟!)).
في عينيها بريق فرح (( كأنها تقرأني .. أنا صفحة سوداء .. خطـــوط مطلسمة مكتوبة بمـــــاء الغواية .. سطوري بفيض الحزن الساكن أنهار العالـــم .. صفحة مفتوحة علي النجم الحزين في آخر مدى الشوف.. علي برد الثلج الظامئ لطلة شمس.. علي عطش الزهر المنتظر رخة مطر.. صفحة مفتوحة في ظل مدافن الليل.. صفحــــة مسطورة علي جبيني لا بيدي إغلاقها ولا طمس حروفها.
بربك لا تقرأيني أو اغلقي صفحتي )).
أشارت (( أنت الريـــح العاصــف الآتي بالمزن المثقلة .. النهر الذي يفيض .. يروي الشطـآن ويعشوشب الصحاري . أنت ( زبد الماء تفجره ) من جسد السكون .. يا من أنتظرك قبل الزمان بزمان..( امنحني أو امنعني ) )).
علي الماء كتبت (( أنا ســاقية جفت أحواضها .. لا مـــاء لديها بينما ( لا تكف عن الدوران و الأنين ) )).
أضاء وجهها بالحزن وغنت موسيقاها الآسيانة .. انغلقت الأزهار.. مالت الأعشاب .. توقفـــت الأسماك عن الحركة . بكيت دون دمـــوع .. بلا صوت .. تحركت مويجات .. تصـــادمت دون ضجيج. انطفأت أنوار شمسها وأقمارها.. تغشتنا شبه ظلمة.. غابت دون صوت.. أشارت"عد".
(( أين خصلات شعرك ؟ أقمارك و شمسك.. الموج الذي يتغشانــي ويحملني حمــلا هينا . لو أتاني ضيف لأوصلته لبابه..كيف تتركيني هكذا غريبا ؟!)).
تركتني أتخبط .. جسد هيولي هائم يصارع الموج المضطرب ويكتم أنفاسه .. الأسماك تتقافــز بعيدا.. تضرب الماء بذيولها (( يصطدم المـــوج بجسدي المبلل بالحزن والأسى والضياع )). 
واجهت الهواء بشهقة واحدة (( صرخت صرخــة الطفل المولود من رحم الماء )) وأنا أبصق الماء الداخل جوفي. تطالعني صفحة السماء ملبدة بغيوم رمادية كثيفة.. الريح العاصفة تصفع سعف النخيل وأوراق الأشجــار وعيدان البرسيم . دبيب أقدام المواشي المضطربة يلاحقني .. كلاب الجزيرة لا تتوقف عن النباح (( لا تمطر في هذا الوقت من العام )). 

* للشاعر / محمد إبراهيم أبو سنة.