النمر حلمي

حينذاك كان كل شئ ضيقا خانقا, وإلا ما كانت تلك "النفرة" أو الإيماءة التي لا تكون إلا من حصان علقت في حلقه شوكة من تبن الأرز فيدير رأسه يمينا ويسارا.
شعر بضيق حيز المدرجات التي بدت على سعتها أقل من حاجة عدد المشاهدين, فانتشرت الأجساد فوق الدرج وحول الحلبة.
في العتمة بدت الحلبة بقعة نور , من حولها لم تستجب الأجساد المتزاحمة لتحذيرات حراس المروض الأشهر "عبده الوحش", استعدادا لأهم مشاهد البرنامج المثير, مشاهد مواجهة الإنسان الأعزل لنمر مفترس.
سرعان ما انشغل الحراس بفوهات بنادقهم المحشوة بالمخدر وبالرماح حادة النصل, نحو المنتظر هناك. كان قابعا يتابع الجميع من خلف قضبان القفص الحديدي الصدئ, الملقى في الممر الموصل للحلبة ..في الظلمة على حدود بقعة النور.
انشغل الجميع بالمروض .. عاري الصدر إلا من سترته غير المحكمة وبلا أزرار ولا أكمام ولا ياقة حول رقبته الغليظة القصيرة , تلك المنسوجة بخيوط القصب الذهبية اللامعة تحت الضوء الباهر, تسبقه فرقعة السوط السوداني في يده تعلو أكثر من صوت صياح الجميع.. انتظارا لمشاهد المفترس المخضوع.. مطيعا ذليلا, وكأنهم جميعا "الوحش". وإلا بما تفسر نظراتهم المشدوهة وتهليل كبيرهم قبل صغيرهم , حتى قبل أن يدخل النمر الذي يعرف دوره تماما. فنهض وحده وهو ينفر, وينفر حتى أفرج الحراس عنه , ورفعوا باب الممر الحديدي الضيق!
كلما أوغل "الوحش" في فرقعات سوطه, أوغل الغضب في صدر "حلمي" أكثر. حينما أطلق قرقعته الأولى وهو وسط الحلبة, صاح الجميع وانتبه "حلمي".. فلما كانت قرقعته الثانية , اندفع نحو حلقة النار, اخترقها, ثم انتظر يتهيأ للقرقعة الجديدة.. وسمعها, فاقترب من الوحش وجلس على عجزيه وقدميه الخلفيتين. ولأنهم يعرفون أنها ليست جلسة النمور صاحوا وهللوا.

وانتشى المروض أكثر كلما غلب ضجيجهم بضجيج سوطه وطاعة النمر.. حتى كانت اللعبة الأخيرة, نجح المروض واعتلى حلمي ذاك البرميل الحديدي الضيق .. فزاد ضجيجهم أكثر, وزادت حفاوتهم . انتظر "حلمي" قطعة لحم تملأ جوفه ..يتمنى لو يأكل ما يشتهى عوضا عن تلك المشقة .. لكنه لا ينال سوى قرقعات تعلو وتعلو.. أكثر كثيرا من كل ليلة .. يبدو أنه مطالب بدفع ضريبة انتشاء الوحش وسعادته التي فاضت , فيعيد ويزيد من أوامره وينفذ حلمي صاغرا.
انشغل الوحش بتحية المشاهدين.. مثلما انشغل حلمي برأسه, وقد بدا على غير المعتاد حزينا. فمنذ دقائق كانت مشاهد الأسود . بينما قرقعات السوط السوداني, كان حافز الوحش معها, قطعة اللحم الطيبة يلقمها للأسود وهو يربت على لبدتها. وعندما انتهت المشاهد أسرع مجموعة الأسود المشتركة التفوا من حوله, أمرهم بالنوم على جنوبها ونام إلى جوارها , ثم نهض واقفا فوق أجسادهم يرد تحية جمهوره.. معانقا هذا, مربتا على ذاك, ثم يلقم الجميع ما يحبون. 

"لماذا إذن السوط لحلمى واللحم للأسود؟.. هذا –ربما – ما دار في رأس النمر الذي شعر وكأنه فقد الثقة فى نفسه.. والا ما معنى تلك النظرات الغامضة الغريبة لمدربه وسط بقعة النور وحده محييا..رافع اليدين, مفتوح الشفتين, نافر العضلات والأوداج؟!
كانت لحظة أن ألقى حلمي بنفسه على الوحش في قفزة طولها عدة أمتار..غير متوقعة, فانبطح المروض أرضا, وسقط النمر فوقه عفوا, وهو ما جعل جسد المدرب يهرس هرسا, ويشعر الجميع بالخطر. انقض الحراس بما يحملون نحو حلمي الذي بدا وكأن شيئا لم يكن..اتجه من حيث أتى , ونخ داخل القفص الحديدي الصدئ وحده في الظلمة.

على أية حال بدأ الناس في الانصراف وهم ينظرون خلفهم, وكأن النمر حلمي كائن بألف ناب وظفر. الخوف يفوق نشوة الانتصار الذي كانوا به يشعرون .

عندما وصل رجل وزوجته إلى بسطة السلم الخشبي ذي الدرجات الخمس الموصلة الى خارج 
خيمة السيرك, وقد اطمئنا أنهما في الساحة الموصلة إلى الشارع الخارجي المزدحم بالسيارات المسرعة, الغافلة عما كان منذ قليل, قال الزوج:
- لماذا غضب النمر حلمي؟
عقبت الزوجة بسؤال ولم تشأ تجيب , قالت:
- بل لماذا لم يقتل عبده الوحش؟!
- حسبها حلمي بحكمة, لو فعلها لقتلوه فى الحال.
- بل سيقتلونه.. أكيد ..عاجلا أو آجلا!
- لا يوجد قانون يمنع أي مدرب من قتل حيوانه !
- لا أوافق..هل من حق أي إنسان إزهاق روح حيوان لمجرد أنه يتحكم فيه..؟؟؟!

لم تنته المناقشة إلى نتيجة , على الرغم من قرارهما العودة سيرا على الأقدام حتى منزلهما الذي يبعد أكثر من خمسة كيلومترات من موقع السيرك..وهما في طريقهما إلى الدرج الموصل إلى شقتهما, توقفا حسما لمشكلة جدت ولم يختلفا أو يتفقا فيها من قبل, فقد قال الزوج:
- بل لماذا فعلها حلمي ..ما سر هذه العدوانية بينما الأسود لم يفعلوها؟
- ربما لأن حلمي تدرب على صوت السوط السوداني.. والأسود على قطع اللحم الطيبة.
- لكن كليهما من أجل هدف واحد...
- ولو.. الأكيد أن النتيجة ليست واحدة!!

عندما نجح الزوج في فتح باب الشقة بحركة آلية بمفتاحه, حرصت الزوجة على غلقه جيدا وباحكام.