الشرشف

اقتربت من البيت الذى طالما دخلته أو تلصصت الى باحته من إحدى طاقات غرفتي العلوية التي تشرف عليها . كان ذلك قبل أربعين عاماً ، أي كان كل منا في الخامسة عشرة من عمره . لا يزال البيت على حاله رغم تغير حال الحي ، فقد زحف التمدن والتحديث إلى كل جوانبه بما فيها الطريق التي كانت مرصوفة بالحجارة أما الآن فقد استبدلت بالإسفلت ، هنا كانت تسكن من خفق لها قلبي خفقته الأولى وتصارعت لأجلها مع صديقي الوحيد آنذاك لقد استهوته الفتاة فصرح لي بذلك، فشعرت حينها بغيرة عظيمة تنهش لي صدري ، فأنا لم أبح بحبي لها إلى أيٍّ كان حتى لصديقي ذاك الذي جاء يتفاخر أمامي بأنه قد كبر بشكل كافٍ ليحب ابنة حارتنا الجميلة . حينها تصارعنا فغلبته ، فقد كان ضعيف البنية أما أنا فقد كنت أطول منه وأجسم .. وحينما نهضت عنه دون أن أواصل ضربه أخبرته أنَّ لا شأن له بها ، فهي لي وحدي وهي تشاركني نفس الشعور . وقد دام استغرابه وحنقه لعدة أيام ثمَّ جاء إلي في المقبرة بينما كنت أطير طائرتي الورقية وجلس إلى جانبي فتصالحنا ولم يأت على ذكرها بعد ذلك إلا باحترام شديد وبشكل يشي بأنَّه قد تخلى لي عنها إلى الأبد . ولكننا سافرنا إلى المهجر على أمل العودة بعد سنة واحدة أو اثنتين . وهاأنذا أقف أمام الباب بعد أربعين عاماً دون أن يكون لدي علم بما قد يكون قد حصل لفتاتي خلال تلك السنوات الطويلة أو لصديقي ذاك الذي كان اسمه رضا وكنت أناديه بأبي الروض .

طرقت الباب وانتظرت . كان شعوري حينها وكأنِّي قد عدت صبياً في الخامسة عشرة . كان الوقت بعد صلاة العصر وكانت الحارة هادئة كما تركناها حين سافرنا هرباً من الجوع . كان قلبي يدق بعنف وعقلي يبحث عن الكلمات المناسبة لتبرير غيابي طول هذه السنين . فتح الباب وأطلَّ رأس امرأة . أو قل بانت عين لامرأة تريد أن تعرف من بالباب . سألتني عن غايتي فعرفتها من صوتها الذي بقي له جرس غريب ومحبب إلى نفسي ، وعندما أخبرتها بصوتي المتهدج أنني فلان صمتت للحظات وجدتها طويلة جداً ثمَّ اعتذرت وطلبت مني الانتظار ، وغابت قليلاً ثمَّ عادت وقد تحجبت لتسمح لي بالدخول .

جلسنا متقابلين في باحة الدار ثمَّ خيم علينا الصمت . كانت السنونو تحوم حول شجرة ذكر التين التي أصبحت تظلل كامل الباحة وتحجب طاقتي التي طالما كنت أمد فيها رأسي ساهراً الليالي أتلصص على معشوقتي .. أحسست بالراحة واطمأننت إلى أنَّه لن يكون هناك أحد يتلصص علينا في جلستنا الهادئة تلك .كانت مثلي قد تجاوزت الخمسين من عمرها ولكنها ظلت على جمالها الأخاذ . كانت تنظر إلي خفية وعندما كنت أرفع إليها عيني كانت تحول عينيها إلى أي شيء آخر .. سألتني عن حالي وكأنَّها تشمت بي . فقد بان علي الهرم أكثر منها بكثير بسبب الورم الخبيث الذي كان أصابني وجعلني قاب قوسين من الموت. أخبرتها وكأننا كنا نهمس لبعضنا بكلام لا نريد للصغار أن يستمعوا إليه ، قلت لها بأنني قد عدت إلى البلد ، وإنني أحن إلى تلك الأيام . أخبرتها بأنني أرمل وبأنني وحيد وبأنَّ استقبالها لي قد أعاد إلي ما كان قد ضاع مني يوماً . ثمَّ، وبصوت خافت، سألتني عن عدم وفائي بوعدي لها بأنني سأعود .. ماذا أقول لها ؟... احترت بذلك حتى بان جبني .

كنت قد لاحظت بأنها كثيراً ما كانت ترنو إلى أحد الأبواب ، وتصورت بأنَّ أمها أو أختها الأصغر ، التي كنت أعرفها طفلة رضيعة في ذلك الحين ، تختبئان في الغرفة . سألتها إن كانت قد تزوجت فأجابتني بسؤال آخر : ماذا كنت تعتقد ؟ حينئذ صمت ، فقد كنت أخرق بسؤالي ذاك. ماذا كنت أريد ؟.. هل كنت أرغب في أن تقعد هنا وتنتظرني أربعين عاماً .. وعندما سألتها عما حدث بصديقي رضا ، ابتسمت برخاوة ثمَّ نهضت ودعتني لكي أتبعها .

تبعتها إلى الباب ذاته الذي كانت ترنو إليه باستمرار ، وعندما دخلنا صدمتني رائحة جسد بشري وحرارة عالية ليس لها ضرورة كما اعتقدت حينها . كانت الغرفة تقبع في عتمة مقيتة يزيد في غرابتها الصمت المطبق الذي كان يلف الغرفة وكأنَّها قبر كبير وحار . حتى هي كانت تتحرك بخفة فلا تحدث أي صوت مهما كان . وكذلك كنت أفعل بسبب تقليدي لها بكل ما كانت تقوم به . وعندما تمنيت أن تشعل أي ضوء . فعلت ذلك من تلقاءِ نفسها وكأنَّها سمعت تمنياتي التي لم أجرؤ على البوح بها .

كان النور الذي أضاءته ضعيفاً جداً وكان مصدره مصباح كهربائي متوضع خلف ستارة منعاً للضوء المبهر، تتبعتها بنظري فشاهدت سريراً في الزاوية البعيدة . أصابتني رعدة قوية وجفَّ حلقي، فقد كان هناك جسد نحيل متمدد على السرير مغطى بلحاف سميك. وبسبب النور الضعيف لم أتبين وجه الجسد فاضطررت للحاق بها والوقوف إلى جانب السرير ورحت أحدق جاحظ العينين بالوجه . لم أعرف الرجل الذي كان نائماً ويتنفس بنعومة فقد كان مصفراً وغير حليق الوجه وكانت تفوح من إناء، متوضع إلى جانب السرير، رائحة البول النفاذة. نظرت إلى وجهها متسائلاً ، فقد كنت مشوشاً إلى حد لا يمكنني فيه من حل هذا اللغز ، ولكنها لم تجب ، بل ظلت لوهلة تحدِّق بي بعينيها اللتين قستا ثمَّ انحنت حتى اقترب فمها من وجه الرجل النائم وهمست له بأنني هنا وأريد أن أراه .

يا لرعبي، فقد فتح الرجل عينيه ونظر إلي مباشرةً . كان هو رضا .. أبا الروض . كدت أتراجع لكنني تماسكت مؤملاً أن يكون كل ذلك حلماً سرعان ما يتبدى .. ولكن الرجل، الذي عرفني من فوره، راح يلفظ اسمي عدة مرات بطريقة غريبة وبلسان ثقيل ، ثمَّ راح يبكي .. لم يقل سوى .. انظر ماذا حدث لي .. اختنقت الكلمات في حلقه فجعل يبكي فحسب. عندها اقتربت منه وأمسكت بيده من فوق اللحاف السميك ، والذي أراد أن يقوله بلسانه قاله لي بعينيه . لقد استطاع أن يحصل عليها وأصبحت من نصيبه ، ولكنه الآن يخاف أن يموت ويتركها وحيدة . ولكي تضع حداً لألمه ، طلبت مني أن نعود إلى جلستنا تلك تحت شجرة ذكر التين . ألقيت عليه نظرة سريعة ثمَّ هربت إلى الخارج ، وهناك تنفست بعمق عدة مرات فقد كنت أحس أنني أختنق .

بعينين دامعتين أخبرتني بأنَّ رضا قد شُلّ منذ عشر سنوات إثر عملية تجارية خاسرة ، ثمَّ راحت تسرد لي عذابه الأليم منذ ذلك اليوم حتى الآن .. وعندما كانت تتذكر سعادتهما قبل الحادث كانت تنخرط في بكاء مر . حينها ، وربي يسامحني ، شعرت بالغيرة ، لم يحصل عليها فحسب ، بل حصل على دموعها أيضاً . كانت تبكيه بحرقة ، بينما أنا الذي كانت تحبه ، أصبحت شاهداً فحسب . أنا ، الذي أموت الآن بسبب مرضي الخبيث ، لا أجد من يبكي علي بدمعة واحدة .. كم أنت محظوظ يا أبا الروض .. لكي تبكي عليك أجمل امرأة في الكون !!

لم استطع المكوث أكثر ، فقد كنت أتألم على نفسي وخفت أن أنفضح فودعتها بعد أن وعدتها بالعودة لأراه في يوم آخر . وعندما خرجت إلى الطريق ، لكمت الحائط من غيظي فأدميت يدي ، فقد كنت الخاسر في كل هذا رغم عجز رضا .

عدت إليها بعد اسبوع قضيتها في تدريب نفسي على التأقلم مع انهزامي الجديد .. وعندما اقتربت من الباب وجدت ورقتي نعي لرضا ملصوقتين على جانبيه ولا تزالانِ طازجتين . شعرت ، وليسامحني ربي مرة أخرى ، بشعور لا أستطيع شرحه . هنا طرقت الباب ورحت انتظرها لتفتحه لي بينما مشاعر الانفعال والحزن تختلط بعضها ببعض. ولكن، لم تكن هي من فتحت الباب ، بل امرأة غريبة متلفحة بالسواد . لا يظهر منها سوى عينين سوداوين متعبتين من طول البكاء . ارتبكت قليلاً بفعل المفاجأة ولم أعرف ما أقول .. ولكنني في النهاية ذكرت اسمي وطلبت مقابلة سيدة المنزل . حدقت بي بعدائية وكأنني قلت شيئاً مريباً ، ويبدو أنها قد لاحظت إصراري فأطبقت الباب من جديد وتراجعت عنه دون أن يبدر عنها أي صوت .

أدخلتني المرأة إلى غرفة أخرى غير التي كان فيها المرحوم وطلبت مني، بحركة من يدها، الجلوس بقرب شرشف يقسم الغرفة إلى قسمين ، ثمَّ جلست قبالتي ولكن بعيداً عني وجعلت تحدق بي من خلف حجابها الذي أصبح يغطي كامل وجهها . كان الوضع يثير فيَّ الرعشة بسبب غرابته ، وكان علي أن أهرب بناظري بعيداً عن المرأة الجالسة قبالتي ، ثمَّ إنني لم أكن أعرف سبب وجود الشرشف المعلق إلا بعد أن جاءني صوتها رخيماً من خلفه. رحبت بي ثمَّ اعتذرت لأنَّها لا تستطيع مقابلتي وجهاً لوجه . كان صوتها كأنه يأتي من بعيد وكأنَّ الشرشف يفصل عالم الغرفة عن باقي الكون. قلت لها :
- البقية في حياتك ، فغمغمت تعزيني بالكلمات عينها ثمَّ ساد الصمت من جديد. 
تمنيت أن تزيح الشرشف وأن تأتي إلي ، وعندما كان يطول الصمت كنت أخطئ فأنظر إلى المرأة المتحجبة فأراها تراقب كل حركاتي وكأنها متأهبة للانقضاض علي إذا ما أتيت بفعل غير مناسب . ومن أجل أن تجعلني أتحدث سمعتها تسألني عن أهلي ، عن أمي وأبي وأختي . أخبرتها بأنهم جميعاً أموات وبأنَّ أختي قد تزوجت في المغترب من رجل لا تحبه فماتت وهي لا تزال صبية . تأسفت عليها ثمَّ ترحمت على أرواحهم ثمَّ سمعتها تردد أن الحياة هي هكذا ، فقلت لها نعم ، إنها كذلك .

أردت أن أرسل المرأة إلى الخارج لأتكلم مع معشوقتي بحرية ، فطلبت منها أن تحضر لي كأساً من الماء ، ولكنها عوضاً عن أن تخرج رمقتني بقسوة من خلف حجابها ثمَّ مدت يدها والتقطت إناء من الفخار ووضعته على الأرض في منتصف المسافة بيننا ، ثمَّ أخذته وبللت شفتيّ فحسب ثمَّ أعدته إلى مكانه بغيظ مقرراً أن أتكلم رغم وجودها. قلت لحبيبتي الجالسة خلف الشرشف :
- لقد ابتعدت عنك طول هذه المدة ولكنك لم تغيبي عن ذهني وقلبي أبداً . معك شعرت بأجمل شعور تملكني في حياتي كلها ، ثمَّ إنني سميت هذا الشعور اسمك .. فقد كنت أقيس شعوري تجاه كل النساء اللواتي عرفتهنَّ بمدى قربه أو بعده عن شعوري نحوكِ.

صمتُّ لأسترد أنفاسي. كانت المرأة الجالسة قبالتي متأهبة في جلستها كنمرة شرسة، بينما حبيبتي الغائبة خلف الشرشف لا يصدر عنها أي صوت أو نأمة .. تابعت أقول رغمَ كل ذلك :
أنا مريض ، ومرضي من النوع الخبيث ، وقد أخبرني الأطباء أنني لن أعيش لأكثر من شهرين أو ثلاثة ، أرجوكِ .. أريد أن أمضي آخر أيامي معك وبسعادة ..

سمعتها تسأل بارتباك عظيم . ماذا ..؟ فأكدت لها مرة أخرى ما قلته لها . ثمَّ سمعتها تتأوه .. حينئذ نهضت المتحجبة وكأنَّها لدغت من حشرة سامة ثمَّ انتقلت إلى خلف الشرشف . راحتا تتهامسان ، وربما كانت المرأة المتحجبة تجادل و تطلب منها أن تطردني ، ولكنها عادت في النهاية للجلوس قبالتي بينما زاد احتقارها لي وأصبحت نظراتها غير محتملة ، ورغمَ ذلك أهملتها وأنا أتطلع إلى الشرشف منتظراً جواب معشوقتي .

شيئاً فشيئاً جاءني بكاؤها ناعماً ومؤثراً . في داخلي شعرتُ ببهجة.هاأنذا أثير فيها حزناً وأجعلها تذرف الدموع من أجلي وعلي . سمعتها تسألني وهي تتأوه :
- لماذا تخبرني بذلك ؟ فقلت لها وأنا أزداد شجاعة :
- كان علي ذلك يا .. أرجوكِ أن تصفحي عني ، ولكن ما رأيكِ بما طلبته منكِ .. فأنا في حاجة إليكِ يا مليكتي ، دعيني أسعد بكِ قبل أن أموت حتى لو كان ذلك لأسابيع قليلة ..؟

ران الصمت من جديد ما عدا بقايا بكاء كنت أسمعه من الطرف الآخر للشرشف . كانت المرأة المتحجبة تتأهب لطردي ، قالت معشوقتي وهي تغالب الانخراط في البكاء من جديد:
- هذا مستحيل . حتى لو أردتُ ذلك لما استطعت ، فأنا قاعدة الآن في العدة . سيدوم ذلك أكثر مما لديك من زمن .
ثمَّ عادت إلى البكاء. أما أنا فقد وجمت ، فلم أستطع قول شيء آخر فصمت منهزماً .. لقد احتلها رضا حتى لما بعد مماته ، هل يكفي أنني جعلتها تذرف علي بعض الدموع كما فعلت من أجله?.. نهضت في نفس الوقت الذي كانت تطلب مني الرحيل .. ودعتها بغمغمة ثمَّ خرجت تلحق بي المرأة المحجبة ، وعندما فتحت الباب لأخرج ، استدرت وألقيت نظرة أخيرة إلى شجرة ذكر تين، فلمحت المرأة وهي تهزأ بي من تحت الحجاب ثمَّ صفقتْ الباب خلفي