نداهـة جدى

كان جدى شابا مختلفا، لكنه كان مجنونا أيضا..
كان أطول شاب فى القرية، يميزه شعر طويل ناعم ينسدل على كتفيه، ويلمه خجلا تحت طاقية صوفية بنية اللون.. وكان قويا للغاية، أدار الساقية القديمة بذراعية رغم أن صدأها أعجز ثورا ضخما عن تحريكها، وقتل ذئبا فى معركة شهيرة بجوار مقابر القرية، وأكل كبد الذئب نيئا فلم يعد يخشى شيئا.. وسبق كل شباب القرية عندما تباروا فى السباحة ضد التيار لمسافة كيلو متراً فى ترعة المحمودية..
لكن أن يصل به الجنون لأن يذهب إلى الصيد فى عز القيلولة عند موردة إسماعيل الجناينى، فهذا ما لا يصدقه أحد..
القرية كلها تتجنب المرور بجوار الموردة من بعد صلاة الظهر بساعة وحتى اقتراب المغرب.. لأن نداهة تظهر فى وسط المياه.. بيضاء، واسعة العينين.. طويلة الشعر.. ملائكية الصوت.. تغنى غناءً حزينا.. وتنادى من يمر باسمه ليأتى إليها.. يغنى معها.. وتهب له نفسها.. 
يحكون أن شابا فتن بجمالها وسحر صوتها عندما كان جدى طفلا.. فاستجاب لها.. وكانت النتيجة أن غرق ولم تظهر جثته فى أى مكان.. وقيل إن جثته ظهرت بعد عدة أيام طافية على سطح الماء بالقرب من كفر الدوار (سارت عكس اتجاه المياه).. من شاهدوها أكدوا أن عينيه كانتا مفتوحتين على آخرهما فى نظرة رعب لا مثيل لها، وكأنه مات تواً..
فكيف حمل جدى سنارته البوص، والغلق الخوص، والكوز الصدئ الملئ بديدان الصيد، وذهب إلى موردة إسماعيل الجناينى الساعة الثانية ظهرا ليصطاد..؟!
ما حدث أنه اصطاد ما يزيد على خمسة كيلوات من السمك البلطى كبير الحجم فى أقل من نصف ساعة.. كان الجو حارا فخلع جدى قفطانه ووضعه بجانبه.. وظل جالسا بسرواله الداخلى وفانلة نصف كم.. ومن وقت لآخر يأخذ طاقيته البنية ويمسح بها وجهه، ثم يلبسها..
سمع جدى صوتا خافتا قادما من أعماق الترعة.. أخذ الصوت يعلو بالتدريج.. لم يكن الكلام مفهوما.. لكنه كان بكاءً ساحرا يشبه الغناء.. تحركت غمازة السنارة حركات سريعة.. ثم غطست بقوة فى الماء.. جذب جدى السنارة بسرعة متوقعا سمكة ضخمة.. ارتفع خيط السنارة إلى أعلى.. رأى جدى ما يمسك الخيط من طرفه.. فرمى السنارة من يده بدون تفكير.. لكنه لم يتحرك.. ظل جالسا فى مكانه.. والعرق يتصبب منه دون أن يمسحه.. وعيناه تحدقان فيها..
كانت جميلة كما وصفها أهل القرية.. لكن الجمال لم يكن كل شئ.. فى عينيها الواسعتين كان يرقد حزن العالم ودمعة معلقة تشعر بها ولا تراها.. كانت تناديه ليقبل.. لم تكن تعده بالنعيم والكنوز كما حكى أهل القرية.. بل كانت تستنجد به.. 
ألقى جدى طاقيته بجوار غلق السمك، وخلع الفانلة.. وألقى بنفسه فى مياه الترعة.. ففوجئ بها تحتضنه.. وتغوص به.. لم يكن حضن غدر.. ولا حب.. كان حضن غريق تعلق فى طوق نجاة.. ظلا يغطسان لدقائق.. حتى توقفا أمام وردة غريبة تشبه ورد النيل لكنها حمراء اللون.. حمرة الدم الفاسد..
نظر جدى إلى الوردة وإلى النداهة.. أخبرته بعينيها أن كل الأسرار فى هذه الوردة.. مد يده ليلمس الوردة.. فوجئ بفم ذئب متوحش ينفتح ليقضم يده.. فشدها بسرعة.. نظر إلى الوردة مرة أخرى فلم ير فم الذئب.. فمد يده.. فعاد فم الذئب ينفتح.. نظر إلى النداهة بدهشة.. ثم شعر باختناق.. فصعد برأسه بسرعة إلى أعلى الماء.. ملأ صدره بالهواء.. وغطس مرة أخرى.. وفى أثناء عودته صفا عقله ففهم اللعبة.. نظر إلى النداهة مبتسما.. مد يده إلى الوردة.. فانفتح فم الذئب المتوحش.. لكن جدى خطف الوردة من مكانها ولم يعضه الذئب.. مزق جدى الوردة.. كان ملمسها يؤلمه بشدة لكنه تجاهل الألم الذى زال بمجرد أن انتهى من تمزيقها وفوجئ بما يسكن فى قلبها..
شعر باختناق.. فصعد إلى السطح مرة أخرى.. ملأ صدره بالهواء وعاد.. كانت عينا النداهة تبتسمان.. ولم تكن الدمعة المعلقة هناك..
أمسك جدى الحجاب الذى كانت تخفيه الوردة.. كان مكتوبا عليه بخط ردئ لكنه لامع يكاد يغشى البصر.. "من يحاول فك هذا الطلسم سيرث حزن العالم".. 
رأى جدى قلقا كبيرا يتحرك فى ملامح النداهة.. فكر لحظة فى ترك كل شئ.. النداهة والحجاب والسمك والسنارة وملابسه.. تخيل أنه عاد إلى حجرته.. واستلقى عاريا على سريره.. ونام فى هدوء.. استغرق فى نوم لا يشوبه خوف.. 
أيقظ جدى صوتُ شخيره.. لم يصدق أنه كان سينام فى الماء مكان الوردة.. فقرر قبول التحدى.. مزق الحجاب بأظافره الطويلة.. 
كان كلما مزق قطعة فى الحجاب حدث تغير فى النداهة.. كانت زعانفها تتحول إلى أرجل بشرية.. وفمها يحاول أن ينفتح ليقول شيئا.. وعندما انتهى من تمزيق الحجاب تماما.. صرخت النداهة:"الحقونى"!.. وغطت صدرها العارى بيديها.. 
كان قلب الحجاب فارغا إلا من بعض الدخان الأسود كريه الرائحة.. فألقاه جدى.. وجذب النداهة من يدها متجها بها نحو الشاطئ.. وقد لا حظ أنها لا تعرف السباحة.. وكان حريصا على عدم النظر إليها أو لمسها.. وعندما وصل إلى الشاطئ تركها فى الماء.. وأسرع فأحضر قفطانه.. وفرده فى الهواء.. وأشار إليها لتخرج.. وأدار رأسه إلى الناحية الأخرى.. فخرجت وارتدت القفطان..
جلس جدى والنداهة يشويان السمك ويأكلان.. حكت له حكاية ليلة زفافها التى انتهت بأن ألقت نفسها فى الماء.. كانت تحب عريسها.. لكنها لم تطق اقترابه منها.. فظلت تجرى حتى ألقت بنفسها فى ترعة المحمودية.. فغرقت.. وظلت جثتها طافية من أبى حمص حتى خورشيد.. حتى استقرت بجوار الوردة أمام موردة إسماعيل الجناينى..
لكنها لم تستطع أن تحدد متى حدث ذلك.. منذ عام.. أو أعوام.. أو قرون..؟!
وقفت فوقف جدى.. سلمت عليه بيدها.. ارتعش جسده بسعادة لم يعاينها من قبل.. ورفرفت أجنحة الروح.. لم تتكلم.. لكنهما لم يكونا بحاجة إلى كلام.. انصرفت باتجاه أبى حمص وجدى يتابعها بعينيه حتى اختفت.. فشعر بحزن العالم يسكن قلبه.. فهو واثق أنه لن يراها مرة أخرى..
كانت سلوى جدى فى سنوات عمره التالية والتى تعدت الستين (مات وهو فى الرابعة والثمانين وكنت أنا فى العاشرة من عمرى) أن يذهب مرة كل عام إلى موردة إسماعيل الجناينى فى نفس الموعد بنفس الملابس والسنارة والغلق.. لكنه لم يكن يصطاد.. كان يستعيد رعشة الفرح.. ويحيى حزن العالم فى قلبه.. ولم يحك ما حدث لأحد غيرى.


18/8/2003