نقطة عابرة

امتلأت المقاعد في صالة المسرح العريق . ووقف البعض في الممرات متململا يفتش بعين يائسة عن كرسي شاغر بمعجزة في حفلة تحجز مقاعدها ببطاقات محددة الأرقام قبلها بزمن .

تألقت الصالة متوهجة تحت نور المصابيح وسرى في جوها طنين لغط مرتفع.اتجهت نظرات الجالسين إلي ستار المنصة المنسدل من القطيفة القرمزية الداكنة ، وعجوز فاحم السواد برأس أشيب يقود المتأخرين مهرولين إلي كراسيهم بين الصفوف.

لا يوزع برنامج الأغاني في هذه الحفلة . إنه مفاجأة كل مرة . أنت تعلم فحسب أنها ساعة بالحياة وما فيها ، تهب السلطانة فيها المتيمين بصوتها لحظات تنزع الروح من البدن وتعلو بها بعيدا . في حفلاتها كان بعضهم يرتجف باكيا من الانفعال،آخرون يثبون من مقاعدهم طربا وفرحا من نشوة عارمة ، غيرهم يسند ذقنه إلي قبضة يده ويتنهد سارحا .

وهذا أنا هناك ، أجلس في المقعد الثالث من الصف السابع . ناحية الممر . نعم . هل رأيتني ؟ . بجوار ذلك الرجل المنفوخ يتقلقل في كرسيه ينشد أفضل وضعية للجلوس ، بالقرب من شابة تناهز الثلاثين تتطلع إلي مرآة صغيرة أخفتها في يدها . عن يميني شخص قلق ، يتلفت إلي الوراء كل لحظة ويجيل عينيه في الصفوف الخلفية يستوثق من أن الآخرين منفعلون مثله ، تكلمه سيدة وقور ولا يصغي إليها . الآن هل لمحتني ؟ . أصارحك بأن ظروفي لم تكن تبيح لي الحصول على بطاقة في تلك الحفلة لكنها هبطت على بالمصادفة إذ هاجمت أزمة ربو زوج عمتي . كان ضابطا كبيرا في الجيش ، ولم ينجب ، فاعتبرني في محل ولده لأنني كنت أظل واقفا – عند زيارته لنا - خافض الرأس لا أجلس أبدا إلا بعد أن يستريح هو على مقعده ، فيمتدحني : أنت شاب محترم . هكذا بدأت علاقتنا . لهذا حصلت على البطاقة ، وها أنا أرسل بصري إلي المنصة منتظرا أن تخفت أنوار الصالة وتشرق كوكب الغناء .

أخذستار القطيفة القرمزية بشرائط القصب المذهبة اللامعة ينفتح على مهل.تسمرت العيون إلي المنصة وساد الصالة صمت الترقب وسكونه . تعاقب الموسيقيون من الجهة اليمنى . دخل عازف القانون الأصلع البدين ، والعواد بنظارته السوداء ، ثم عازف الناي بملامح وجهه الدقيقة المهذبة ، ثم عازف الشيللو الذي قعد واحتضن آلته الضخمة بصمت ، وتتابع عازفو الكمان ، ومن بعدهم قارعو الدفوف . قاطع ظهورهم تصفيق من هنا وهناك ، ثم اصطف طاقم كورس من نساء ورجال . أشار الرجل القلق عن يميني كأنما يحدث نفسه لمقعد عواد شهير ظل مكانه شاغرا بعد رحيله .

دقيقة وهلت بعدها في فستان وردي فاتح غير محبوك يهبط إلي قدميها ، فتحة صدره مطرزة بحبات ألماس صغيرة تتلألأ . شعرها الأسود ملموم للخلف كعكة مدورة، وقرط من اللؤلؤ يتدلى من أذنيها . تهادت مبتسمة وهي ترفع ذراعيها لأعلى قليلا تحيي الجمهور ، فنهض الحضور كله واقفا للصوت الذي حلق عبر كل الأزمنة . ارتفعت الأيادي تخلخل الهواء بتصفيق مدو ، والسلطانة تسير إلي حيث مسقط الأضواء الكاشفة . هناك أحنترأسها قليلا . وتجدد التصفيق كالرعد حتى شبع الجمهور من علامات الامتنان على وجها فعاد إلي الكراسي وهو يتطلع إليها بشغف مسحور . الآن بوسع كل منهم أن يملأ عينيه بالأسطورة ، وإن كانت بعيدة المنال وعالية . ظلت تختبر صبر محبيها بصمتها برهة ، وحين ساد سكون مطبق في الجو اهتز طرف منديلها المعصور في قبضة يدها اليسرى إشارة للموسيقيين .

يا الله ! بدأ التخت يدندن فاندلعت الأكف بالتصفيق ولمعت العيون وانجرف الجميع مع نمنمات إيقاع الرق والكمان الشجي . رحت من مقعدي في خضم البهجة أحدج إلي وجهها أحاول أن أتبين ملامحه . تلك مرة لن تتكرر،فإذا لم أبصر عينيها الغامضتين الآن ، فلن أشاهدهما أبدا .

دخل الشيللو والقانون والناي ، وتمايلت السلطانة قليلا ، ثم أطلقت آهة محرقة جاوبها الجمهور بآهات . ارتدت للخلف بعنقها ورفعت رأسها بكبريائها المعهودة . غابت نظرتها في الفراغ تحت قبة المسرح .باعدت ما بين ذراعيها المفرودتين في الهواء ، وصمتت كأنها تبتهل تستحضر سرها الخاص من أعلى . ثم اندلع صوتها القوي يقبض على كل نسمة هواء في الجو . أنشدت : " أنا قلبي معك .. مهما جرى .. قلبي معك "من مختلف طبقات صوتها الذي لا يخطئ . تندفع إلي الأمام بصدرها في لحظات الذروة ، وترتد ثانية تهز رأسها بخفة تحت ألق الأضواء ببسمة اعتزاز . تقف الصالة كلها محمومة وأكفها تلتهب ، بينما عم الصمت بين العازفين كأنهم تحجروا في مقاعدهم من ألف عام .

في تلك الأثناء كانت كاميرات التسجيل تتنقل بين المنصة ووجوه بعض الجالسين ونشوة الغيبوبة على ملامحهم . كنت سعيدا ، ومأخوذا،لكن سيطرة الصوت والنغم التي لا تقاوم كانت تبعث في نفسي قلقا خفيفا من سطوة تحلق وحدها بلا نهاية . استعاد الحاضرون السلطانة مرة واثنتين وعشرين مرة بالصفير الملتاع والتصفيق والصيحات المرسلة ، فأغدقت عليهم نعمها مغردة بأريحية وكرم .

***

هذا أنا هناك ، أجلس في المقعد الثالث ناحية الممر . ولكنك لن تتعرف إلي فقد انقضى على تلك الحفلة أربعون عاما ، ولم يبق من الفتي النحيف ابن العشرين ذي النظرة المستقيمة الطاهرة ، سوى كهل بدين مصاب بتمدد في الرئتين ، يلهث وهو يصعد الدرج .ولم يبق من الحفلة المبهجة سوى البطاقة القديمة صفراء خفيفة كالرماد محفوظة ، وذاك التسجيل الأبيض والأسود الذي كانت قنوات التلفزيون تبثه أحيانا بعد انتهاء برامجها المسائية . أجلس وحدي في فسحة الشقة . زوجتي تغط في نومها . أمامي على المنضدة صحن به قطعة جبن بيضاء صغيرة ، وربع رغيف . أفتح التلفزيون وأتنقل بين القنوات . يفاجئني ذلك التسجيل القديم كأنه صورة تترقرق تحت سطح الزمن . يدق قلبي بسرعة ،وتندفع الدماء إلي بدني ، وأحس أني مشحون بالرغبة في القيام بأعمال جليلة ، متأهب لأشياء لا أدري ما هي . أتابع الحفلة وأبحث عن صورتي.لم تتوقف كاميرات التسجيل عند وجهي . أفتش بعيني عن الصف السابع ، أحصي الصفوف وهي تمر وأجده ، وحين تبدو رؤوس الجالسين في الصالة نقاطا صغيرة سوداء وبيضاءأشير لنقطة صغيرة عابرة وأقول لنفسي : هذا أنا .

بعد أن كنت أنام بعمق ، صرت أستيقظ هكذا ما بين الثالثة والرابعة فجرا . أظل قاعدا على سريري في العتمة والسكون وقد شبكت يدي أمامي على البطانية التي غطت ساقيي.أتنفس بهدوء لكي لا اقلق زوجتي . لا أفكر في شيء معين . تتراءى لي في الظلام صالة المسرح متوهجة كالشمعة ، وعيون الجالسين تلمع وهم يتبادلون ابتسامات الحنان وضغطات الأيادي الخفيفة . هل اختفى كل ذلك أم أن الصالة مازالت تعيش حياتها تحت سطح عالم آخر ؟ .لاحقتني صورة التسجيل ، فكنت أذرع فسحة الشقة الصامتة الباردة وحدي . أنظر إلي ساعة الحائط ليلا . أتمهل قليلا عند النافذة على يميني حيث لا يتسرب أي صوت أو ضوء . أتسمع رجع الهواء بين الأشجار العارية ، بوق تنفخ فيه مئات الأصوات بنفس واحد من صالة المسرح القديم .

اليوم ارتديت ملابسي ، وتعطرت . خرجت وأخذت أسير من دون هدف إلي أن وجدتني أمام مبنى المسرح القديم في شارع عماد الدين . توقفت ، ورحت من على الرصيف أتأمل المبنى المهمل . تراجعت للخلف عدة خطوات . رفعت عيني إلي يافطة الإعلان الضخمة المعلقة . تهرأ ورقها من التراب والمطر وتلوت أطرافه في الهواء . قطعت ممرا مستطيلا يفضي إلي مدخل المسرح . توقفت أمام الباب المكسو بجلد بهت لونه الأحمر . دفعته فانفتح على مصراعيه وخر من أعلاه تراب خفيف .دخلت إلي الصالة التي سكنتها رائحة غبار . سرت محاذرا في الممر بين الصفوف . غاصت قدمي في حفر تحت البساط المفرود المنسول . رأيت المصابيح محطمة مغبرة في أماكنها . والأبواب الجانبية انحنت إلي الأمام بعد أن تخلعت مفاصلها . جلود الكراسي تشققت . تطلعت إلي المنصة كان الستار مضموما على الجانبين انطفأت فيه لمعة شرائط القصب.

وهذا أنا أجلس في المقعد الثالث ، أحاول أن أرهف السمع لصوت الذين ينفخون في بوق واحد بين الأشجار العارية . لحظات ثم ظهرت السلطانة من الجهة اليمنى . كانت تدب منهكة وخشبة المسرح تصر تحت وطأة قدميها . خطت بتثاقل إلي أن بلغت وسط المنصة . تجمدت مكاني . انعطفت نحوي ومدت رقبتها . رأيت عينيها المفتوحتين واضحتين تحدقان في عن قرب بعتاب مرير . رفعت ذراعيها لأعلى بجهد كبير.مكثت لحظة صامتة وبصرها مرسل إلي قبة المسرح ثم فتحت فمها دون صوت .قرأت حركة شفتيها همسا ضعيفا : " قلبي معك .. مهما جرى " . مالت بعنقها نحوي .حدجت في وحركت شفتيها بفم خال من الأسنان : " قلبي معك " .

أردت أن أقف لأغادر المكان على وجه السرعة . هممت بالنهوض ، لكني لم أشعر بساقي ، كأن فراغا قد طوى نصفي السفلي كله .