هذا التمر المتساقط

الشمس تسلط أشعتها علي النيل.. ملايين من مرايا الجن الفضية مختلفة الأحجام تبرق وتسطع وتومض ببريق يزغلل العين.. تتوارى وتظهر في بقعة أخرى. تلمع وتضئ.. تختفي وتعاود الظهور (( هل ستعاودين الظهور بعد اختفائك يا حنة )).
في الظهيرة يرحل الجن بمراياه لتتزين بها إناثه.. تروح المرايا وتترك خلفها خطوطا علي شكل مويجات تتقاطع طوليا وتثور وتنتفض لأعلي انتفاضات محسوبة ((نحن لا يمكننا الثورة ولا الانتفاضة )).
الشمس يتبعها القمر. يرحل تتبعه الشمس (( هذه أيامنا )). النهار والليل والظلام والنور دورة تتابع وأيام تأتي.. ألا يشبه هذا اليوم الأمس وأياما عشتها من قبل واليوم الآتي واللاحق والذي لم يأت حينه بعد ؟
وأنا أقرئ أهل الدنيا السلام وأصرخ في أهل القرية (( دعوني لحالي( سلام عليكم لا طبتم ) ولا طابت أيامكم.. يا من لا تسيرون إلا بالعصي تهشون بها كلاب السكك وتفضون بها أي عركة*1 وتدخلون أخري جديدة وإذا عارككم أحدهم لا تقولون سلاما.. تلوحون بها في وجه نسائكم ولكم ( في العصا مآرب أخري).
والبدر يقول" صوتك دافى يتسلل للقلب طوالي.. تعرفي تغني يا سمرا ؟ هل غنيت قبل سابق؟" وأقول له " الغنا عيب " يسألني " هل حد كلمك عن صوتك قبلا ؟ غني يا سمرا بصوتك الدافي" أقول " بربك يا بدر ما تغني عليَّ " يضحك " غني يا سمرا عن الحب والوصال.. لا هجر ولا دموع ولانكد ".
تقول نسوة القرية اللاتي قطعن جلابيبهن ( حين رأينه وأكبرنه وقلن ما هذا إلا ملك ) غوته سمرا وهو (الطاهر البرئ دارت عليه وأخذته عبر مجاهل لياليها الباردة ساح بصدرها حتى غوي.. حاصرته بمكرها ) بدموعها.. بسواد ثوبها حتى غدا عبدا لها.
يجلس في الظهيرة في ظل نخيل الدوم المواجه لدارها وهو المتيم تاركا عشرات العذارى تدللا.
(( يا نسوة السوء يا من قلوبكن بلون أردية الحزن التي تتخذونها لباسا يكشف ويشف عن قبح نفوسكن..لماذا لا تدعنني وبلواي ؟!))
وأنت يا من ما أن يهجم الصيف بحرارته الخانقة حتى تسكن بدكتك الشارع.. تتغطى بالنجوم وتتوسد القمر حتى مجيء الشتاء وزوجتك تنتظر طفلا بين الحين والحين.
أطفالك متقاربون.. يشبهون بعضهم بعضا.. لو نمت بدارك كل ليلة ترى كم سيكون عددهم ؟!
وأنت النائم الذي لا تدري أحزاني ولا أحزان تلك التي ترتدي سوادها وتواري كهولتها وخصلاتها البيضاء وتغالب حزنها.. لا تدع أحدا يرى كريستال عينيها المتسلل الذي كلما انساب تمسحه بأطراف أكمامها وترسم ابتسامة تجاهد في تأطيرها.
وأنت تدخن النرجيلة وتكركر .. تطلق نكاتا وتكركر وتذكر للأقارب مآثرك وأنك بظهرك هـــذا تساند جدر الدار المهترئة منذ رحيل أبينا. وستظل كذلك حتى رحيلك – تستدرك – بعد عمر طويل.
وأنت الذي أمرت ونهيت..علمت وأنكرت .. جاءك الفتى اليوسفي خاطبا.. تماديت في عنادك.. إدعيت أن يوسف يعشق حنة – أختك و أختي – لمالها وأرضها وشجرها. وهو الغريب الذي لا تعرف له أصلا ولا فصلا. وأنت بعينيك – هاتين – ترى غصنها يذبل وأوراقها تتساقط.
تتعامى وتصم وتتخابث تذكر قوانين وأعرافا و تصر علي الأمين ابن عمنا زوجا لها.
أصررت على إرادتك وأصرت – هي - على رفضها ومشيئتها .. قالت " لا " للقط فاختطفها.. قالت " لا " وانتحرت.. أم تراها قالت " لا " ورحلت تاركة لك المال والأرض والشجر. 
والآن بكلماتك .. بتلميحاتك ( تطوقني .. تقيدني عند الشط .. وتحملني كل خطايا الغرقى ) تريد مني الاعتراف.
هل انتحرت حقا؟ عندما يموت قريب لي قد أذرف دموعي حزنا عليه.. قد لا أجد الدموع حين أستدعيها.. حين يحكون عن أحدهم مات منتحرا أو ماتت منتحرة دموع قلبي تنهمر.. غصة في قلبي أشعر بها وتنساب دموع عيني. هل هكذا ضاقت عليه الحياة بما رحبت ؟ انتحر في لحظة ضعف أم أنه يتعذب منذ زمن مبيتا النية.. منتظرا اللحظة المواتية للخلاص من أسر الحزن الذي يطفئ مصابيح روحه ويعشش داخل حشاه ؟
هل لم يجد عينا ترى أحزانه وتواسيه ؟ أذنا تصغي لشكواه .. يدا تمسح عنه دموعه.. روحا معذبة آسيانة تشاركه وتخفف عنه ؟!
أكانت قصة حب فاشلة ؟ وهل يستحق أحدهما أن يخسر الآخر دنياه وأخراه لأجله ؟
بينما ندم بداخلي يتملكني.. يقتلني في كل لحظة.. لماذا لم أتكلم( وقفت في موسم الهجرة منتوفة الريش مكسورة الأجنحة ) لم أفتح فمي لنصرتها.. خرست و خرست المرأة التي ترتدي السواد منذ رأتها عيناى.. ربما لو قلنا " لا " في وجهك لأختلف مصيرها الذي مازلنا نجهله.
تقول نسوة السوء اللاتي أحرقن ظلالي في هجير همسهن - وأنا أبغي حائطا يصد حرائق الشمس عن أشجاري - أن البدر المهاجر غوته السمرا – أم البنات الصغيرات – التي ليست زوجة ولا مطلقة وترك الصبايا لأجلها – أهدته الورود واستكان لورود خديها.
(( لماذا لا تتركنني في حالي ؟!)) 
تقول إحداهن عن خطيبها الذي يحبها " قال كل سنة وإنت طيبة و ما جابش هدية " 
(( وهل هناك هدية يهديها رجل لامرأة أفضل من مشاعره يمنحها إياها ))أحاول إقناعها..
تقول أنه ليس لديه سوي كلمات العشق يقولها تحتل قلبها- حينها - دون أن يترك فعلا ماديا يدل علي عشقه لها.
(( البدر القمري لا يسمعني كلمات العشق.. أظنه لا يعرف كيف يقولها.. ربما يعتقد أنها للصبية فقط. بينما العشاق يهمسون بآلاف من كلمات الحب الرقيقة الجميلة التي تسكن قلوب النساء.. هو عطاء بلا حدود.. عطاؤه يشعرني أنه حتما يعشقني كل العشق هذا الإنسان الرائع الذي وهبتنيه السماء )).
ونسوة القرية يتهامسن ورجالها يدبون الأرض بعصيهم.. يتناجون. 
وأنت يا من تقف أمام الدار وبيدك تحجب عنا الشمس.. تحمينا من وهجها ونارها ونورها.. تغلق عيوننا وبيدك أيضا تفتح كتاب القبيلة علي صفحة الأعراف والتقاليد والمواريث (وفي آخر كلمة في آخر سطر ) وفوق أعلى نقطة تقيم مذبحك لإناث العائلة.. كل من أبدلت جميع أسنانها اللبنية وجاء عليها الدور.
تبدأ بي وبعدي بحنة.. طوبى لمن تأتي بعدنا. دماؤنا النازفة تدور ترشرشها في الحقول..أمام الدور..في شاي المجالس والمحاصر لتروي الحكايات عن رجولتك.. عنك أنت الذي تسد بظهرك شقوق جدران دارنا المتصدع وبيدك تقاتل نور الشمس.
تأتيني لتساءلني وتبحث في محيط الكون عن سؤلك ولا تجد الإجابة.
ترتحل وتعود.. أجيبك بالصمت.. تملأ أذنيك الشكوك والأسئلة والهمسات.
وأنا أفتل أسئلتك المكتوبة في عينيك عقودا أطوحها في النيل تسافر في المدى.. تسد عين الشمس ولا تعود بإجابة واحدة تشفي صدرك المكظوم بالغيظ والشك.
صاحبتي تحذرني من شكوك أخي(( كم قتلت من أبرياء الشائعات )).
(( هل مكتوب علي بنات هذه العائلة المنكوبة أن يقتلن أو يرحلن أو يضللن فلا يهتدي إليهن بشر؟! هل مكتوب عليهن أن لا يعشقن إلا الأغراب ؟!))
والبدر حين أسأله يقول أنني جميلة .. روحـي تشع جمالا له جاذبية مختلفة .. سيقاني الممتلئة ..
أنفي .. شعري والطيبة التي يلمحها في عيوني و............و..............و.......... وأنا أضحك..أطرق بوجهي..أحمد الله ( أنه خلقنا ومنحنا نعمة الحب ووضع في صدورنا القلب لنحتفظ بالحب في داخله بمأمن من عيون الناس ) في خجل أسأله من أين يأتيني بكلماته الجميلة لينير ظلام روحي.
ورجال السوء يهرشون رءوسهم تحت عمامتهم الغليظة.. يلوحون لنسائهم بعصيهم تدلق في جلابيبهم بالوشايا والأخبار والشائعات التي تدور.
يقلن عن بدر الغريب الذي ( حين رأينه أكبرنه وقلن ما هذا ببشر ) أنهن كثيرا ما رأينه يتردد علي ديواننا عقب ظهر كل جمعة يتغذى بدارنا..
يضفن في خباثة أنه ليس بماء مواعين أو غسيل ذلك الذي تسكبه الطسوت قبل استيقاظ العيون أو في عز القيلولة حيث تنقطع الأرجل السائرة علي صهد الأسفلت عقب مرور الغريب المهاجر علي دارنا. وأنا أتركهن بنارهن وأتجاهلهن.
ترد إحداهن غيبتي بأنها عادتنا في إطعام الغرباء وعابري السبيل منذ جدنا الأكبر يا نسوة السوء.
من لديه عشرات الأطفال مثلنا يلعبون.. يتشاجرون.. يتسخون.. لا تفرغ ماء طسوتهم.
وأنت تضع المتاريس وتمنع خروجي حتى لحش البرسيم أو لجني النعناع لشاي العصاري ترسل الصغيرات.
تدور في البلدة وفي أذنيك آلاف الهمسات.. في عينيك آلاف الأسئلة.. تتوارى علي لسانك حين تري عيوني وأواري وجهي عنك.
أأنت تحسب أن الماء المتساقط من السماء علينا في هذا الوقت من العام – علي غير العادة – مطرا ؟
إنها عشرات الصفعات تتلقاها السحب.. عشرات النوازل تهوي علي رءوسها.. إنها دموعي ودموع أمك – تلك التي دوما تسكن في سوادها وحزنها – إنها بكاء السماء والشمس والقمر علي شقيقتي حنة..التي كانت تشبه في رقتها وتمايلها- للنسيم- زهر الحنة.
أنت تريدني جدارا أصد وجه الريح من حيث تأتيني.. نخلة بلا ثمر.. بلا سعف يجلس في ظله رجل و الآن استطال نخلي وطاب رطبي فلا تسألني عمن يجني هذا التمر المتساقط. 

________________________

* للشاعر/ محمد إبراهيم أبو سنة.
1- عركة = مشاجرة.