قالوا ثلاثة وهو رابعهم

(.. قم فانذر …) ، رسالة بعثها الروح لأهل الأرض ، إسرافيل تاه في أرض بابل ، قالت مدينة الملائكة ، مزحة سمجة ، صاروا ثلاثة وهو رابعهم ، أكدت مدينة الملائكة : لم يفق قبل ارتداد الشمس عن اللعب في حضرة القمر والنجوم ، لم يفق قبل ذبول الأجساد وانطفاء سكائر الكاوبوي ، لم يفق قبل تمزق عباءة الراهب بطعنة خنجر مسموم ، تثائب اليعازر ، عزفت موسيقى السماء لحناً جنائزياً، طأطأت الرؤوس لحظة التأبين ، أكّد المتحدث باسم المدينة : مدينة الملائكة نادت أهلها ، كان النداء احتفالاً ، دخلوا قلبها ، تنفسوا هواءها ، تكلموا كلامها، الريح الشتوية برت رؤوس الفِكر وحراشف الأقدام ، فكانت الأشياء معلقة من جذورها ، تصدعت ذاكرة نيوتن ، إسرافيل ظلّ غايته ، سافر مع سيقان تلم عُريها مع شظايا الفجر شاهد صدوراً تتكوم بأثدائها في قارورة عطر سندي ، وهناك ، في رقاب اليتامى تعلق كارتات السمر الموعود ، لحظة الفجر ، تدخل المدينة في أجساد سكانها ، الشوارع تتخفى بالصمت، حاسرة الرأس ، ينغل في ذاكرتها، سكون طفل ، طنين ذبابة منفية يشرخ مخيلة الشاعر المزعوم، ينقطع التيار الكهربائي فيتوقف المتحدث باسم المدينة عن الكلام .

*****

حدث نسيان ، اثنان ، رأسان مقلوبان ، يجوسان المكان ، إلى مقدمهما المدينة تسعى ، إلى قفاهما ، الساحة ابتعاد متواصل. ملاحظة :( في المدينة ساحة كالأنف السائب فوق مساحة الوجه ) في وقت غير هذا ، نزعت الساحة بنطالها ، اختلست من عريها نظرة، انخطف إلى ذهنها هدوء ، هدوء ممزوج برغبة شبقية ، ارتمت بين يديه ، انزلقت الزجاجة الملساء تجر خيبتها بين ساقيه ، بعد سبات الجميع كانت له وحده ، يمرر يده على امتداد قامتها المطروحة ، جلده ينكر دبيب أصابعه المخلوعة من رسخه ، مساماته اغتصبت عطش أنوثتها ، حينما يصحو رجل المرور المخمور يبصق بين فخذيها ، هي الساحة المنسية ، وهو الشاعر المهجور ، يرفع رأسه ، بنظراته يكنس عري الشوارع ، الضوء المتفلّت من قمة عمود يمضي الوقت جمود ، يلسع هامته المفضضة ، تهزه رعشه ، بين فخذيه روائح متعفنة ، بين ساقيه زجاجة ضيقة تتدحرج ببطء مع الريح ، يهمهم بصوته المنطفئ (اعطني حقنة مورفين ) ، الساحة إلى سمعه سكوت ثقيل والأشياء معلقة من جذورها ، فيتجمد داخل صمته المأتمي ، تأمل : ( هناك تمثال يجثم في قلب الساحة مثلما الوشم ) ، إنها حكاية لم تمت ذكراها ، قلب أوراقه ومضى يقول : في الفضاء الممغنط ، هبطت على الأرض مدينة الملائكة الخرساء، ومعها إسرافيل سار حافياً، في الفضاء الممغنط ، رقد اليعازر دون حراك، ثم استلقى شارع ونام ، وانقطع حديث الناطق الرسمي باسم المدينة….بغتة .

*****

السنة تلتحم بأخرى ، إسرافيل يتوسل أهل بابل شربة ماء ، صمت ، سكوت خفيف ، إنها واحدة من تلك الأسفار المرتبطة بالحكاية ، إليكم التفاصيل : ذبابة طنّت قرب أذن المذيع المسائي لتلفاز المدينة ، هز رأسه ، ثم أردف /آسف واستطرد يقول : إنها لحظات ، الوجه صمت وابتهال ، اليعازر دون حراك يقف أمامه رجل راهب وامرأة شعثاء الرأس ، طوقت كتفيها ملاءة سوداء ، وقفة تأبين، اقتربا منه ، تبركا بنظراته الماسية ، أوقدا شمعة ذهبية اللون فأضاءت المكان ، أتاهما صدىً، ليهجركما الشيطان ) ، فكانت لحظة مباركة ، السنة بكر ، الساحة نقطة منسية لم تؤرشف بعد ، الأنظار تمر بالرأس كل يوم ، لحظة مخنوقة ، اليعازر راقد دون حراك ، اثنان من كلاب الحراسة ، اقتربا منه ، علق أحدهما : إنه يفكر ، انه نائم الآن ، بل يتظاهر بالنوم، أجابه الآخر : دعه يفكر .. مجرد تفكير ، كيف ؟ ، ماذا تقول يا هذا ؟ حتى وان كانت أفكار عقيمة لا تثمر ، طلقة دون بارود تصدع ، انفجر الهدوء في هيئة أحدهما، قاطع يديه بعصبية ، تشنجت كلماته ، نظراته طفحت بالغضب، بصق في وجه الساكن ثم ابتعد مسرعاً ، يتبعه الآخر مكتئب الملامح ، دقت الساعة وظهرت إشارة نهاية البث على الشاشة المقابلة للمذيع الذي ابتلع لعابه بصعوبة قال إلى اللقاء.
مــذكرة :
أحد الباحثين في آثار المدينة كتب مذكرة قال فيها : رأس تتكور في دماغه أسئلة مرفوضة ، رجل مخبول ، عاش حياته غلطة ، أراد أن يقول شيئاً ، ساعة ضحىً ، صفق له الجميع فنسي ، وتوقفت أفكاره، السنة بكر، والبرد يسفع الوجوه ، نداء الله اكبر يملأ القلوب رضاً ، تمر به سيارات الموكب ، في وقت كان يرتب أكياس النفايات مثل أعوامه السالفة ، اليوم الخميس ، يلتقي نصفا الدين ، بصق في برميل القمامة ، مسح أنفه بكم قميصه ثم رمى الموكب بنظرة متأملة ، عبر خلالها الوقت والصمت والسكون ، فكان بهيئته تلك حتى صار دمية .  السماء لم تهبط بعد ، سفينة نوح لم ترحل ، مقال وصفي نشرته إحدى صحف المدينة جاء فيه : 
النوم في الرأس بطاقة دعوى ، ثمة صوت ينهر من بعيد ، كانت تلك حكاية ، أقسم لك .. لم أسمع … كذاب .. تتظاهر بالنوم ، حكاية وحسب تمر في ذاكرته ، دون شهود ، لا يفصح عنها لأسباب ذاتية ، على أثرها دخل مراكز الشرطة وثبت اسمه في ملفات القضاء، حكاية كانت، تدور في مخيلته كل ليلة، كل لحظة ، أراد أن يقول شيئاً ، ساعة ضحىً ، فضاع صوته في وهدة عميقة، لملم حطام كلماته وانسحب بعيداً إلى داخله الراكد المتحجر ، المتوقف عن الحياة لسنين خلت ، بعيدا إلى سكونه الطفل المذبوح بشفرة كلمة سباب بذيئة ، ذلك المتأبن بأجراس نورسة أثكلها البحر يوماً ، في ذلك الوقت ، ذكر أن حوذياً انهزم في مشاجرة خاسرة في إحدى ساحات المدينة ، تمتم اليعازر لحظة الفجر ، اهتزت شفتاه ، أراد أن يقول شيئاً ، أحس بالبرد يخذل جسده فارتجف ، أراد أن يحاول ، مازحته الكلمات. ربتت على جدران حنجرته من الداخل ، فحضر الخجل ، وحضرت الساحة المتآكلة ، فانزاحت الكلمات جانباً، طرق صدىً :
( قم فانذر … يا ابن آدم … السنة بكرٌ ) .
لم يعلق ساد هدوء حذر ، بغتة انفجرت طلقة جافة ، فاندثر السكون البرعم، وحضر المشهد ، ويختم المقال بعبارة : إنها مجرد حكاية وحسب ، عذراً للإطالة .

*****

يوميات الوقائع الرسمية ، ملاحظات ، لمحات نقدية ، إشاعات ، احتمالات، حضر المشهد ، أقدام تدوس الساحة ، موكب رسمي ، احتمال ، دورية حراسة ، احتمال آخر ، لصوص ، احتمالات واحتمالات ، في غفلة تصرخ براعم العشب تحت سنابك الخطى المشدوهة أبداً ، لم يقفوا ، لم ينتظروا، يطاردون لعاب العملة الصعبة، بين جلودهم والعظام يرقد أرق عجوز ، إنفرش جسد الساحة ، آخر ما تبقى من عيون الليل ، ثلاثة ، أربعة موكب صغير ، أقداح تغسل ، طاولات تستبسل حتى آخر السمر ، الشاي بالحليب يفاوض معدة خاوية كل ليلة ، تمر بالساحة ، دورية حراسة ويبقى الرأس وحده في الخواء ، دون فكرة تجر بقايا الخدر ، يجوسه البرد فيرتجف ، في لحظة ، ينفض رأسه ويباغت الأشياء بنظرة شبقة ، ثم يبتلع مسافة صمته ويمضي ، يمارس اغماضة جديدة ، يرى نعليه ، جروح راحتيه ، يلوح بعباءته دون أن يراه أحد .

*****

في وقت غير معلوم ، تأتيه كلاب الحراسة ، تمازحه ، تتنفس روائحه ، تتفرس في ضباب عينيه الغائمتين ، ترتب شاربيه الكثين ، بحراب البنادق تمشط شعره الأشعث ، تفتش جيوبه ، جلده المخربش بمخالب العناكب ، تدس في بطانة سترته إصبع بارود أحمر، كل يوم ، تحتفل الساحة ، ساعة ضحىً ، يحتسي إسرافيل قهوته في السماء السادسة ، الرأس مثخن بالصور، حينما استحضرته الأخيلة نهض والت دزني من على كرسيه وانحنى بقبعته امتناناً، مرّ به متسول، دس كفه في جيبه فالتوت أصابعه في فراغ رطب ، فملأ الغضب شدقيه واحتشد في تجويف فمه لعاب لزج ، انقذف ، رشقة أمطرت الوجه الجامد الملامح ، انساب اللعاب ، مثلما الوقت قطرات تمسح الزجاج.

*****

نداء خفي تردد في سماء المدينة ، اخترق سكون المساءات الهادئة ، ( قم فانذر ..قم … ) ، تتمات الأعمدة الناقصة ، ذكرت الصحف ، المكان / ساحة نصف عارية ، المجلس / قنفة، مقصلة باردة ، الكلمة الأخيرة /ضوضاء حذرة ، عندما تنفجر طلقة تمطر السماء صمتاً، وفي الوقت الذي أتى وجد إسرافيل نعليه.

تقرير الشؤون النفسية :
وحده يتمنطق بكسله حد الرقبة المنخورة ، يتمترس بصمت مزيف، لاتراه يدخن ، إلاّ أن بطانة ملابسه محشوة بالسجائر ، لا تشعر أن له رئة تعمل ، النوم في رأسه بطاقة دعوى ، عيناه إلى الأفق انشغال دائم، يحتسي خمرته في الظل ، يناقش من موقعه مسألة فلكية ، ينام مع النساء العاريات دون ترخيص قانوني ، وفي آخر الليل يصلي ، يبكي ، يتذكر، يعبر بنظراته حاضر الأجساد، يتراجع بين سطور المعاجم ، يتأرشف بين أدراج المكتبة القديمة ، في لحظة يقهقه ، يسخر ، ربما يلعن لحظة تتمسح بقامته بائعة هوىً منبوذة ، انه باريس الزمن الآخر ، ثم يلعنها في نفس اللحظة ، سامد في تجهمه ، يتبادل الرسائل والطرود البريدية ، يستلم برقيات الفاكس بلباقة خاصة ، يعقد برنامجه ، بالشمع الأحمر يختم مراسلاته، لم يغمض يوماً عينيه ، يرى العالم بين رموشه ، فقاعة ساخنة تصارع لحظات النهاية ، يتحدث مع أجساد غير مرئية، تهمش الهواء بحركتها ، خاطفة تمرق في سكون ثمل ، تتابع شرود ظلالها الهاربة ، وقبل أن يختفي يركل الساحة بكعبه، ملاسة جلدها تدهس راحتيه، برودتها تندغم في مساماته الثائرة فيتأفف ويمضي .

*****

يوميات المدينة الملائكية :
تجوال ، مشاهد يومية ، في الظلام الرطب تهجع البيوت ، في صحوة الليل البارد ، ينمو المشهد اليومي ، تنام المدينة ، إسرافيل يتذكر بوقه ، الحاويات عند الأبواب ، ماركات مسجلة ، تستر قبح الحضارة ، الكلاب البوليسية كلاب حراسة ، ترتشف الشاي بالحليب ، نساء ملونات ، يتحسسن ملاسة سيقان غضة ، تبتلعهن في المساء محفظة ثري أعور ، اللافتات تطرز واجهات الأبنية ، المحلات تتزين بتاج الشرفات، كارتات السمر الليلي مختومة بالشمع الأحمر ، يرن الجرس، تتقيا النوافذ نوراً هشاً ، قندس يتكور في هيئة بواب ناحل ، يتهدل لسانه ، تسيل منه نتف لعاب كثيفة ، يرن الجرس ، إشارة البدء ، ترتجف أطراف ، تحك أفخاذ ، هو/ يرفس الباب بكعبه ، القندس يتابع من الثقب ، يتأفف اليعازر ، يختض بدنه، مارد يشق صدره ، ينفلت كالسيل، يلوث الستائر المخضبة ، باندثار حبيبات ضوء خافت ، يرى، يحترق ، يتبول في صندوق الشكاوي القريب من مكانه ، يرى جلجلة رحيل المدينة إلى مخدعها ، باتت الشوارع عارية الا من بقعة ظله المتأرجحة هنا وهناك ، يتابع اختناقات النور في الزوايا ، تستقبله البراميل حبلى بالأشياء ، في صندوقه دفقة أنفاس مضطهدة ، هكذا يشعر بها ، وصرح أكثر من مرة بها ، السماء لم تهبط بعد ، إسرافيل نفخ بوقه ، رفع اليعازر رأسه ، دون كلام ، اغتالت صمته حكمة المسيح ، صفقت أصداء الخطى الذاهبة إلى مكائن تقليص العمر، قرب أذنيه ، عبث فتح عينيه ، فرأى السماء لم تهبط بعد ، والأشياء معلقة من جذورها ، تذكر نيوتن ، سمد في تجهمه ، من وراء ملامحه الضبابية ، مارس إغماضة جديدة ، لملم المذيع أوراقه وودع الناس بابتسامة يافعة .

*****