قصص قصيرة بقلم منير عتيبة

عشر قطع من لحم الحكاية..!! 


(أحاول لملمة أجزائها، لتكتمل جثة الحكاية.. لكن روحها الماكرة تخرج لى لسانها، وتستعصى بجبروتها المعروف، فلا تمنحنى سوى قطعاً من لحم الحكايات.)

1- لم يدرك شهر زاد الصباح
حدث أن مات الديك، 
فاستمرت شهر زاد فى الحكاية حتى تقطعت أحبالها الصوتية.. 
لكن شهريار كان مستغرقاً فى النوم.

2- قرار جرئ
قرر ابن المقفع نزع قناع كليلة ودمنة، والتوجه إلى السلطان مباشرة ليخبره برأيه فى الأسلوب الصحيح لحكم الرعية، حتى ولو دفع رأسه ثمناً..
وعندما وقف أمام السلطان، حاول أن يتكلم، فاكتشف أن رأسه مقطوعة بالفعل.

3- فريسة
استمرت العنكبوت فى توسيع دائرة سلطانها بإطالة خيوطها، هدفها الذبابة المخادعة التى كانت تراقبها منذ ولدت على الجدار المقابل لموقعها، ورأتها تكبر أمامها دون أن تستطيع اقتناصها.. 
أخيراً سيطرت على المكان كله، ووقعت الذبابة فى براثنها.. لكنها اكتشفت، بعد أن التهمتها؛ أنها نقعت نفسها فى السم قبيل السقوط.

4- قبــر
أتسكع، فى البر الغربى..
أجدادى المحنطون فى رحم الزمن البالى.. عبر حنوطهم الشمعى؛ ينظرون إلىَّ بحسرة..
أنظر إليهم ببلاهة..
أهندم كفنى العصرى..
أواصل تسكعى..

5- طير بلا معجزة
ممزقة أشلائى.. 
متناثرة قطعها فى قمم ثلجية.. وأنفاق حالكة.. وبطون حيتان وشراغيش.. وعروق نباتات شوكية.. وسطور ممسوحة فى كتب ممزقة.. 
ولا نبى يدعونى إليه فآتيه سعياً..!!

6- ذبيـح
عندما رأى أبى فى المنام أنه يذبحنى.. 
قتلت أخى المفضل لديه.. 
واستوليت على الميراث وحدى..!!

7- شرط المواطنة
أيتها الأمازونية العتيقة! 
اعتصرى رجولتى بقبضتك القوية، والقِ بغصنها الجاف فى بئر الذكرى المطموسة، 
لأستطيع أن أصبح مواطناً صالحاً فى زمن التخنث.

8- عمل
عندما استجاب لضغوطهم أخيراً تاركاً انكبابه الدائم على العمل وخرج يتمشى فى الشارع، ابتسم ملاك الموت قائلاً فى سعادة: أخيراً فرصتى لكى أعمل معه..!!

9- بصيرة
لم أكن واثقة بنفسى لدرجة أن أصرخ.. لكنهم عندما حكوا لى، وسن إبرة المحلول مغروس فى العرق المزرق النافر من ذراعى، عما لم أشاهده/ عما شاهدته بالفعل، علمت أن صرختى كانت تستطيع أن تنقذ تلك الطفلة التى تركت يد أمها فجأة وطارت مصطدمة بمقدمة الأوتوبيس لتصبح نثاراً.. 
ندمت كثيراً، بكيت كثيراً، احتجت إلى الكثير من الشجاعة، والثقة بالنفس، لأصرخ صرختى الأولى.. ثم الثانية، فالثالثة.. واعتدت أن أصرخ فى كل مرة، واعتدت أن يحكوا لى فى كل مرة عما لم أشاهده/ عما شاهدته بالفعل.

10- متطرف
أخيراً حضرت سيارة الشرطة. علمت أننى تجاوزت أقصى الحدود عندما حرضت زملائى على التصدى لضربات رجال صاحب المصنع فخطفوا منهم العصى والأحزمة ووقفوا فى مواجهتهم. علمت أننى أخطأت عندما رفضت أن أنزل درجة من عامل فنى إلى عامل عادى تحت رئاسة الفنيين الأجانب الذين استجلبهم صاحب المصنع، فى حين وافق زميلى أشرف.. صحيح أنهم خفضوا مرتبه أكثر من مرة، لكنه لا يزال يعمل، بينما أحاول أنا -فاشلاً- قراءة ملامح المستقبل فى عيون ضابط أمن الدولة المسلطة علىّ!!

*******


الغسيل


بائع الدوم العجوز كان أول من لاحظ.. تعالت الضحكات فى المقهى الكبير إذ ظنه الجميع مجنوناً، بينما تأكدت أنا من وقاحته وهو يصف ملابسى وملابس زوجتى بدقة مدهشة، قميصى التى تآكلت أطرافه فأخفيها فى البنطلون، ورجل البنطلون الأخضر التى رفتها زوجتى بخيط بنى، وقميص نوم زوجتى الأحمر الذى بهت لونه.. غلى دمى، وقمت أسب الرجل ومن يستمعون إلى وقاحته، لم يحاول أحد تهدئتى، فى ظروف أخرى كان يمكن أن يتحول وصفه لملابس زوجتى الداخلية إلى حكاية كبيرة تتفرع عنها حكايات، أما الآن فالبطل ليس هو الملابس، ولكن نظريته العجيبة التى يحاول إقناعهم بها.. خرجت من المقهى غاضباً مقسماً أن ألقى البائع العجوز وعربة الدوم فى ترعة المحمودية إذا رأيته يبيع أمام بيتى، ولم ينتبه أحد إلى صراخى، إذ تعالى صوت العجوز يعيد شرح نظريته حول العلاقة بين غسيل زوجتى والمطر.
فوجئت، فى اليوم التالى، بعدد كبير من الرجال والشباب والنساء والأطفال يقفون أمام بيتى، وعيونهم معلقة على بلكونة شقتى.. كانت زوجتى تنوى غسل ملابسنا، لكننى طلبت منها ألا تفعل، بعد أن شرحت لها ما حدث بالمقهى..
مر أسبوعان وزوجتى لا تغسل، ولا تجرؤ على الوقوف فى البلكونة.. كان الناس يتناوبون الوقوف وعيونهم المحدقة فى حبال غسيل بلكونتى تنتظر رؤية معجزة..
لم أعد أطيق رائحة الملابس التى زكمت الشقة الضيقة فحولتها إلى جحيم.. طلبت من زوجتى أن تغسل كل الملابس المتسخة، لأنه لا معنى لأن نظل هكذا إلى الأبد بسبب خرافة أطلقها عجوز وقح.. ساعدت زوجتى لتنتهى من الغسيل بسرعة.. وخرجت لتنشره متجاهلة الجموع التى شهقت ولمعت عيونها عندما رأتها..
انتهت زوجتى من نشر الغسيل، ودخلت الشقة، وألقت بنفسها فوق السرير منهكة من ثقل الضغط العصبى الذى تعرضت له.. لم تمر إلا دقائق، وسمعنا صوت المطر يهدر، نظرت من فرجة فى شباك حجرة النوم، هالتنى غزارة المطر، وأفزعنى منظر الناس الذين تحولوا جميعاً إلى أطفال مجانين يرقصون تحت المطر، وينظرون إلى غسيل زوجتى بتقديس، أغلقت الشباك، تمددت فوق السرير، حاولت أن أنام بلا جدوى..
مرت عدة أيام والمطر لا يتوقف، بدأت أفكر بجدية فى نظرية العجوز المخرف، خرجت مع زوجتى إلى البلكونة، وجمعنا الغسيل كله، وألقينا به فى طشت كبير فى الحمام.. بعد دقائق توقف المطر.. لم أرد أن أصدق، وتحاشيت النظر فى عيون زوجتى المذهولة.. 
أحضرت شاكوشاً وبضعة مسامير وحبال غسيل، وصعدت إلى سطح المنزل، دققت المسامير فى الحوائط، وشددت بينها حبال الغسيل، وطلبت من زوجتى أن تنشر غسيلها على السطح بعيداً عن العيون..
فوجئت بزوجتى تنزل من فوق السطح باكية منهارة بعد أن أكملت نشر الغسيل بصعوبة والعيون المكدسة فوق أسطح المنازل المطلة علينا تلتهمها بنظرات إجلال وخوف واتهام..
لم يتوقف المطر حتى صعدت إلى السطح، وقطعت حبال الغسيل، وألقيت بالملابس فى جوال قديم، ضربته بقدمى بغيظ ليتدحرج على السلالم ويستقر أمام باب شقتى، فحملته زوجتى، وفرغته فى الطشت..
وبعد دقائق من توقف المطر، دق باب شقتى، فتحته لأجد حشداً من الفلاحين وأصحاب الأراضى الزراعية، دخلوا قبل أن أطلب منهم الدخول، طلبوا من زوجتى نشر الغسيل فوراً، قالوا إن زرعهم قد يموت إذا لم تنشر زوجتى غسيلها ويسقط المطر، وافقت زوجتى تحت الضغط الشديد، وساعدتها فى نشر الغسيل على حبال البلكونة..
وفى صباح اليوم التالى، تدفقت الهدايا علينا، مع تأكيدات ألا نلم الغسيل حتى يطلبوا منا ذلك.. ورغم الضيق الشديد الذى شعرنا به، إلا أننا لم نستطع أن نفعل شيئاً.. حتى وجدنا عدداً كبيراً من التجار وأصحاب المقاهى والورش والسيارات والملاهى والباعة فى السوق الكبير ومنظمى المسابقات الرياضية، يطرقون بابنا بعنف، ويدخلون دون استئذان، ويجبروننا على لم الغسيل فوراً، لأن المطر الشديد الذى استمر لعدة أيام تسبب فى خسائر جسيمة لهم جميعاً، وانصرفوا وهم يؤكدون أن أى خسائر ستحدث لهم بعد ذلك بسبب المطر ستكون مسئوليتى شخصياً، وسأضطر لدفع ثمنها..
جلست وزوجتى وحدنا ننظر فى أكوام الغسيل المكدسة، ولا نعرف ماذا نفعل بها، ولم يستطع أحدنا أن يفتح فمه بكلمة يعبر بها عن أفكاره، أو ينفض هواجسه، أو يحاول الفهم، حتى هدنا التعب فنمنا جالسين..
فى الصباح اكتشفنا اختفاء حبال الغسيل من البلكونة، وأرسل الذين يكرهون المطر من أخذ غسيل زوجتى عنوة، وألقى لنا مبلغاً كبيراً، ثم جاء الراغبون فى المطر وفوجئوا بعدم وجود الغسيل، فاشتروا لنا ملابس جديدة، وطلبوا من زوجتى غسلها ونشرها فوراً..
دخلت زوجتى الحمام لتغسل الملابس الجديدة، ودخلت خلفها لأساعدها.. اتفقنا بالنظرات على الهرب من خلال شباك الحمام..
ونحن فى وسط البلدة، قابلنا جموعاً من كارهى المطر يحملون العصى والسكاكين والمسدسات، ويرددون جملة واحدة، "لا غسيل بعد اليوم"، حاولنا التراجع بعيداً عنهم، فوجدنا خلفنا عدداً كبيراً من راغبى المطر يرددون "اغسلى وانشرى فوراً".. نظرت أنا وزوجتى للجموع المحتشدة حولنا بقلق.. والتقت عيوننا فى حيرة.


12/12/2002م