مأوى الجن

بقيت أراقبه لفترة طويلة يخرج من المنزل بعد صلاة الفجر , لاأحد يعرف سر أعتياده الصمت ، بدا ينفرد عن العائلة , التغيير الذي حصل كان مفاجئاً للجميع . أدركت انه يحمل داخله هما لا يبوح به ..
يتحاشى نظراتي حين يراني أدقق النظر بوجهه لأرى الابتسامة الرقيقة ، التي عودني عليها , يندحر بضعف تلتهمه التداعيات ,يتكأ على الوجع ليخفي صوت مهدود .. اقتربت منه
قائلاً :- هل حصل ما لا اعلم به ؟!
ظل مطرقاً والابتسامة لا تفارق شفتيه ، سمعت صوته الضعيف يخرج من بين أسنانه ,أربدت سحنته المطوية بهزال , تراجع الى الوراء ليقول :- نعم ..
- اخبرني يا أبي .. استدار بوجهه ليواجهني ، لمحت في عينيه بريق مخيف وقال :-
- هل تكتم السر ؟!
- ما هو عهدك بي ؟!
- لا .. ان الأمر مختلف هذه المرة ..
غادرنا يلفنا الصمت بدثار يفاجئنا بوخزات معطوبة , في الافق الشمس تميل نحو الغروب , الهواء يتنفس غموض الحقول المترامية، في الطرف البعيد للقرية يقع بيتنا وعلى مسافة ميلين منه الطريق العام يبدو بأسفلته الأسود يتلوى مثل أفعى باتجاه الشمال ..
ظل والدي محافظاً على صمته ونحن نقطع المبازل الملحية ، لم اسمع سوى صوت أقدامنا تدوس الأرض الرخوة والمنتفخة بهشاشة ، بسبب سباخ الا رض الجرداء ..

حتى نصل الشارع العام كان علينا ، صعود هضبة صغيرة تنحدر بهدوء ، لتشكل كتفاً للمبزل الذي جفت مياهه , على بعد خطوات من نهاية الهضبة توقفنا ماتت ابتسامته الغامضة , وهو يقول :- هنا ..
أشار بإصبعه نحو قطعة ارض صغيرة ، نبتت فيها أجمة لعشب بري وأثل صحراوي ..
- ماذا يوجد هنا يا والدي العزيز ؟!
- هل تذكر الساعات التي اخرج فيها بعد صلاة الفجر ؟
- نعم ..
- كنت المح ضوء ينبعث من هذا المكان .. !!
فكرت لابد أن مكروها حصل له ، فقد عهدته رجلاً ريفياً طيبا لم يكن يفكر إلا بمساعدة الآخرين والذهاب إلى المسجد لأداء الصلوات , ترى ما الذي حصل ؟! ليفكر بمثل هذا الأمر تابع قائلاً :-
- كان الضياء عالياً انه يصل إلى السماء
لم أدرك ما يرمي أليه ، كان يحدثني باضطراب يوخز ألما يحتك في خثرة دمي , شعرت انه قد أصيب بلوثة عقلية .. استمر
- هنا بالضبط في هذا المربع الصغير تختلف جميع الأشياء .. انظر حولك ، السباخ في كل مكان إلا هنا نبتت هذه الأعشاب
أدركت انه يتكلم عن يقين رسخ داخله ، لابد انه رأى أشياء لاتبدو للآخرين بمثل هذه السهولة اشعر انه يتكلم عن حلم راوده ، لكني أكتشفت في نبرات صوته انه يتحدث عن حقيقة مجردة تحط في سماء روحه .. راح يخط على الأرض الجرداء بعصاه حول الأجمة الجاثمة وسط السباخ المنتشر في الأرجاء , الخطوط الواهية تنحفر في التراب الهش ، رحت أراقبه ينصهر في وساوسه يحاول طمر وجعه ..
حينما رجعنا إلى الدار كان ما يزال صامتا ، و بدا انه يغور بتفكير عميق .. تتغيرت أحواله عاف الزاد ولم يعد يهتم بالزراعة. شاهدته يتشاجر مع أمي ، كان يطلب منها أخراج النقود التي ادخرها لأجل الزراعة في الموسم القادم ..

تابعته عند الأصيل يمضي نحو البقعة التي بقي يتردد عليها وجدته يرسم مربعا على الأرض .. حينما فوجئ بي قال :-
- سأبني هنا مقام ..
- لمن يا والدي ؟!
- للعلويات ..
- أية علويات ؟
- رمقني بنظرة شعرت معها انه يظنني أبله .. أستمر بعمله في الأيام التالية , منهمكا بالذهاب إلى المدينة ، احضر معه عاملان من عمال البناء وجرار زراعي امتلأت عربته بمواد البناء ، في الموقع المحدد شرع بالبناء . خلال عدة أيام اكتمل بناء غرفة يحيط بها السباخ من كل جانب سوى طريق الجرار نحو الشارع العام ..
كثر اللغط في القرية الوادعة ، وراح الفلاحين يسألونه عن سبب بناءه الغرفة ، بقي يسرد لهم حكايته عن النور الساطع الذي رآه ، بدا إنهم يصدقون روايته فقد اشتهر بينهم بالورع والعبادة ولتغلغل الطهارة في أعماقهم ,المطوية بضمير مدفون تحت سلة العطش .. كان البعض يحمل بعض أمتعة بيته ليفرشها على ارضية المقام
بقى أبي مقيما في مقره الذي بناه .. بدأت اسمع الحكايا الغريبة لنساء وعجائز مريضات شفين بعد زيارتهن لمرقد ( العلويات ) الأمور تجري بشكل عجيب ، تغير سلوك والدي ، فبعد ان أطال لحيته واعتمر كوفية خضراء .. ازداد صرامة و تغيرت لهجته ، كان المريدين يتوافدون نحو المقام المطلي بلون أخضر داكن ارتفعت الأعلام المختلفة الألوان على البناية الصغيرة .. ولطخات الحناء تبدو واضحة حول زوايا الغرفة التي انتصب داخلها قبر وهمي مغطى بخرقه خضراء , ملأت الجو رائحة البخور وماء الورد ، الاشياء تنبئ بقدسية جليلة تبعث على القشعريرة ..
كان يعيش في ملكوت خاص لا يمكن النفاذ أليه .الفناء يعج بالقرويات اللواتي يجلبن نذورهن
لأبي الذي اعد مكاناً يخبئ به النذور .. يجلسن قبالته ,يسردن له تفاصيل مشاكلهن مع أزواجهن و إهمالهن من أزواجهن الذين يتزوجون عليهن من امرأة ثانية ..
احتجت التكلم معه لكنه لايكترث لوجودي ,كان مشغولاً بالنسوة المحيطات به يمازح الشابات برغبة تنبض بعري مكتوم يطرز انيناً مكبوتاً .
يخلو المرقد فترة الظهيرة من الزائرين . دخلت وجدته متمددا على قفاه بمواجهة الباب ظل يحدق بي حتى جلست بمواجهته أستدارعلى جنبه الايمن قائلا :
- غدا سآخذ بعض الرجال ، ونذهب لخطبة امرأة ..
- لمن الخطبة .. ؟
- وبصوت واضح وصريح سمعته يقول :- لي
- لك يا أبي ..؟!
- نعم لي .. هل تعترض على ذلك ؟
قال ذلك بحزم ثم اعتدل بجلسته وأردف .. هل لديك مشكلة في ذلك ؟!
- لكن يا والدي .. وبدون أن أكمل عبارتي صرخ في وجهي وهو يشتمني :- اخرس يا ابن …
في الأيام التالية كان يفكر في بناء دار له بجوار المرقد ..