رجلٌ ملتصقٌ بكـرســيّ

تباينت روايات كل من زعم أنه شـاهدٌ على الأحداث. عدد الزاعمين آخذٌ في الازدياد، حتى يومنا هذا؛ ولم يكن ثمة من يلتفتُ لذلك التباين في الأقوال؛ ولم يتوقف أحد ليراجع الروايات ويتبين حجم الحقيقة فيما يدلي به الشهود. اكتفى الجميعُ بالإنصـات، ليس لأن البشر مطبوعون على الميل لسماع أخبار الآخرين، فحسب، بل أيضاً لأن نوعا غريباً من الحرص ساد الجميع، فكأنهم اتفقوا على ألاَّ يقترب من الحقيقة من يضعها في حجمها الحقيقي. كأن القوم تواضعوا على حماية بنيان شيدوه بأنفسهم.

على أي حال، كانت رواية الساقي هي الأقرب إلى عقول البعض، ممن ينشــدون اتسـاق الحقائق وتراتب الأمور. ويجب أن نحدد أكثر، فنقول إن جانباً من هؤلاء قد رضي بالجزء الأول من شهادة الرجل، الذي لا يمنعه عيب خلقي في إحدى قدميه من الحركة الدائبة، ليس داخل المقهى، فالمكان عبارة عن دكان صغير، لا تزيد مساحته عن بضعة أمتار مربعة، ولكن في نطاق دائرة من المحلات التجارية والورش الصغيرة، يوصِّـلُ الطلبات لزبائنه من العاملين بها، وكان – أيضاً – يخدم نفراً من سكان البيوت المجاورة. أكَّـد الساقي الأعرجُ – وهو العامل الوحيد بالمقهى، ويقوم بسائر الأعمال – أنه كان يعدُّ غلاَّيـة الشــاي، واقفاً وظهره للباب، فلما اسـتدار وجـد زبوناً على الكرسيّ الوحيد في مركز المقهى، الذي لم يكن يتسع لأكثر من طاولتين أخريين، حول كل منهما كرسيان بقاعدتين من القش؛ وكانت الكراسي الأربعة خالية. قال : زبائني كلهم خارج الدكان، وندر أن جاء زبون من غير أهل الشارع ليجلس داخل المقهى. قال أيضاً إن الزبون كان غريب الهيئة، وربما كان أنيقاً، فهو لا يفهم في الأناقة ليؤكد ذلك، لكن اللافت للنظر أن ملابسه كانت غير اعتيادية، ولابد أنها تساوي نقوداً كثيرة. ورداً على سؤال عما سمعه من الزبون الغريب، قال الساقي إنه لم يسمع منه كلمة واحدة، حتى (السلام عليكم) لم يقلها. ولمَّـح إلى أن شيئا لا يستطيع تحديده في الزبون الوحيد جعله لا يرتاح إليه ويشعر بالقلق من تواجده داخل المقهى.

أكد بائعان متجولان على أناقة الغريب. دخلا إلى المقهى الصغير وانزويا جالسين إلى إحدى الطاولتين الخاليتين، وفرشا عليها نصف صفحة صحيفة، وضعا فوقها صفاً من الأرغفة البلدية وقرطاسا مبقعا بالزيت، مليئا بأقراص الطعمية، وآخر باللفت والجزر المخللين؛ وانهمكا في تناول وجبتهما غير حافلين بالرجل الجالس على بعد منهما لا يزيد عن متر واحد. بدأ اهتمامهما به بعد أن اقتربا من الشبع، ولاحظا أنه يدخن بشراهة، وأن علبة سجائره من النوع الفاخر. وبعد أن فرغا من تناول طعامهما، طلبا كوبي شاي. أقر أحدهما في روايته أن زميله راهنه على نجاحه في الحصول على سيجارة من جارهما الذي كان منشغلا عنهما تماماً، شاردا. سأله : أهذه سجائر مستوردة ؟. التفت إليهما محدقاً بهما؛ ومرت لحظات قبل أن يبدر منه رد فعله الصامت، فتتحرك يده بعلبة السجائر باتجاههما. أخذ كل منهما سيجارة. لم يشكراه، ولم ينطق بحرف. وتدافع ماسح أحذية، مخترقا جمع المتحدثين والمستمعين، ليضيف –في حماس واضح، كأنه يثبت حقه في سبق - أنه حصل على سيجارة من ذات العلبة؛ وأكد على صمت الرجل، فعندما اقترب منه يضرب بفرشاته على صندوقه، متسائلا : تمسح يا بك ؟؛ تمهل الرجل للحظات قبل أن يشير إليه، دون كلمة، موافقاً. جلس ومسح حذاءه، ولم يكن – بالحقيقة – بحاجة لتلميع؛ ودخَّن السيجارة أثناء عمله، فلما انتهى نفحه الرجل ورقة من فئة الخمسة جنيهات، وأشار إليه أن ينصرف، فانطلق مستغربا غير مصدِّق. قال ماسح الأحذية أن وجه الرجل كان حزيناً، كأنه خارج من جنازة، وتهيأ له أن عينيه كانتا شديدتي الاحمرار، وبتعبيره : كانتا ككأسي دم. وكان حديث ماسح الأحذية غير متفق مع ما قاله متسول اعتاد المرور على محلات ودكاكين المنطقة. لما دخل إلى المقهى ولمح الرجل، لم يشكَّ لحظة في أنه سيستجيب له، فسأله صدقة مما أعطاه الله، فأشاح الرجل متأففاً، فدار حوله دورة، وعاد يسأله، فغمغم، وعاد لشروده غير مبال بالمتسول الذي كان يتلكأ في الانصراف.

بدأت الروايات تشق مجرىً مختلفا عندما تقدمت فتاة متسخة الثياب بأقوال جديدة. لم يطلب منها أحد أن تتكلم، ولكنها اندست في حلقة من عمال الورش المجاورة، وأخذت تحلف بالله العظيم أنها اقتربت من الرجل وهي تعرض عليه أكياس المناديل الورقية، فأخذ يتفحصها بعينين ثاقبتين. قالت إنه كاد أن يأكلها بعينيه. وبدأت بحكايتها الميولُ إلى الجنوح. لم يهتم أحد بأن يسأل من هذه؛ ولم يلاحظ الجميع مظهرها الذي ينبئ عن متشردة لا حظَّ لها من جمال؛ ولكنها أثارتهم عندما أشارت إلى أن نظرات عينيه أثَّـرتْ فيها، فانسحبت من أمامه مرتبكة. نسي بعض المتحلِّقـيــن حكاية الرجل تحت وطأة الانتباه المفاجئ إلى أنوثة الفتاة شبه الحافية، متسخة الثياب، التي كانت - لزمن طويل - تروح وتجيئ أمامهم ولا يكترثوا لها. اكتشفوا أن لها صدراً، وشفَّ رداؤها البالي عن خطوط تحسستها أعينهم.

اختلف الرواة حول توقيت ظهور الرجل فوق كرسيه بالمقهي البائس. قال الساقي الأعرج إن الأمانة تقتضي منه الإقرار بأنه لا يستطيع أن يؤكد – تحديداً - وقت أن رأته عيناه لأول مرة، وعبَّـرَ بصعوبة عن إحساسه بأن الرجل كان موجوداً طول الوقت. قال إنه اكتشف وجوده فجأةً، ولكن لم تمض دقائق حتى اعتادت عليه كل حواسه، ولم يكن غريباً أن يبقى جالساً على كرسيه طول الوقت، بل كان المستغرب أن يقوم ويغادره. وجاء عجوز من أهل المنطقة وقال إنه تفحص هيئة الرجل جيداً، وإنه يؤكد على انتمائه لعائلة كبيرة تسعى، منذ عشرات السنين، لاسترداد حقوق أفرادها في وقف هائل يمتد ليشمل البيت الذي يقع المقهي تحته، والبيوت المجاورة، بل وكامل الشارع وشوارع أخرى جانبية، بها مبانٍ أثرية من عصور قديمة. قال أيضاً إن الرجل الذي لا يزال جالسا على كرسيه بالمقهي قد جاء ليراجع أملاك عائلته الممتدة إلى أصل تركي. وادَّعى العجوز أنه على صلة غير مباشرة بأفراد من العائلة، وأنهم يوشكون أن يكسبوا قضيتهم المرفوعة ضد إدارات الأوقاف، لتعود إليهم أملاكُ أجدادهم. همهم المستمعون إليه، واهتم بعضهم بأن يعود ليلقي نظرة مدققة في الرجل الجالس بالمقهى، فهو من مالكي الزمام القادمين، وإليهم ستؤول مساكن ومصالح بشر كثيرين. وفوجئ الجميع بأحد عمال ورشة حدادة مجاورة للمقهى يقسم بأنه شاهد الشخص ذاته بين جمع من الأفراد، ومعهم عضو البرلمان عن الدائرة، يتجولون بالمنطقة ذات مساء بعد أن أطفأ معظم المحلات أنواره. انبرى شاب، في عصبية واضحة، معارضا لفكرة أن الرجل من ورثة وقف عظيم تدخل المنطقة كلها في نطاقه، وقال إنه قرأ بالصحف أن المنطقة مقبلة على أيام ستتغير فيها ملامحها تماماً، فهي جزء مهم من المدينة القديمة، وقد خنقتها العشوائيات وأفسدت ملامحها الأثرية العريقة، وأن الإدارات الأثرية والسياحية قد وضعت خططا لتطوير المكان كله. وأضاف قائلاً: طبعا لا يخفى عليكم أن كلمة تطوير هذه تخفي وراءها ما تخفي، فهي الكلمة التي تزين خطط الحكومة للانقضاض على مصالح البشر المستقرة، لصالح رجال المال والأعمال الذين أصبحوا متوغلين في كل الاتجاهات، ولا تشبع بطونهم، ولا تكف أطماعهم؛ فأينما وجدوا مصدرا للربح اندفعوا باتجاهه غير عابئين بمن يدوسون من الفقراء الذين لا حول لهم ولا قوة.

فوجئ الشاب بأن كلماته ذات الشحنات العالية لم تترك أثراً ذا بال في نفوس من كان يتحدث إليهم بصوته العالي. عاد يزعق فيهم : ألا تأبهون لما سيحدث لكم ؟. علينا أن نجرجره ونلقي به بعيداً عن بيوتنا، ليكون في ذلك رسالة نوجهها لأولى الأمر في هذه البلاد، ليعرفوا أن حقوق البشر ليست نهباً للرأسماليين المسعورين. جاءه ردٌّ : من سنين ونحن نسمع بمشروعات سياحية وإعادة تخطيط، ولا شيئ يحدث. وقال آخر : يا ســلام ! .. صوتك قادم من بعيد جداً .. من زمن طويل لم نسمع كلاماً ككلامك !. ثـمَّ جـــاء من حوّل دفة الحديث تماماً، قال : يا جماعة .. ألا تبصرون وتعقلون ؟ .. الرجل جالس في المقهي منذ فتح الأعرج بابه في الصباح الباكر، ولا يزال في مكانه لم يبرحه .. لم يأكل .. لم يشرب .. لم يتحدث لأحد .. لم يتحرك، حتى، ليذهب ويبحث عن دورة مياه .. ما معنى هذا ؟!. ارتفع صوت امرأة غوغائية، معروفة في المنطقة بنشاطها المشبوه، وهي أم لثلاثة أبناء يروجون معها أكياس الهيروين التي تخبئها في حمالة صدرها؛ قالت : أقطع ذراعي إن لم يكن الرجل من المباحث. وتعاطف معها الكثيرون، ليس لأنهم يحبذون نشاطها، ولكن بدافع كره أو عدم استلطاف عام شاع في الآونة الأخيرة ضد جهاز الأمن الداخلي. غير أن مداخلتها المحرَّضـة لم تلبث أن شحبت أمام تساؤل طرحه أحد الواقفين بالحلقة : وهل هم من الغباء بحيث يأتون سافرين ؟. المؤكد أن بالرجل خبـلاً، ولا تخدعكم المظاهر، فالجنون ألوان، واختلال العقول شاع هذه الأيام.

وكان النهار قد تخطى المنتصف حين وجد الساقي نفسه مضطراً للتوجه إلى الرجل الجالس على كرسيه بوسط المقهى. سأله : هل ينتظر البك أحداً ؟. هـزَّ رأسه نفياً. عاد يسأله : أنت لم تطلب شيئاً منذ جلست على كرسيك. أخرج الرجل ورقة نقدية من فئة كبيرة، قدمها للساقي الأعرج، فأوقفت تساؤلاته، وخرج من الدكان إلى الرصيف المقابل، وأخذ يتباحث مع نفر من أهل الشارع؛ ثم عاد إلى المقهى ومعه رجلان. أحاط الثلاثة بالرجل الجالس منذ الصباح لم يبرح كرسيه، فلم يحرك ساكناً. بادره أحد المحيطين به : أأنت بخير؟. ولأول مرة ينطق الغريب : لا بأس. تبادلوا النظرات. سأله آخر : أتحتاج لمساعدة ؟ .. ماذا يمكننا أن نقدم لك ؟. تحدث للمرة الثانية : شكراً. واجهه أحد مرافقي الساقي : لكن مكوثك على الكرسي طال ؟. قال الرجل : هذا مقهى !. رد عليه : نعم .. نحن نعرف أنه مقهى، ولكن لكل شيئ أصولا وأوانا. سأله الرجل بصبر نافد : ماذا تقصد ؟ .. ماذا تريد ؟. قال محاوره : المحل له مواعيده، والساقي يتهيأ لإقفاله ليذهب لبيته.

وبالرغم من أن هذه المحادثة القصيرة لم يعاينها غير عدد قليل من أهل المنطقة إلا أن تفاصيلها أخذت تتردد على كل الألسنة وتنتقل من رصيف لآخر، ومن شارع لشارع؛ وتضاعف عدد الكلمات القليلة التي رددها الرجل الغريب في المقهي، غير أن أهم ما لقي رواجا من الكلمات المزيدة هو قول نسب للغريب بأنه لا يستطيع مغادرة كرسيه لأنه أصبح لصيقاً به. وأقفلت بائعة خضروات محلها القريب والتحقت بالمتابعين لحكاية الرجل الذي دخل المقهي فالتصق بالكرسي الجالس فوقه. كانت مندهشة في أول الأمر، ولم تلبث أن تبنت الحكاية واندفعت تروج لها بنبرات صوت واثقة. أضافت أن الرجل غير عادي، وقد يكون (مبروكاً)، أو مســـه جان. وقالت إنها تسمع من صغرها حكايات عن أن موقع المقهى مسكون، إذ شهد مذبحة مروعة في أيام المماليك. وزادت فقالت إنها – شخصياً – كانت تسمع أصواتاً غير مألوفة تأتي من داخل الدكان حين تضطرها الظرف للاقتراب منه ليلاً، وفي وقت الشتاء على وجه الخصوص. ولم يلبث المكان حول المقهى أن ازدحم بالناس، وبينهم بعض العابرين من غير أهل المنطقة. وترددت قصة الرجل الذي لا يريد مغادرة كرسيه بالمقهي بعدد مرات السؤال عما يحدث، من كل قادم جديد. وأصبح الرَّدُّ يختصِـرُ أصـــلَ الحكاية، ويذهب مباشرة إلى أن رجلا جلس في مقعد والتصق به المقعد. قال البعض، ليذهب بالكرسي الملتصق به؛ وقال آخرون، لقد التصق بسرواله، فانزعوا عنه السروال؛ ولكن كل الاقتراحات كانت تتردد ثم لا تلبث ان تخفت وتتلاشى، ولا يبقى غير حكاية الرجل الملتصق بالكرسي في المقهى. ورأى صبي أن السر يكمن في الكرسي. قال إنه ليس كرسيا اعتياديا ككل كراسي المقاهي. وقال إنه رآه بعينيه، وأن له ظهراً محلىً بنقوش بارزة وغائرة، ومسنداه مطعمان بالصدف، أما أرجله فمخروطة على نحو عجيب لم ير مثله في كل الكراسي التي عرفها.

ذهب النهار تماماً، وحلَّ الظلام فغطى المكان الذي صــار مكتظا بالناس، ولم يكن الشارع مزوداً بمصابيح، ولا المحلات المجاورة، لأنها لا تعمل بالليل، فتطوع عدد من السكان بتقديم وسائل الإضاءة التي سهلت للناس أن يروا بعضهم وأن يطمئنوا إلى استمرار التفافهم حول قضية الرجل الملتصق بالكرسي. واجتذبت الإضاءة مزيدا من أهل الفضول. وعند انتصاف الليل كان الازدحام قد بلغ أشده، وأصبح كل واحد من المتجمهرين يحكي الحكاية كأنه تتبع وقائعها منذ البداية. وحتى ذلك الوقت، لم يفكر أحد في إجراء عملي لإنهاء هذا المشهد، بل استمرأه الناس، وكان بعضهم يتحدث عنه بحماس بالغ، كأنه قضية عمره.

وفجأة، أمطرت السماء، على غير موعد. كان الوقت خريفاً وإن كان طابع الصيف لا يزال عالقا به. وكان المطر غزيراً، ولم يجد جمهور الرجل الملتصق بالكرسي ما يحتمون به من المطر، فانطلقوا يلتمسون النجاة من البلل. تسرب الجميع هربا من المطر الغزير القادم في غير موعده؛ ولم يهتم أحد بأن ينظر إلى الخلف، باتجاه دكان المقهى ليتأكد مما إذا كان لا يزال مفتوحا، أم أن الساقي الأعرج أغلق أبوابه الخشبية واختفي تحت المطر.