! أنـا يـوســف .. لعلّـك تتـذكـرنـي

... كــان ذلك عنــوان الرســالة.

شـــيئٌ مـا جعلنــي أتمهّــل، ولا أســارع بإبعـادهــا إلى ســـلة المهــملات، تمهيــداً للتخلّـص منهــا، كســـائر الرســائل التي تقتحــم علــيّ بريـدي، وتحمـل أســـماء مختلفـة، وهميـة في الغـالــب، وقد تكون محشــوة بفيروس خبيث، ينطلق فيعيث في برامجي ومخزوناتي فســـاداً .. ذلك احتمال قائم، بل لقد وقـع بالفعـل، في أول عهدي بشــبكات الاتصــال؛ وكانت الخســائر – وقتهـا – محـدودة؛ ولـن أدعـه يحـدث ثانيـةً، فقد توحشــت الفيروسات، وازداد المتلصصــون وناشــرو الدمـار خبثـاً، ومن جهة أخرى، تضخمت ملفات المعلومات التي يختزنها حاسوبي، لدرجة أنني أفكر كثيراً في الوقت المطلوب لكي أنجز معالجتها، وأتشكك في احتمال تحقق ذلك، مع تسارع سنوات العمر وتراجع الحيوية .. ثـم إنني لـم أعــد أطيـق الابتعـاد عـن جهـازي، وعن أصـدقائي الذين أطمئـن إليهـم، ومنهم من لم أره في حياتي، وقد لا يتســـنى لي أن أراه، مثل ذلك الذي يقيم في مركز لأبحـاث المناخ الكونـي، في الأنتاركتيكــا.

فمـا الذي جعلنـي أفتـح رســالة يوســـف ؟

كانت كلماته القليلة، في عنوان الرسـالة، صــادرة من شــخص يقتـرب منك، متوســلاً ألاّ تخيّــب ظنـه فيــك ...

كان تأكيدُهُ على أنه هو يوســف يرجوكَ أن تفتِّــش في جنبـــات ذاكرتك، لتتوقف عند هذا الاســم ...

ثـم إنه يؤكِّـــد الرجـاء بالتســـاؤل : لعلـك تتـذكرنــي !. الغـربــاء يســـألون : هــل تتــذكـرنــي ؟؛ وهــو اســـــــتخدم – في انجليـــــزية راقية – ( لعلَّـــك ) بدلاً من ( هــل ).

والحقيقة، هي أنني اســتغرقت وقتاً في تأمُّــلِ العنوان، قبل أن يتكشَّــــــف أمامي معنـاه، وأتغلّـب على مخاوفـي من تكرار وقعتي السابقة مع الفيروس الإلكتروني، بكل مرارتهـا. وبضغطـة علـي الرابــط النشــط، انفتحـت الرسـالة؛ وفوجئـت – وهي تأخـذ في الظهـور – أنني نســيت أن آخـذ بإجراءات الحماية المألوفة، فأطلب – قبل أن أفتحها – تنشـــيط أحد برامج كشــف وتدمير الفيروسات، ولـديّ منهـا ثلاثـة. أفقدتني المــودَّةُ التي استشعرتها، مبثوثة في العنـــــوان، حــــذري؛ وازداد اطمئناني عندما وجــــدت أن الرسـالة، وكانت طويلة ( مقارنة بالرسائل الإليكترونية الاعتيادية )، لا تحمل أي ملفات داخلية من الأنواع التي يشــيع اســتخدامهـا بواســطة المخربين، كفـخـــــاخ يقع فيهـــا الغافلون.

كانت كلمات البداية مفاجأة أخرى : أيهــا الولــد العــزيـز ! ... ثم راح يحدثني عن حنين جارف للوطن، دفعه لأن يضيـف إلى جهـازه قدرة تصــفّــح المواقـع العربية، وإن كان لا يستطيع الكتابة بالعربية ... " فقد كنت – وأعتقد أنك تتذكر – ضعيــــفاً في ( العربي )، وكنــتُ مســـتهدفــاً – طول الوقت – من " الأستاذ الشورى "، صاحب الشتيمة المشهورة : ( يا مجرم يابن المجرمين ! ) ..... ".

قال إنه كان يتجوّل في أحـد هذه المواقع، فلمح صـورتي تتصــدَّرُ مقـــالاً لـــــي، فصــرخ، حتى أن زوجته ظنـت أن آلام الكلــى عاودته، فهـرعــت إليه في حجرة مكتبه بالمنزل، فأشــار إلى الصــورة، وقال لهـا : هــذا هـو رجــب .. زميـل دراســتي في الإســكندرية !.

لم يخـف يوســف عليّ أن زوجته ثارت، وعنّفتـه، بل ســبّته هو وصديق الطفولة، الذي ألقت صـورتُه الرعـبَ في قلبهـا !

كتب يوسـف يقول:

" ملامحـك لم تتغير كثيراً، إذا اســتثنــيــنـا الصــلع الذي يظهر في صورتك وقد ضــرب معظـم رأســك؛ ولكن ضيـاع الشــعر، والزمن " اللعين "، لم يؤثـرا على خطوط وجهك الطويل، المتناســب مع طول قامتك. كنت أطول تلاميذ مدرسة النيل الإعدادية .. هل لا زلت طويـلاً يا رجـــب ؟! . كان ( الأستاذ بولس ) يعهد إليك بمهمة مســح ( الســبورة )، لأن يدك كانت تطول أعلى نقطة فيها. هل تتذكره .. مدرس الرياضيات، الذي كان يضع يديه في جيب بنطاله، ويهرش ما بين فخذيه، وهو يشرح لنا مسائل الجبر ونظريات الهندسة !. بالمناســبة، أنا أدرِّس الرياضيات في مرحلة توازي ســنوات مرحلـة الدراسـة الثانوية في مصــر. وأنا أعيش في نيوجرســي، منذ العام 1972؛ وزوجتي من أصــول هندية قديمة، ولي منهـا ابن يعيش بعيـداً عنّــا، وأركـب الطائرة لأزوره !. أعتقد أنك متزوج. طبــعاً، لا أتصـــوَّركَ وقـد تزوجــت من ( طابيســا )، ابنة راعـــي الكنيســـــة، التي كنـــتَ تســكنُ إلــي جوارها، في ( غيط العنب )، والتي أتذكر أنك أفضيـت إليّ بحبك لهـا .. إنني أتذكر كل ذلك جيداً، لأنني كنت – وقتها – في حالة غيظ شديد منك، لتجرُّؤكَ على حــبِّ بنـــــتٍ مســــيحية، برغـــــم تأكُّــدي مـــن أنه حــب ( عيالي )، ومـــن طــــرف واحــــد، لأن ( طابيســا ) كانت، وقــتـها، تدرس في الجامعة، ونحــــن ننهي المرحلة الإعدادية ! ".

اضطربت مشاعري، نحواً مـا، وأعدت قراءة السـطور.

هـل كـان يوســف على هذه الدرجـة من القرب إليّ ؟!.

غـيــر أن ما لا يعرفه يوســـــف، هو أنني لا زلـــــت أحِــنُّ إلى صــورة وجـه ( طابيســا )؛ وحاولت – مراراً – أن أتتبـع أخبـارهـا، بعـد هجرتهـا مع أســرتها إلى ألمانيــا. وما لن أقوله ليوســف، إن عزمتُ أن أردَّ عليه، أن حبي لطابيسـا لم يكن مجرد شــغف صبياني، فلا يزال قلبي يرفرف كيمامة تائهة حين يطـلُّ عليّ طيفهـا الملائكـي، وأن بين أوراقي – في مكان ما بمكتبــي الغارق في فوضى الأوراق – أيقونة تحمل صورة وجه السيدة مريم، وكنت أرى فيها وجه " طابيســا " !. وما لا يعرفه يوسـف، أيضـاً، أن طابيســا كانت أول أنثـى ألامســها، وقد عشـت معها أول ليلة حـب في حياتي، لأكتشــف – عندما أيقظتني أمي في الصباح – أوَّلَ بقـــعٍ مصـفـــرَّةً، أعاينها وأنا في الحمَّام، تنتشــر في ســروالي الداخلي !

كتب يوسف يقول:

" كان اســمك غائبا عن ذاكرتي، فلما قرأته تحت صـورتك، تذكرت كل شــيئ، وصـرخــت : رجــب .. رجــب؛ فتركت زوجتي المطبخ، وأســرعت إليّ. وقرأتُ المقال المنشــور بالموقع، والذي يحمل توقيعك، فقلـتُ : أمـــرٌ طبيعيٌ أن تكون هذه كتابته، ذلك الولد الذي كان يحلم بأن يصير كاتباً، وكان – في الثالثة الإعدادية - يحدثنا كلاما كان يبهرنا، عن العدالة والفقراء والثورة، والذي كان يحتفــظ بثــلاث خطابات تحمل توقيع " جمال عبد الناصر "، و يحفظ فصولاً كاملة من الميثــــــاق الوطني، ويكتـبُ أفضــلَ موضــوعات الإنشـــاء، حتى أن الأســـتاذ ( محفوظ الشــورى ) قرر أن يحتفظ بكراســته، في نهاية العام الدراسي.

أنا الآن – يا رجب - مواطن أمريكي، ولكني تعاطفت مع كتابتك .. إنني أقصد موضوعـــك المنشــــور في موقع ( ميدل إيست أون لاين )، الذي يحمل عنــــوان ( عراق آخـر في مصــر الجديدة ! )، والذي تتحدث فيه عن عملية اختطـاف طفـل لأم أمريكية وأب مصــري، بواســطة عمـلاء مخابرات، غالباً، من حجرة نوم في بيت الأب بضاحية ( مصر الجديدة )، بالقاهرة – المحروسة، كما أســميتها – وتهريبه إلى الأم، في واشــنطون. لا أخفي عليك، لقد تخيلت نفســي مكان هذا الأب، فثمة نوع من التشابه بين ظروفنا؛ وأعجبني ربطك بين ( اختطاف وطن )، و ( اختطاف مواطن صغير )، بواسـطة أكبـر قـوة في العالم، تســعى لفرض تصــورها الخاص لمـا يجــب أن تكون عليه أحوال شــعوب الأرض. جميـل أن يكون الناس على وعي بما يجري، وأن ينبهـوا الغافليـن لحقيقة مجريات الأمـور.

أتوقع أن تكون الأيام زوَّدتك بقدرٍ من الحكمة يجعلك لا تتحامل ضدي، لكوني أمريكيــاً، إذ علينا أن ننحي المشاعر التي يزرعهــا السياســيون في قلوب الناس، فالشعوب إما مقــودة أو مغلوبة على أمرهـا؛ ولا يغرَّنــك نموذج شوارزينجار، البشري الأمريكي خارق القوى، فالبشر في أمريكا هم نفس البشر الذين تعايشهم في غيط العنب، وتقابلهم في جليم وشاطئ سيدي بشــر؛ قد يختلفون في بعض التفاصيل، غير أن الجوهر ثابت. ولديَّ أمل كبيــر أن أتلقى منك رداً على هذه الرســالة، وأن نتواصــل عبر البريد الإلكتروني؛ لعل ذلك يروي بعض عطش الحنين الذي بدأت أعانيه منذ أن تخطيت الخامســة والخمســين .. لا أكف عن التفكير في ضــرورة أن أُدفــن في مصـــر؛ مع أنني لم أزر البلد منذ أن غادرتهــا .. بانتظــار ردِّك .. يوسف "..