العملاقة الخضراء

كل الذي اجتمع للاحتفال مساء الخميس في تلك الصالة من جماد وبشر أوحى بالأناقة والفخامة. كانت الصالة مزدحمة لدرجة بدا فيها أن المكان ضائق بحضوره حتى كاد يشتكي، غير أن الشكوى بدت على وجوههم دونه ؛ فاختلاط الأنفاس والدخان والروائح جعل الجو خانقا بعض الشيء؛ إحساس لحظته على غيري، إذ أن تشوقي لبلوغ المرام قد أضعف إحساسي بكل ما دونه. ولولا إشارة "نسيم" إلى أن التكييف عال جدا في هذا الفندق _الذي أرده للمرة الأولى_ لما وجدت تفسيرا للعرق المتصبب من جسمي تحت البزة الثقيلة !
قال نسيم : _أكاد أختنق !
- أنف ذات الرداء الأحمر هو المسؤول .. فقد شفط الهواء كله ! " وقلت معاتبا :" أين الجميلات اللاتي وعدت بوجودهن ؟
- انتظر حتى يغادر الرجال .. فتبرز الوجوه الصبيحة ويزدحم
- ماذا !؟.. يغادر الرجال !.. إلى أين !؟
- لا أعلم ، ولكن لن يبقى منهم إلا الربع . هكذا الأمر دوما .. يأتون في نهاية الحفل لأخذ أهليهم .
- نسيم .. هل جئت بي إلى مناسبة نسائية !
- كلا ، هي ليست كذلك بالتأكيد. وما شأننا نحن بمن يغادر ! .. ربما قصد بعضهم حانات الفندق أو صالات القمار القريبة ..
- وتريد أن ترشح لي ابنة خمار أو أخت مقامر !؟
- أي بلية هذه يا ربي .. اطمئن؛أبواب الصالة قد أغلقت فلن يغادر أحد. كنت واهما.. هذه الحفلة غير التي سبقتها. فقط اهدأ فقد آن لي أن أعرفك بصاحبة الدعوة.
وبعد المجاملات المعروفة :
- أنا أعتذر عن عدم إرسال رقعة الدعوة !..
- لا داع للاعتذار .. شكرا لتقديرك. مررت للتهنئة فقط.
فأصرت على بقائي بعبارات رقيقة مهذبة أوقفت سيلها أخت نسيم متعجبة لمعرفتنا بعضنا دون علم منها .. مما زاد في حرجي وارتباكي، حتى أنهى الموقف صديقي ، غير المدرب على دور الخاطبة، بأن استأذن وذهب بي بعيدا، تاركا مضيفته لأخته تشرح لها ما لا أعلم بإشارة منه .
- هذه المرأة على عكس تقديرك؛ لا تريد في حفلتها غريبا ! لقد علم الجميع أني لست مدعوا !
- ولم لا تقول بأنها أرادت أن تجعل وجودك هنا رسميا ؟.. إن اعتذارها هو دعوة رسمية !
- كان وجودي هنا خطأ من البداية .
فجذبني من يدي، وكنت قريبا من الباب .. وبدلا من الخروج وجدتني أتبعه إلى إحدى زوايا الصالة، نحو فتاة شقراء تجلس وحيدة.. يشمخ رأسها فوق رؤوس جميع الجلوس. ابتسمت في وجه نسيم دون أن تتكلم، فأخبرني أنها من أب عراقي وأم ألمانية، وأنها لا تتكلم العربية. فجعل يراطنها بالإنجليزية ، وأنا مذهول عن حديثهما وعن كل شيء بالرقبة التي جعلتْ الرأس الأشقر وصاحبته جالسة ، في مستوى رأسينا إذ نحن واقفين !
وقفتْ ، فلويت رقبتي مرجعا رأسي إلى الوراء مضيقا ما بين عيني لأرى الوجه الذي أمسى تمييزه صعبا لبعده !.. هشّتْ في وجه فتاة مقبلة إليها ،ومضت للترحيب بها.
يا لها من لحظة خلدتْ في عمر الزمن تلك التي تحركت فيها"زيلدا "_وهذا هو اسمها_! أحسستُ أن الهواء المحيط بنا قد ازدادت سرعته بتلك الحركة حتى سُمع له صفير كالذي يكون للريح عند مرورها بشواهق القمم ! ورفعتْ يدها تزيح بعض خصلات الشعر عن وجهها، فأرسلتها إلى السقف ليعلق بعضها فيه.
- أهي لاعبة سلة معتزلة ؟
ارتبك نسيم ، فمضى بي مبتعدا عن الوجه العالي الذي أحسسته منزعجا في بعده.
- كيف تقول معتزلة !
- ألا تقول أنها لا تتكلم العربية !؟
- لا تتكلمها، لكن تفهمها .. أحبطتَ البنت .. إنها في السادسة عشر فقط !
- في السادسة عشر !؟.. ناطحة السحاب هذه في السادسة عشر !.. بناء بهذا الشموخ يلزمه مائة عام كي يكتمل !
- فلنخرج إلى الحديقة.
وفي الحديقة : _اسمع. تلك رباب ابنة القاضي. حاول أن تكون مهذبا معها..لن أقضي الحفلة كلها مرافقا لك! .. أريد أن أعود فأجدك وقد صرت خاطبا.
تركني إلى بنت كانت تولينا ظهرها مرسلة عليه شعرا كقطعة من الساتان الأسود . التفتت إلي قبل أن أواجهها . تبادلنا التحايا و..
وابتسمت .. ويا ليتها ما فعلت ! أرتني بهذه الابتسامة فما مترامي الأطراف لا يعرف له أول من آخر .. شفتان تصغر على قياسهما مطبقتين الأمتار المربعة ! وسخرت من نفسي حين تذكرت رغبة نسيم في أن أكون خاطبا لصاحبة هذا البئر الذي تفعل حسنا بإغلاقه. ثم فكرت ألا تستطيع ابتلاعي بهذا الفم لو أرادت !؟
ورأيت المغارة تفتح فينسحب رأسي إلى داخلها مع شعور بالانقياد أليم . وحاولت أن أرى شيئا ، فلم أجد غير الظلمة الدهماء تتقطع في خضمها قرقرة تأتي من مكان مجهول .. أريد أن أخرج ! آه ، يداي ستنقذانني ؛ يداي الممسكتان بجانبي البئر الذي انزلق رأسي إلى داخله !
ورأيتها تسأل بفضول : _ ما بك ؟ _ لا شيء ..
وتركتها . قررت أن أغادر هذه الحفلة التي لم تحو سوى متنافسات على دخول كتاب غينس للأرقام القياسية؛ لأوسع فم.. وأكبر أنف.. وأطول قامة..!ومن يدري ماذا سأصادف أيضا إن مكثت!
اعترضني نسيم قبل البوابة بخطوات :
- رأيتك من بعيد تخرج .. إلى أين !؟ _أريد أن أذهب !
- ماذا فعلت مع رباب ؟ _تلك التي كادت تبتلعني !؟
- ألكبر شفتيها ؟.. فاتني أن أخبرك يا مسكين أن هاتين الشفتين لم تبلغا هذا الحجم إلا بنصف مليون !" فغرت فمي دهشة " هيا لنر العروسين يلبسان الخواتم .
أجبته لائما : _ وهل جئت لأرى العروسين والخواتم !؟
- لقد قدم الكثير من الفتيات إلى الحفل في الداخل .. انتظر ساعة أخرى وإن لم يعجبك شيء فلن أمانع مغادرتك.
أغرتني فكرة القادمات الجدد! ودخلنا فرأينا الموسيقى تصدح وحول الكوشة التف جمع من الناس.
- تلك أم عصام وابنتها الرائعة تغريد. لن تستطيع أن تعيب فيها شيئا؛ دقيقة الفم والأنف خضراء العينين ..
اقتربت ، فرأيت جمالا يخلب اللب.
- فقط لو أن شعرها طويل !
- تطيله فيما بعد يا أخي.." ونظر إلي بقلق " ها .. ماذا تقول ؟
- خذني إليها بالله عليك !
وسبقته إلى حيث تجلس هي وأمها مع نفر من المدعوين. وقبل أن نصل إليها ضجت مجموعتها بالضحك لمزحة ألقاها أحدهم. ثم سكتوا جميعا إلا "تغريد" .. كانت تضحك بطرب ومرح ، وقد صاحب ضحكها صوت قبيح ..
- من هذا الحمار الذي يغطي بنهيقه على ضحكة هذه الشحرورة!؟ " نظرت إلى صديقي متسائلا بانزعاج ".
فأجابني بتهكم حذر : _لا أحد الآن يضحك سوى شحرورتك !
- هل تقصد أن هذا صوتها !؟ " هز رأسه أن نعم " ألهذا يسمونها تغريدا !.. ليحرموا النهيق من موصوفته !.. إلي بالباب قبل أن أنسى لصفات هذه أو تلك صفات البشر ..
واندفعت إلى الخارج مهنئا نفسي بالنجاة من التهلكة !
* * * * *
لم يفاجئني نادر في حياته ولم يفرحني مثلما فاجأني وأفرحني بخبر زواجه حين أبلغني أحد الزملاء بأنه _ نادرا _ أرسل بطلب إجازة زواج بيد زميل آخر؛ سلمه إياه في الشارع على عجل.
توجهت عصرا إلى بيته أحمل هديتي مهنئا بالمناسبة السعيدة التي لم يستلزم منه إنجازها غير يومين !.. إذ أنه لم يكن خاطبا حين رأيته قبل موضوع الإجازة بأيام ثلاثة .
فتحت لي الباب امرأة نصف .. أو لأقل عملاقة نصف !.. شيباء هائلة الهيئة، ترتدي قميصا غامق الخضرة لم أتبين إن كان لانعكاس لونه على وجهها دور في اخضراره، أم إن الخضرة الدامغة _ دمغت لي بصري فصيرتني أرى كل شيء في اخضرار.
قلت في سري إن بشائر طلبات " ست الحسن " قد أهلت، ولعل أولها كان إحضار خادمة. ولكن ألم يكن ممكنا تشغيل خادمة بغير سحنة السجانات !
أدخلتني المنزل ممتنة علي، وكأنها تدخلني جنة نعيم بلا عمل أثاب عليه. وتركتني في المدخل وذهبت تزلزل الأرض تحت قدميها.. وبمغادرتها غادرتني الرهبة، فأفقت إلى المدخل الفارغ، وقد بدت مستطيلات الطلاء القديم صارخة لم تتغير تحت الرياش المرفوع. وانتبهت إلى أصوات صغار تتناهى إلي من داخل المنزل، فخمنت أن جماعة من المهنئين قد سبقوني يصطحبون عوائلهم .. من من الزملاء يا ترى !؟..
وأقبل نادر لينتشلني من حيرتي في الجمع المهنئ إلى حيرة أكبر !.. فقد بدا الرجل فاقدا من وزنه أكثر من عشرة كيلو غرامات عن ما رأيته آخر مرة، وحاله لا تفضل عن حال سجين مقرن بالأصفاد أو مقاتل في حمي الوطيس؛ طويل اللحية رث الهندام تلتمع في سوالفه شييبات جدد.
- خيرا ؟.. هل حدث مكروه لا سمح الله !؟ - تفضل .. تفضل..
أدخلني غرفة الجلوس وقد استبدلت بقطع أثاثها قطع أخرى مما يخص الأطفال من عربات وأسرة ينام على أحدها طفل صغير.
- مبروك زواجك ! .. ولكن متى حدث ذلك ؟ - من ثلاثة أيام فقط ..
وأردت أن أسأل عن لغز الصغير وأصوات غيره، غير أن رغبتي في معرفة المخرجة لهذه الدراما السريعة كانت أعظم. - من هي ؟..
جذب حسرة وأجاب : - أظنها هي من فتحت لك.
فاستبعدت ذلك كل البعد. - لا .. لا .. فتحت لي الخادمة.
- الخادمة في السوق !
وسكت مغموما .
اللهم لا شماتة !.. وعلى كل فهو قد حظي أخيرا بامرأة بالألوان التي يحب؛ أرادها بيضاء الوجه خضراء العينين صفراء الشعر ، فجاءته بيضاء الشعر خضراء الوجه صفراء السنين _ لم أميز غير سنين في فكيها _؛ ذات الألوان بتوزيع مختلف! استعذت بالله من وساوسي وأنا أشاهد الدمعة متعلقة بأهدابه.
- كيف حدث ذلك ؟
- كنت في السوق حيث دهس أحدهم بدراجته أحد طفليها، فأسرعت به إلى المستشفى تصحبني هي وطفلها الآخر. وفي المستشفى أفهمتْ كل من كان في ردهة الطوارئ أني أبو الصغير المصاب، على غير علم مني ، إذ كنت بعيدا عنها مع الولد في صالة العمليات ..
- وهل كنت جراحا ليدخلوك صالة العمليات!
- بل تبرعت له بالدم. وهذا جزاء شهامتي !.. نسيم.. لا تتورط في صنع جميل أبدا!
- أنا لا أفهم .. وإن كانت قد ادعت أنك زوجها ، كيف
قاطعني وهو حريص على إفهامي : - لقد أفهمت الجميع أني أسيء معاملتها، وأني غادرتها هي والصغيرين إلى حيث لا تعلم، فتحركت الغيرة في نفوس جمهرة من الموجودين هناك فجاءوا بي والمرأة والطفلين إلى منزلي، وذهبوا مطمئنين بعد أن أغلقوا علينا الباب وراءهم !
- أي دون جوان .. قد شغفت قلوب النساء حتى ألقين عليك القبض في الشارع !
- وهل لهذه علاقة بصنف النساء ؟.. قل السعالي .. الغيلان .. ثم إنها لم تشغف بي حبا. دفعها إلي نقص اليد العاملة !
- وفي أي شيء تعمل ؟
- لديها دار حضانة ، مقرها الحالي هذا المنزل كما ترى !
سألته مع استبعادي الصدق فيما يسرد؛ هو ليس بالكذاب . ربما يكون قد أوقع نفسه بطريقة يخجله تبيانها.
- ولكن كيف استسلمت ؟.. لم لم تطردها !؟
- أطردها !!
اهتزت الأرض تحت أقدامنا فعلمت أن مضيفتي قادمة، فانخلع قلبي لتذكر سحنتها وأرجفه خوفي من أن تكون قد سمعت كلماتنا الأخيرة. غير إنها لم تدخل . ابتعد وقع خطواتها، ودخل بدلا منها طفل في غاية القذارة راح ينظر لي باستغراب ، ثم اندفع راكضا نحو نادر.
- أتراه يظنك حقا أباه ؟
- هذا ليس ابنها .. لدينا من الأطفال دزينة ! " وبمرارة أكبر: " لم يهن عليها جلوسي لدقائق .. " ودخل طفل آخر " ها هي مرسلتهم واحدا إثر واحد .
- وأين مضيت بأثاثك ؟ - قالت : البيت لا يتسع إلا للوازم الحضانة.
- ولمَ الاستمرار في الحضانة وأنت رجل موسر !؟
- تقول إنها لها هواية ! إنها تضطهدني .. تسئ معاملتي .. بل وحتى ..! ولولا ما أشارك الصغار فيه من الطعام لهلكت جوعا ! " تخيلت من فوري نادرا يرفع الرضاعة عن قنينة الإرضاع ويشرب اللبن .. لكن"حتى" هذه هي ما أقلقني فعلا عليه." وقد أتى الله بك اليوم يا نسيم لتنقذني من ورطة أخرى ..
- أي ورطة !؟
- للناس علي مستحقات واجب دفعها، ولي عند جاري هنا دين أريد أن أستوفيه .. وماما غولة هذه لن تسمح بخروجي إلا إن رأتك منتظرا إياي ؛ ما يقطع بعودتي .
قلت وأنا أضحك : - حلوة ماما غولة .. اذهب يا عزيزي حيث تريد، ولكن إياك أن تبطئ علي فأنا آخر من يصلح جليس أطفال !
وانتظرت ربع ساعة في اطمئنان وستة من الصغار حولي يتقافزون. ثم نصف ساعة، بادر الأطفال فيها إلى التقرب إلي بجذب ملابسي وجر شعري وأنا في لهو عن شقاوتهم بتأخر جليسهم الرسمي.. ثُم ساعة أطبق اليأس فيها علي حين قدمت إلي المربية الهائلة ووقفت متخصّرة تقول:
- صديقك لم يعد!!..أنا أستبعد أن تكون متواطئا معه ..!
- ماذا !؟.. أنا أستأذن .
فقطعت علي الطريق بجسم يليق برياضة السومو، وقالت بصوت كقصف الرعود :
- إلى أين !؟.. أنت في ضيافتي حتى يشرف صديقك ! " وأردت أن أتكلم فوجدت لساني معقودا في فمي ".. هيا إلى العمل دون تأخير .. ورائي إلى المطبخ !
وتبعتها كالممغنط أعجب لاندفاعي للامتثال لأوامرها اندفاع من يسعى وراء جائزة! فأعددنا ¬_ أنا وخادمة بلهاء هي كل عديدها من الأيدي العاملة _ طعام العشاء للصغار فقط .. فعشاء الكبار عندها لبن خاثر وقليل من الخبز، ويستبدل باللبن الجبن صباحا للفطور، وحساء للغداء ؛ قانون ثابت، وأي صنديد يفكر في تقويض ثباته !.. ورحت أسري عن نفسي؛ أن نادرا ليس بغادر. سيدخل بيته في أي لحظة ، لأنطلق أنا إلى بيتي.. فأتناول عشائي ، وأنعم ..
- أراك تنظر إلى الباب !.. لا أنصحك بالتفكير بالهروب !
- من يفكر في الهروب !؟.. أنا مستأنس هنا عندكم !
وبعد أن شبع الصغار:- اتركهم ليرتاحوا " ودوتْ انفجارات صغيرة من أمعائهم " لن ننظفهم حتى يكملوا!
وكم هو لطيف منها أن تستخدم صيغة الجمع، فهي لا تمد إلى الصغار يدا، ولا تفعل شيئا أصلا غير توجيه الأوامر. ووطنت نفسي على فكرة الهروب ليلا حين تأوي إلى فراشها.
ولعجبي فإني غرقت في نوم عميق حتى قبل أن يلامس وجهي الوسادة! أدركت باستيقاظي على صوتها المنغم بلحن الهول أنها سقتني منوما مع شايها المقيت. فقمت إلى أشغالي الشاقة برأس ثقيل منتظرا شايا لم يأتني على رداءته حتى طلبته بلساني موجها إيعازي إلى الخادمة التي أجابتني بلا مبالاة؛ أن الشاي مع الإفطار موعده الحادية عشرة؛ أي بعد ثلاث ساعات وأكثر!
وأسلمتني الخادم سطلا وقليلا من الصابون. وأمرتني متقمصة شخصية سيدتها الفذة أن أغسل الأرضية قبل استيقاظ الصغار من نومهم. وأقبلت السيدة مارد البؤس والشقاء المؤنث من المطبخ باتجاه إحدى الغرف منتعلة خفا إسفنجيا يستغيث مصفّرا تحت حمله المهول. فقلت : هي ذي فرصتي. واخترت لإيقاعها بقعة بعيدة عن كل ما يمكن أن ينقذها بالإمساك به.
توسطتْ الباحة فأفضت الماء المصوبن بسخاء انطلق له الخفان المستغيثان في اتجاهين متعاكسين بسطت لهما العملاقة ذراعين كجناحي طائر العنقاء، وأطلقتْ صرخة نكراء أوهمتني أن ساعة النجاة قد دنت؛ غير أن جناح العنقاء كان له من الطول ما أمكنه من التشبث بمقبض الباب البعيد !.. سحبتْ رجلها المسافرة في رحلة الخطر، واستوت كالجبل الأشم يوشك أن يلقي بحمم بركانه الأهوج على رأسي..
- أنا آسف .. آسف جدا !
زأرتْ : - وماذا ينفعني أسفك لو أني تأذيت !؟.. " ثم أهدأ ثورتها بليلُ الانتقام "
لا تأمل في فطور ولا غداء. ووقت العشاء أريد أن أراك وقد تأدبت !
تضاعفت تحصينات قلعة الرعب التي كانت يوما منزلا لصديق تراه الآن شريدا يؤثر التيْه على "كنف زوجه". والمفتاح الذي كان مكانه سرا يشغلني، بات معلقا في الرقبة الخرسانية يتقلب يمينا وشمالا ممعنا في تعذيبي. والخادم المتفانية- التي رجحت في بداية محنتي أن عبوري إلى خارج هذا القبر ليتم من خلالها بشكل ما- أقصت هذه الفكرة بشراسة تناقضت مع البله الذي يغشي وجهها بحاجبين معلقين في أعلى جبهة تتشنج تغضناتها أثناء مخاطبتي وبقواطع تبلغ أسفل الحنك المستدير المنساب نحو رقبة مترهلة كأنه نتوء فيها.
وتنازلتُ عن فكرة الإفلات ظافرا من أسري؛ فتلك خطوة يخطوها بطل منعم بطلاقة الروح وبشيء من العافية. أما أنا المستنزل رحمة السماء والأرض للقمة تقيم أودي، فليس لي إلا أن أسارق من أفواه الصغار طعامهم بحجة ترغيبهم فيه، أو أني أرفع الرضاعة عن القنينة خلسة_ما لم يفعله نادر إلا في خيالي على الأرجح_لأتزود بجرعة لبن !.. وليس لي من أمل إلا أن يتفقّدني صديق محب للخير ودود أستمهله دقائق أدفع فيها للناس مستحقاتهم وأستوفي من جاري القريب ديني !