طائر مفترس جميل

-1-
تبدو قرية الصيادين المطلة على ساحل البحر مفعمة بنور الشمس, ولا تبدو سعيدة بموسم الهجرة. فقد ادعى الرجال الحمية, واعتلوا أمواج البحر للصيد من المياه البعيدة, وافتعلت النسوة الانشغال في أشيائهم المنزلية الصغيرة داخل أكواخهم الفقيرة.
الطفل "سلامة" وحدة لا يدعى انشغاله في فكرة تخصه وحده, لماذا لم تصل الطيور المهاجرة هذا الموسم؟ لم يرى الشحرور ولا النورس ولا حتى السمان الرمادي!.. بل لماذا حطت الطيور المهاجرة في ساحة القرية المجاورة, ولم تعبر سماء قريتهم؟.. فبدا "سلامه" وكأنه قرية وحده.

-2-
وحده "سلامه" يعتلى الصخرة السوداء المرتفعة, والتي تبدو وكأنها على البعد مزروعة في أمواج البحر. بلا مبالاة لأشعة الشمس التي تزداد حرارتها, يبحلق الولد في الأفق البعيد. يتمنى لو تأتيه الطيور المهاجرة وحده, لو يأتيه طائرا واحدا.. لا يهم. لا يصدق كل ما تردد أمامه من كلمات وأحاديث بين العجائز والسيدات. كل ما يشغل الولد أن يظل معلقا بشيء ما في يده, يبدو غامضا, يوما بعد, أسبوعا بعد آخر وحتى نهاية العام وفى موسم هجرة الطيور إلى قريتهم, يبدو وكأنه يحمل أثقال تفوق حجمه ووزنه!

-3-
يعود الولد الجن ويتذكر كيف أنه طوال السنة يجهز لاستقبال أصدقائه الطيور القادمة, بإعداد تلك المصيدة الخاصة جدا. يسعى بين جوانب الكوخ, وبين طرقات القرية كي يجمع الغرق البالية ويخيطها, يصنع حائلا من القماش ويعلقه في فرع شجرة على الجانبين.. يثبتها في رمال الساحل.. ما أن تهل الطيور المجهدة, تصطدم بها وتسقط على الأرض, فيلتقطها, ويلعب معها.. فهو على غير عادة أهل قريته, يتحدى الفقر باللعب مع الطيور, ويرفض أن يأكلها أو يبادلها بالحلوى عند بقال القرية الوحيد.

-4-
فلما طال غياب طائره الجميل, الذي انتظره, على الرغم من وصفه بالمفترس, على لسان أمه وأهل قريته, لم يغضب الصغير, بقى يردد على مسامع أمه التي افتعلت الغفلة:
.. "كان طائري الجمال, يمر من هنا من أمام الكوخ...
هذا صوت نقراته على الطين والخشب وحبيبات الرمل.. هل تسمعين؟"
تشيح أمه وجهها بلا تعقيب, يتابع:
" إذن, أسمعه وحدي.. لا يهم...
وهذه خطواته على سطح الرمال, ومياه البحر..
لقد كانت خطواته على الأرض والبحر, بشرى وبشارة.. هل ترين؟"
تفتعل أمه الانشغال في إعداد بصله كي يأكلها, وتبعد عنه سموم المرض العضال المنتظر. لم تشأ أن يطول صمتها, أرادت أن تشاركه أفكاره, فقالت:
"والله يا ولدى, حزينة أنا, وددت لو لم تكن هكذا مفترسة هذه السنة, كنت أعددت لك منها وجبة شهية, لن تجوع بعدها أبدا"
انتبه سلامه غاضبا:
"طائري الجميل الذي انتظره, كان يحفظ سرى, ولا أريد أن آكله!!"
شعرت الأم بالفشل.. لم تعلق.

-5-
في تلك الليلة لم تغفل عيني "سلامه", أمضى الليل كله خلف فتحة الكوخ المطلة على البحر والسماء. لما غمر نور أشعة الشمس سماء القرية, تحالفت مع الصغير, فكشف له الكنز.. طائرا وحيدا من السمان فوق رمال الساحل, قبالة الكوخ هناك.
اصطدم "سلامه" بأشياء لم ينتبه لها, وهو في طريقه إلى الخارج. تكفل الصوت وحده بإيقاظ الأم, لم تقرر أن تعدو خلفه, وجدت خطواتها القصيرة وجسدها البدين هكذا يعدو.
اقترب "سلامه" من السمانة المنهكة القوى, تلهث مثل البشر وترخى جناحيها إلى جوارها, مثل البشر لحظة الاحتضار أيضا. حثها الصغير أن تنهض, أمرها وصاح, لكنها لم تنتبه له.. انتبهت القرية كلها, خرجوا إليها وفى أكفهم الشيطانية عصى وسكاكين.
عبر عن غضبه لأمه:
"ها هي ذي السمانة المسكينة الوحيدة.. تقولين مفترسة, بينما لا تقدر على التنفس؟؟!"
فاحتضنته, ضمته بشدة إلى صدرها:
"هل تريد أن تموت؟ وأن أموت؟ وكل القرية تموت؟"
"لا...لا يا أمي!!"
أكد على نفيه, لكنه ما زال لا يعرف, كيف يستطيع هذا الطائر الصغير, الجميل حتى في ضعفه.. أن يكون هكذا قاتلا؟

-6-
انشغل الولد مع أمه عند الساحل قبالة مياه البحر تماما, ظلت لساعة من الزمن تقنعه أن القادم هو القاتل الذي يخشاه سكان القرية كلهم.
فلما شم رائحة غريبة, لكنه يعرفها, إنها رائحة احتراق الأشياء!!, تركها في اتجاه الطائر الجميل, لم يجده, وجد رمادا وبقايا لهيب يخمد, وقليل من الريش لم يحترق, أنقذته نسمة هواء هينة. لكنها كشف لسلامه عن الحقيقة التي أدهشته.
احتضنته أمه, ضمت رأسه على بطنها اللينة الطلية, ومسحت دمعات ساخنة من فوق وجهه, وان لم تسمعه يبكى.. وفجأة: انسل منها, أسرع نحو الصخرة السوداء هناك.. يعدو ويصرخ:
"ما زلت جميلا.. ما زلت في انتظارك؟؟".