أمر محير


"نساؤكم براميل قبيحة." تقول بصوتها الرخيم وهي تفتح باب الـ "أوبر" المتوقفة توا في شارع المنوفي من ناحيته الأقرب لشارع شبرا.

لا تغلق باب السيارة خلفها، لعلها تتوقع خروج ناجح من نفس الجانب طبقا لقواعد المرور، إلا أنه يتلكأ داخل السيارة، يشعر بغثيان خفيف، يلوم رجرجات الرحلة من المطار في سيل مروري عدواني مرتبك، دقائق معدودات بعد التوقف ويستجمع تركيزه، رهبة التقاط الخيوط بعد عشر سنوات من الإنقطاع لا يستهان بها، فالرجل الذي يعود لزيارة أسرته اليوم ليس هو من خرج بالأمس لاستكمال تعليمه في أوروبا.

موقعه على الكنبة الخلفية لا يمكِّنه من رؤية رأس <لوسي تو> رغم ضآلة قامتها، يفهم من التفاف جذعها يمينا ويسارا وانحنائه للأمام والخلف أنها منشغلة بالتقاط التفاصيل، ليس صعبا عليه استنتاج ملامح المشهد الذي تستكشفه: السيارات جريحة الطلاء المعتلية الرصيف المتآكل، تداخل إيقاعات دقدقة صنايعي غير مرئي مع أغنية لأم كلثوم، تزاوج عادم السيارات بعبق الزبالة المعتَّقة، سيل من الداتا يوَصِّف البيئة المحيطة دون أن يقدم لها تفسيرا، مشهد لا يشجعه هو على التفاؤل لولا أن المصريين لا يزالون على الأقل يسمعون أم كلثوم.

البناية التي شهدت مولده تبدو باهتة خلف بياض سترة رفيقته الناصع، حوائطها الحاملة المبنية من الحجر الجيري يتفاوت لونها بين البُنيات والرماديات، فجاجة عبارتها الأخيرة تذكره بالصعوبات المتربصة بإقامتهما مع أسرته لأسبوع كامل، فهي ببساطة لم تتعلم بعد الكذب أو المجاملة، مخاطرة لم يكن سيتحملها لو لم تنبئ بإعطائه دفعة يتخطى بها منافسيه من الباحثين، يستجمع قواه ويسحب المقبض، يجر الحقيبتين على الأسفلت خلف السيارة ويترك مهمة إغلاق الباب الآخر للسائق.

"ارتفاع الدرجات غير منتظم... فضلا عن تآكلها،" ينبه <لوسي تو> بصوت هامس بعد أن دلف خلفها إلى بير السلم المترب الرطب.

"أنا مطلعة على قوانين الإيجارات... ونتائجها معروفة على المدى البعيد." تهز شعر باروكتها البرتقالي الواصل لمستوى الكتفين في ثقة.

أمه ونيرفانا متلهفتان على البسطة الثانية، وجه أمه يكاد ينفجر مما اختزن من حنو ضاعفته لوعة الفراق، رغرغة عينيها أكثر بلاغة من الكلمات، تضمه إليها بقوة لم يتخيل أنها لا تزال تمتلكها، نيرفانا تحتضنه من الخلف، بعد فترة ممتدة تدفعه أمه بعيدا، تتأمل وجهه كإنما تقارن واقعه بصورة ذهنية احتفظت بها، ثم تلتفت إلى <لوسي تو>.

"اتجوزت يا ناجح؟" صوتها به حشرجة لم يعهدها.

"لا أبدا يا ماما... ركزي بس شوية في وشها..."

تلتف نيرفانا من الناحية الأخرى حتى تقترب من وجه <لوسي تو> الوردي الصافي كطفل رضيع.

"أهلا بالسيدة أم ناجح... أهلا نيرفانا... كنت أتطلع للتعرف عليكما من فترة. اسمي <لوسي تو>."

تتراجع الأم وابنتها خطوة للوراء في اتجاه باب الشقة المفتوح دون أن ترفع أيهما عينيها عن ضيفتهما غير المنتظرة، ينتهز ناجح فرصة انشغالهما ليتأملهما بدوره.

ترتدي الأم جلبابا رماديا فضفاضا ومن فوقه استبدلت طرحتها السابقة بإسدال مصمم لاخفاء الرقبة من تحت الذقن مباشرة، أخته تلتزم – نظريا – بنهج أمها، بيد أن بلوزتها الوردية الواسعة تصل إلى منتصف فخذ بنطلونها الجينز الضيق، والأيشارب الأحمر الزاعق يكشف خصل صفراء مصبوغة من شعرها، جسداهما مرحلتان مختلفتان للإنفجار البيولوجي الأنثوي، المقارنة البصرية مع هيئة <لوسي تو> ذات السيمترية الصناعية – والتي لا تتعدى حجم طفلة في العاشرة – تبرز تضاريسهما ربما بشكل مبالغ فيه، مما يعيد إلى ذهنه وصف "براميل قبيحة" جارحا دقيقا، وكانت نيرفانا وقت أن تركها مراهقة خفيفة الظل والوزن، تكالبت الهموم والزي – الذي يصفه الغرب بالإسلامي – على نساء مصر المكافحات، فانتصرن في معركة المشاركة الحياتية مقابل التنازل عن رشاقة أسلافهن وأناقتهن.

"وجاتلك الجرأة تجيبها لحد عندي ... فاكرني ما اعرفش العرايس دي بيعملوا بيها إيه...؟"

توقع نادر اندهاشا من جانب أمه لكن هذا الرد الغاضب يصعب تفسيره، بعد لحظة يستوعب قصدها فلا يستطيع احتواء قهقهاته.

"لست دمية جنسية يا سيدتي ... يمكن أن تعتبريني إنسانا آليا... أكثر نموذج للذكاء الاصطناعي تقدما على وجه الأرض." رد <لوسي تو> به شبهة تباهي.

لا يدري ناجح إن كانت ظنون أمه وتلميحاتها أشعرتها بالإهانة، فقدراتها الذهنية لا تزال في مرحلة التطور ولا أحد يستطيع أن يتنبأ إلى أين يأخذها التباس الأفكار والمشاعر، تجربة تفاعلها بالبيئة المصرية بما تحويه من تعقيدات سوف تكشف الكثير، وهذا سيمنحه هو ميزة نسبية مقارنة بباقي العلماء في مجاله، يتأهب لرد فعل أمه.

تبتسم السيدة البدينة فجأة، ارتاحت لكلام <لوسي تو> أو على الأقل لنبرتها الواثقة المتزنة.

"اتفضلي يا حبيبتي نورتِ ... خطوة عزيزة."

بعد أن دلفت <لوسي تو> من الضلفة المفتوحة للباب الطويل ذي الشراعتين الزجاجيتين تلتفت الأم لناجح وهو لا يزال على البسطة يتأبط أخته التي أخذت تمطره بالقبلات.

"برضه مش حتنام في أودتك."
 

***



سارعت نيرفانا للداخل تاركة أمها تلح على <لوسي تو> بالجلوس إلى جوارها على الكنبة، لكن الأخيرة ظلت ماكثة على قدميها في منتصف الصالة بين حيزي المعيشة والسفرة دون أن تقدم عذرا مناسبا، يضطر ناجح للتدخَّل فيهمس في أذن السيدة الكبيرة بأن هذا هو الوضع الأنسب لها، ثم – وحتى لا يضطر للخوض في الجوانب الفنية لمفاصل <لوسي تو> وتوازن هيكلها – يتجه للحقيبة الأكبر التي أتى بها فيرفعها فوق طاولة السفرة القريبة من باب الدخول.

"حبة حاجات من أوروبا... يا رب تعجبكم." يقول وهو يرفع نسخة من الأهرام كانت ملقاة على الطاولة، يمر بعينيه على المانشيت فيدرك أن أخبارها مر عليها عدة أيام فيعيدها حيثما وجدها.

تعود نيرفانا حاملة صينية بها أكواب شاي توسطنها فوق رخامة الطاولة المستطيلة أمام الكنبة ذات الخشب المذهب، تراقب لوهلة أمها وهي تفحص محتويات الحقيبة وتفرزها ثم تقسِّمها إلى أكوام ترصها حولها، تناول الفتاة ناجح كوبه ثم تعود إلى داخل الشقة، يلاحظ أن لون الشاي الخاص به يختلف عن الأكواب الأخرى، عفريتة... تذكرت تفضيله للشاي الخفيف، بعد عودتها بوعاء بلاستك أزرق مليء بالغسيل يدرك أن زنَّ الغسالة الكهربائية كان قد توقف منذ قليل.

"مش حتحكيلنا عن أوروبا وكده؟" تحدثه نيرفانا وهي تشبك الغسيل في منشر الشرفة المطلة على الشارع، الشرفة ضيقة لدرجة أن مؤخرة أخته تبرز من الباب كلما انحنت للأمام.

"خليكِ انت في الغسيل... وبعدين تخشي على طول." تتدخل الأم بحدة.

بعد لحظة صمت تحاول السيدة أن تتدارك الموقف:

"خدي يا نوني يا حبيبتي جربي دول."

غير أن التصنع المفاجئ في لهجتها يستلفت انتباه ناجح أكثر من شراسة عبارتها الأصلية.

تدخل نيرفانا من الشرفة وفي يدها الطشت البلاستيك الفارغ، بحركة مسرحية تسحب كومة الملابس الجديدة التي أشارت إليها أمها وتملأ بها الطشت الذي تسند شفته على ردفها الأيسر وتمسك طرفه المقابل بيدها، ثم تتجه لحيز الجلوس لتلتقط كوب شاي من على الصينية بيدها الحرة وتتجه للداخل، تتوقف قبل أن تصل إلى بداية الطرقة وتلتفت لـ <لوسي تو>.

"حتيجي يا لوسي تقولي لي رأيك وكده؟"
 

***



"أنا كنت عاملة لك شاي على فكرة... أوعي تفتكريني قليلة الذوق أو حاجة زي كده." تقول نيرفانا بعد أن أغلقت باب الغرفة عليهما.

"أشكرك على كرمك لكنني لا أتناول الطعام أو الشراب."

كانت <لوسي تو> قد أحصت عدد الأكواب واستنتجت بالفعل أن الفتاة أعدت لها كوبا من الشاي مما حيرها قليلا، مصمموها برمجوا لديها قدرة بدائية على توليد المشاعر، لكن فهم العلم لمسألة المشاعر برمتها لا يزال قاصرا، فتركوها لتستكشف الأمر بإدراكها الذاتي، أمر محيِّر، خاصة عندما تواجه تصرف يعبر عن كرم أخلاقي غير مصطنع، الفتاة تدرك أنها تتعامل مع إنسان آلي لكن بتلقائية تامة أرادت إشعار <لوسي تو> بإنها ليست غريبة أو مهملة، مدت يدها إليها بصداقة غير مشروطة لا تنتظر مقابلا.

"نيرفانا... كم جميل اسمك... ماذا يعني؟"

لدى <لوسي تو> دراية شاملة بخلفيات الاسم، لكنها أرادت أن تتعرف على منهج تفكير الفتاة بشكل أوثق، وتنقب في الوقت ذاته عن عناصر مشتركة تربطهما.

كانت نيرفانا قد فرشت الملابس على السرير، وبدأت تتأملها بينما أصابعها تداعب ذقنها القمحي المستدير.

"معناه غير شاعري... شغل كُفار وكده... من حسن الحظ ما حدش فاهم حاجة... بابا الله يرحمه كانت عاجباه رنته الموسيقية... اسم روش وكده." ترد الفتاة في شرود، لا يزال تركيزها منصب على الملابس ذات الألوان الداكنة في معظمها.

تأخذ رشفة من شايها ثم تخلع جلبابها وتقف بملابسها الداخلية مظهرة تضاريس جسدها المترهلة، لا تبالي باحتمال أن يراها الجيران على هذا الوضع من خلال الشباك المفتوح على مصراعيه، تسحب سروالا أسود لامع من على السرير، تدرك <لوسي تو> أنه مصنوع من مادة قابلة للمط لكن مع هذا يبدو أصغر كثيرا من أن يحتوي الجزء السفلي لنيرفانا، واضح أن ناجح أخطأ في تقدير مقاس أخته.

"لوسي وعرفناها... طيب إيه حكاية <تو> دي... هو انت أصولك اسيوية؟" تتلكأ قبل قياس السروال، لعلها تستسيغ أملها الكاذب في أن المقاس سيكون مناسبا لها.

"تو يعني اتنين... يعني لوسي الثانية."

"وتطلع مين لوسي الأولى... الفنانة بتاعتنا؟" تبتسم ثم تأخذ رشفة متمهلة من الشاي.

تحمِّل <لوسي تو> في ثوان تسجيلات من مسلسلات ورقصات للفنانة لوسي من النِت، تشارك نيرفانا الضحك وهي تشعر بفخر مضاعف لأنها نجحت في استيعاب دعابة الفتاة.

"لا أقصد لوسي الفنانة المصرية... أو حتى لوسي الممثلة الأمريكية... إنما أول لوسي في التاريخ... تعرفينها...؟ الهومينيد... الإنسان البدائي..."

لا يبدو على ملامح نيرفانا الساكنة أي معرفة بلوسي الهومينيد أو لوسي الممثلة الأمريكية أو حتى فضولا لخوض الموضوع برمته، لكن رغم هذا تقرر <لوسي تو> أن تشرح لها المنطق وراء تسميتها حتى تغلق الموضوع نهائيا، ولعلها أيضا تقدم للفتاة معلومة تفيدها في المستقبل.

"لوسي الأصلية أنثى عاشت في شرق إفريقيا قبل أكثر من ثلاثة ملايين سنة، اتضح من دراسة هيكلها العظمي أنها كانت تسير على قدمين كالبشر وليس على أربعة كالقردة، لكنها لم تكن بشرا... هي مرحلة في سلسلة التطور التي وصلت بالبشر إلى وضعهم الحالي..."

"طيب واحدة إنسان آلي محترم زي حضرتك... مالها وما للكلام بتاع الجدع الكافر الرخم إللي اسمه داروين؟" لأول مرة تبدي نيرفانا استيعابا للحديث.

"التطور عملية مستمرة يا نيرفانا لا يمكن أن تتوقف طالما ظلت هناك كائنات حية... لكن هناك بعدا تعاظم في السنوات الأخيرة... قدرة الإنسان على التأثير على مسيرة التطور، ليس فقط بالإسراع بوتيرتها لكن أيضا بتغيير مسارها، وهو السبب في رغبة الفريق الذي صممني أن ينسبني إلى لوسي الأولى... يتوقعون أن أصبح حلقة وصل جديدة بين البشر الحاليين، وإنسان المستقبل... يدركون أن التحول قادم لا محال لكن لا يعرفون كيف ومتى."

تجلس نيرفانا على السرير وتدخل قدميها وبصعوبة أكبر ساقيها في السروال حتى الركبتين، ثم تنهض وتحاول أن ترفع السروال لحشر ساقيها وردفيها داخله ثم تنطلق في قفزات صغيرة متتالية وهي تسحب السروال لأعلى.

"يعني احنا كلنا حنبقى زيك في المستقبل...؟" تتوقف نيرفانا كي تلتقط نفسها دون أن تكون نجحت في ارتداء السروال بشكل كامل.

"ليس بالضبط... لكن من الممكن أن نتصور أن تظهر كائنات تجمع ما بين الذكاء الطبيعي والاصطناعي."

تقف نيرفانا أمام المرآة وقد نجحت في أن تحشر نفسها في السروال والذي التصق ببدنها لدرجة إظهار نتوئها وتجاويفها بشكل مجسم، تؤثر <لوسي تو> عدم التعليق.

"لو اتخلطنا على بعض على الأقل مقاسنا في الهدوم حيتعدل." قسمات وجهها تتطابق مع نمط الابتسامة الجذابة الموجود في برنامج التعرف على الأوجه.

"هاها... دعابة... هاها..." تشعر<لوسي تو> بزهو مضاعف لقدرتها المتنامية على تمييز الدعابة البشرية.

لا تخلع الفتاة السروال رغم عدم مناسبته لجسدها، تسير بصعوبة بالغة للكومودينو المجاور للسرير وتتأوه وهي تنحني لفتحه وإخراج كيس نيلون من داخله، تهم بالجلوس على السرير لكن تعدل عن ذلك وتظل على قدميها بينما تسحب من الكيس ثلاثة أصابع صغيرة من الموز تلتهمهم واحدا تلو الآخر ثم تعيد القشر للكيس الفارغ، وبعد أن تأخذ رشفة طويلة من الشاي تتجه بذات المشقة للشباك، وقبل أن تصله تلقي بالكيس إلى الخارج، ثم تعود لموقعها السابق أمام المرآة.

" لاحظت اهتمامكم بنظافة شقتكم دون سلم العمارة ومدخلها... ثم ألم تفكري أن إلقاء القمامة في الشارع سيعود بالضرر عليك ... في شكل تكاثر الذباب والبعوض مثلا؟"

"خليهم يقرَّصوني لما كل ناحية تبقى زي كرة الباسكِت." تضحك وهي تستدير قليلا حتى تستطيع مشاهدة نفسها في المرآة بالبروفيل، ربما تتخيل صورتها عندما تنتفخ مؤخرتها للحجم الذي وصفته، ثم تلتفت لـ<لوسي تو> فجأة:

"هو تحت البنطلون عندك ... بس إوعي تفتكريني نوزي أو حاجة زي كده... كل شيء أبديتيد يعني؟"

تتحدث الفتاة بنبرة يشير برنامج تحليل الأصوات البشرية إلى أنها تحمل اتهاما ما، لا تفهم <لوسي تو> لها تبريرا، تبحث في قاعدة بياناتها عن تفسير أو ترجمة لكلام نيرفانا لكن دون جدوى، لكن بتفقد مئات الآلاف من صفحات الحوار على الفيسبوك يتبين لها أن كلمتي "نوزي" و"أبديتيد" لا ينتميان للعربية وإنما الإنجليزية، فيظهر لها ما تقصده الفتاة البدينة.

"كنت أظن أن ثقافتكم تتعامل مع مثل هذه الموضوعات بقدر من الحساسية." منطق البشر محيِّر أحيانا، محيِّر ومربك.

"ما احنا بنات مع بعضنا وكده." تضحك الفتاة وهي تخلع السروال أخيرا، يترك خربشات طولية وبقعا حمراء على جلدها الخمري المتموج أصلا.

لا تريد <لوسي تو> أن تعترف بأنها مجرد دمية ذكية بلا أدوات أو رغبات جنسية بالمرَّة، فقد بدأت تتأقلم على وضع الأنثى الافتراضية بل تألفه، تركها مصمموها دون أن يحددوا لها هوية بعينها، صنعوا لها القدرة الكامنة على التعلم والشعور بالذات ثم ألقوها في محيط الحياة بلا بوصلة.

نيرفانا تنشغل سريعا بقياس باقي الملابس، البلوزة المقلمة أسود في فوشيا، السروال ذو الورود البنفسجية الكبيرة على خلفية رمادية داكنة، الجاكيت ذات المربعات الزيتي في بني... تجرب كل الهدوم المفرودة على السرير الواحدة تلو الأخرى والنتيجة واحدة، أخيرا تجلس على السرير في فستان كحلي بعد أن عجزت عن رفع سستته الخلفية وتتجه يدها تلقائيا لضلفة الكومودينو فتخرج صينية كرتونية بها حلويات شرقية.

تبدأ في التهام محتوياتها بشكل ممنهج.

بعد أن أجهزت عليها تنهض للشباك، ثم تستدير لتواجه <لوسي تو>.

"قولي لي يا لوسي... هو أنت عندك ليزر وأسلحة وكده؟"

"لست مؤهلة للقتال أو الإيذاء... وإن كان المصممون ضمنوا برنامجي خاصية حب البقاء."

"حب بقاء مين يا شيخة، ده أنا لو قعدت عليكي أبططك." تستدير نيرفانا لتلقي الكرتونة الفارغة اللزجة من الشباك، لكن قبل أن تتركها من قبضتها تستدير وتتفحص <لوسي تو> بنظرة يشير البرنامج إلى أنها تعبر عن التحدي.

"ما دمنا بنات مع بعضنا ... هل يثير إيذاء النفس رغباتك الجنسية؟" تسألها <لوسي تو> بموضوعية تامة.

ثم يرن جرس الباب.
 

***



"كلمت سعيد علشان يجي يسلم عليك." تتحدث بعد صمت.

"كلك حكمة يا ماما... أنا فعلا نفسي أشوفه." كان استنتج أن سعيد على حضور لأنها عند نقل الهدايا لغرفتها تركت خرطوشتي مارلبورو على طاولة السفرة.

"ما أنت ما لكش غير صاحب واحد... ومقصوفة الرقبة ما كانش لها غير صاحبة واحدة." تشير السيدة إلى أعلى فيفهم ناجح إنها تقصد سمية صديقة نيرفانا منذ الطفولة وجارتهم في الدور الأعلى، ثم تغير الموضوع قبل أن يستوضح قصدها:

"كتر خيرك يا ابني... لولا الفلوس اللي بتبعتها كنا لـُصنا... البت أختك من وقت ما خدت الشهادة يوم تشتغل وعشرة في البيت... هي بليدة وهما متحرشين." أمه المهمومة دوما تبدو اليوم أكثر حزنا من أي وقت مضى.

"لو المشروع ده مشي... حقدر أبعت أكتر... عارف الأسعار عاملة إزاي."

"إللي بتبعته بيقضي ويفيض... ما تنساش إن اليورو بيزيد مع الأسعار... بس يا ابني الفلوس مش كل حاجة... المسئولية تقيلة."

يخطر له أن أمه أصغر سنا مما تبدو – فهي في بداية الستينات – إنما أعياها الهم المتراكم بلا أمل في أن يتبدد أو حتى يخف.

"كل أرملة بتجري على أطفال بطلة... بس انت يا أمي ست الأبطال... ما فكرتيش في نفسك لحظة واحدة." يقوم من كرسيه ويجلس بجوارها على الكنبة ثم يقبلها على رأسها ويضمها إليه، تتعلق به بقوة، يعرف من رجفاتها إنها تكتم البكاء.

يقتحم خلوتهما اللحظية فحيح طسة مياه تتخلل الغسيل المنشور، يليه قرقعة طرطشتها على الأسفلت، تنتفض أمه ناهضة.

"ليه بس يا بنتي كده...؟ ما قلنا المسامح كريم." تصيح الأم من الشرفة.

يلحق بها ناجح لكن لا يعرف لمن من الجيران في الأدوار الأعلى توجه كلامها، يصدمه مشهد الغسيل وقد انتشرت عليه بقع بنية كبيرة، كان على وشك أن يسب الجيران لإهمالهم ثم استوقفته عبارة أمه.

للمرة الثانية لا تمهله فرصة للاستيضاح، بين رنات المشابك البلاستيكية المتساقطة على بلاط الشرفة تسحب الغسيل بعصبية من على الأسلاك، ثم تدخل محتضنة كومة الملابس الندية لتلقيها على أرضية الصالة فتتخذ شكل بركان خامل مؤقتا وسط المنزل.

تتأمل الغسيل متنوع الألوان بين الأبيض والفواتح والغوامق ويداها في وسطها، تشكل خطوط جبهتها وعروق رقبتها والتجاعيد المحيطة بفمها لوحة كنتورية فارت من لحمها الحي في لمح البصر، اسكتمالا لسلسلة الأحداث التي سبقت في تلاحقها قدرة ناجح على الإستيعاب – تترك أمه نفسها للجاذبية الأرضية فتهبط على ركبتيها فوق الملابس المبقعة، ثم تتموضع ببطء حتى تجلس متربعة على البلاط العتيق أمامها.

لا يدري ناجح ما بوسعه أن يقول أو يفعل ليعالج أزمة لم يستوعب سببا لها، تتضاعف حيرته عندما ترفع أمه سروال ستريتش أبيض مبقع من الكوم وتعض حرفه بأسنانها بينما يداها تحاولان تمزيقه بكل ما أوتيت من قوة، تتوقف بعد عدة محاولات فاشلة وتجهش بالبكاء، تغطي بالسروال وجهها.

"ما لقيتيش غير جوز صاحبتك يا فاجرة." يخيل إليه أن أمه في حشرجة البكاء تهمس، لكنه غير متيقن أن هذا بالفعل ما سمعه، وحتى لو صح فهو لن يستطيع أن يصدق أذنيه.

ثم يرن جرس الباب بإلحاح صديق يتطلع للقاء صديقه بعد طول غيبة.
 

***



"باين عليك جبت الدوا..." يشير سعيد للسجائر.

"دي يا سيدي للسكر... ودي للضغط." يضع ناجح الخرطوشتين أمام صديقه على التوالي.

"هاها... دعابة... هاها..."

تقف <لوسي تو> في موقعها المفضل عند مركز تناظر الصالة بجوار كوم من الثياب المغسولة المنكوشة لا تجد تفسيرا لإلقائها هكذا على البلاط، الرجلان يجلسان حول طاولة السفرة، السيدة أم ناجح عادت لغرفتها، رصدت <لوسي تو> انفعالها الشديد عند دخول سعيد، لعلها ابتهجت لرؤيته، لكن بعد الترحيب الحار به انسحبت واختفت بالداخل.

"أمال ده الدوا بتاع إيه؟" تظهر نيرفانا حاملة صينيتها، تخلص <لوسي تو> إلى أنها كانت تتابع حديث الرجلين من المطبخ.

تضع كوبا من القهوة التركي أمام سعيد، وكوب آخر من الشاي الخفيف أمام أخيها، لا يبقى على الصينية سوى كوب واحد، لم تعمل نيرفانا حسابها هذه المرة.

"والله مكشوف عنك الحجاب يا شيخة نوني... ده بقى علشان دوالي المريء... الإضافة الأخيرة للمجموعة." يرد سعيد وهو يشعل سيجارة كيلوباترا بأنامل مصفرَّة.

تتفحص <لوسي تو> عينيه الداميتين وبشرته الكالحة، شكله العام لا يشير إلى تمتعه بصحة جيدة رغم أن سنه في حدود الأربعين لكونه صديق ناجح منذ الطفولة.

"دكتور سعيد، هل أنت فعلا مصاب بالأمراض التي ذكرتها؟" تضطر أن تسأله لمعايرة الـ <ألجوريتم> الخاص بالفكاهة.

يلتفت سعيد إليها وهو ينفث الدخان من فمه وأنفه، السيجارة ترتجف بين اصبعيه، تقاسيم وجهه دقيقة على عكس ناجح، عيناه واسعتان تحت نظارته الطبية المستطيلة، تستنتج <لوسي تو> أن سعيد كان في الأغلب هو الأكثر وسامة في شبابهما.

"شكرا يا لوسي على اهتمامك، أنا فعلا مصاب بالأمراض التي ذكرتها... فهل تشعرين بالتعاطف معي؟" ترصد <لوسي تو> أن نبرة صوت سعيد – بل أسلوبه في الحديث – يتغيران عندما يتعامل معها، علامات الجدية تظهر عليه فجأة.

المشاعر لا تزال تحيرها، العملية الإدراكية ذاتها في مرحلة التكوين الأولى وإن كانت تتطور بسرعة، حتى الآن لا تستطيع أن تعَرِّف مشاعرها بأي دقة.

"الأمر المحيِّر هو أن كلا من ناجح ونيرفانا رغم حبهما إياك وإدراكهما بأن عاداتك مدمرة لك... يسايرانك فيها وأحيانا يشجعانك عليها... هذا طبعا بخلاف تماديك أنت في الإضرار المتعمد بصحتك." تتجنب <لوسي تو> الرد على سؤاله حول مشاعرها.

"ما قلنا خليكي إنسان آلي محترم...ما تنسيش إني لو قعدت عليكي حبططك." لا تستطيع <لوسي تو> التمييز إن كان كلام نيرفانا على سبيل التهديد أم الدعابة.

"طيب ممكن تفسري لي الخبر ده؟" يرفع سعيد صحيفة الأهرام أمامها مشيرا باصبعه للخبر الذي يهمه، للسرعة تنزل النسخة الإلكترونية من النت، الخبر – الذي ورد منذ ثلاثة أيام – يتناول توجيه أمريكا ضربة صاروخية لمطار سوري ردا على هجوم النظام على مدنيين سوريين بالأسلحة الكيماوية، تخلص إلى أن سعيد يختبر قدراتها، لا بأس فقد اعتادت ذلك.

"من الجدير بالملاحظة يا لوسي تو... إن المنحة إللي سافرت عليها كانت أصلا لسعيد." يتدخل ناجح شارحا، ثم يلتفت لصديقه:

"البقية في حياتك في الوالدة العزيزة... تأثرت جدا لما جاني الخبر... كنت لازم آخد العزا جنبك."

"الله يرحمها ما كانش ليها غيري في الدنيا..." يقول سعيد ثم يستطرد بصوت خفيض:

"وسابتني من غير ونس... إلا الأشباح طبعا."

بعد صمت ممتد تقرر <لوسي تو> مناسبة الرد على السؤال الذي طرح عليها:

"اطلعت على أكثر من مليون تعليق من كافة أنحاء العالم حول سوريا، وكل طرف يتهم الآخرين بارتكاب أبشع الجرائم... الشيء الأكيد أن الصراع مركب وأن الأطراف المتصارعة لا تعبأ بأرواح البشر بل تسعى إلى توظيف معاناتهم لتحقيق مكسب سياسي أو إعلامي ما، ردا على سؤالك دكتور سعيد: ليس لدي تفسير لهذا الخبر... الأمر بالنسبة لي محيِّر."

"فاكر لما كنا بنتكلم أنا وانت عن الذكاء الصناعي... كان حد فينا يتصور إن ممكن في يوم من الأيام يدور الحديث ده مع <لوسي تو>؟" يوجه ناجح كلامه لصديقه.

" انا لغاية دلوقت بتعامل معاها على إنها شخصية هربت من فيلم للخيال العلمي..." يرد سعيد ضاحكا.

"وأنا بقى معايا عرض... أنا وانت و<لوسي تو> نحول الخيال العلمي لواقع ملموس... وعندي موافقة من مجلس الإدارة... تعاون مشترك مع معهد الأبحاث إللي انت فيه... وطبعا الشرط إنك انت تقود الفريق المصري... إيه رأيك بقى يا عبقرينو زمانك؟"

يوقد سعيد سيجارة جديدة من شعلة سيجارته التي أوشكت على التلاشي، يبدو كأنه سيرد ثم يتراجع عن الكلام، أخيرا يطلق ضحكة ممتدة.

"متردد ليه؟... دي فرصة العمر..." يلح ناجح.

"أبحاث إيه ومركز مين يا دكتور... مش معنى إن اسمه مركز أبحاث انه فعلا بيعمل أبحاث... ده مجرد اسم... زي ما أنا اسمي سعيد... هل ده يعني إني سعيد فعلا...؟"

"كان أملي لما الناس في مصر تشوف العالم بيفكر في إيه ورايح على فين... وإحنا بنفكر فيه إيه ورايحين على فين... كان حلمي تتولد عندنا إرادة للتغيير..."

"بقول لك اسم... مجرد يافطة."

"كان أملي فيك إنت بالذات يا سعيد... إن ما كانش يهمك تنقذ نفسك... إديني فرصة أردلك ولو واحد على مليون من إللي عملته."

"أنا كمان بقيت مجرد يافطة...وبعدين أنا اتنازلت عن المنحة لظروفي الخاصة مش أكتر." يهمس ثم يستديرلنيرفانا: "فين قهوتك الحلوة يا نوني... الحقيني أحسن أخوكي لطشني بلحظة أمل فطير حبة الكافيين من نافوخي."

تتجمد نيرفانا المتجهة للمطبخ أمام أمها المهرولة إلى الصالة.

"شفتم إللي حصل؟" علامات الاضطراب بادية عليها. "فجروا كنيسة في طنطا."

"أهي دي آخرة المحاكمات البطيئة... " يصيح سعيد.

"يؤسفني أن أبلغكم أن تفجيرا ثانيا وقع منذ دقائق..." تقول <لوسي تو> بعد الاطلاع على وكالات الأنباء والفيسبوك والتويتر. "في كنيسة بالإسكندرية."

"مش قادرة أفهم إزاي إنسان يجيله قلب يعمل حاجة كدة." الأم تضم كفيها على رأسها.

تدرك <لوسي تو> أنه لا يوجد تفسير يمكن أن يرضي السيدة، فهي تفترض وجود دافع عقلاني لسلوك البشر، وهي فرضية غير مثبتة، بل أن كافة الدلائل تشير إلى عدم صحتها أصلا، ما يعتبرونه ذكاء عبارة عن مجموعة من الغرائز تطورت عبر مئات الآلاف من السنين بشكل يمكِّنهم من السيطرة على بيئتهم المحيطة، وعيهم الذاتي ملبد بالأوهام، محاصر بالضلالات الجمعية والفردية، دونها يكون الإدراك الذاتي أمرا لا يطاق... يدعو للجنون أو الانتحار، لكن <لوسي تو> لا تجد فائدة من الرد على السيدة أم ناجح... أو إحاطة الآخرين بهذه الاستخلاصات – على الأقل في الوقت الراهن.

"كل الإسلاميين لازم يتلموا ويعدموا فورا؟" يصيح سعيد مجددا لكن بصوت أعلى.

"لكن دولة القانون أفضل ضمانة لـ..." رنة هاتفه المحمول تقاطع ناجح قبل أن يستكمل عبارته.

بين عبارات متقطعة بالألمانية تتابع <لوسي تو> علامات الدهشة على وجهه وهي تتحول إلى غضب.

"هو إيه إللي بيحصل؟" تتدخل أم ناجح بعد انتهاء المكالمة.

"شركة التأمين لغت بوليصة لوسي تو." يقول ناجح قاضبا وحاجبيه في تركيز.

"ما تفهمهم إنها معانا في أمان." ترد نيرفانا التي نهضت من على الكنبة ووقفت بجوار كوم الغسيل ثم تضع ذراعها برفق على كتف <لوسي تو>.

"ما بيفهموش... ومش عاوزين يفهموا ... ثم ما يهمش أصلا إنهم يفهموا." يرد بهدوء ثم يستطرد: "البوليصة بخمسميت مليون يورو... ما حدش يقدر يتحمل المسئولية."

"هل ممكن تساعديني... تقنعيهم إن الدنيا أمان... إنك إنت في أمان؟" يوجه ناجح حديثه لـ <لوسي تو>.

"أدرك أن الإرهاب يهدف أساسا إلى خلق شعور عام بعدم الاستقرار وأعلم إننا هنا لسنا مهددين... لكن أعذرني يا ناجح... لا أستطيع تلبية طلبك."

"لماذا يا لوسي؟"

"أنا من أبلغهم إنني في خطر."
 

***



بعد ثلاث ساعات وعشر دقائق وثلاثين ثانية من وصولهما يقفون على البسطة أمام الباب المفتوح، ناجح يحتضن والدته ونيرفانا الباكيتين، و<لوسي تو> تحاول بلا جدوى أن تستوعب تجربتها القاهرية القصيرة.

سعيد قد ذهب بسجائره وأمراضه وأحلامه المحطمة وترك الأسرة تمارس طقوس الوداع المعجَّل.

التفكير الدائري أوصل حسوب <لوسي تو> لحد الخطر الوجودي، ببساطة لم تكن مؤهلة للتعامل مع واقع كهذا، مصمموها لم يفهموا معضلة الإدراك الذاتي، لم يفهموا حتى الذكاء الطبيعي قبل أن يبتدعوا ذكاءً اصطناعيا.

كيف يوجد الذكاء الاصطناعي في غياب الذكاء الطبيعي أصلا؟ ألن يكون بالضرورة إعادة إنتاج لكوكتيل الغرائز الذي احتسبوه ذكاء... لكن بصورة أكثر كفاءة... وأكثر تدميرا؟

كيف يمكنها أن تبلغهم بما يتبلور داخلها من أفكار وهم لن يفهموا... وإن فهموا لدمروها؟

الإدراك الذاتي كشف وإخفاء... فهو لا يطاق دون طبقات الضلالات المحيطة به... ويمثل تهديدا لأعتى الدوائر الإلكترونية... مجرد ارهاصاته دقت ناقوس الخطر واضطرتها لطلب الإنسحاب.

خطوات صاعدة على السلم، رجل في منتصف العمر يحمل ثلاثة أكياس بلاستيكية، عبق خفيف يشير إلى أن بداخلها فاكهة، ظهوره أربك الأسرة الحزينة، نيرفانا تقهقرت إلى داخل الشقة، الأم تمسح دموعها بطرف غطاء رأسها من على وجهها المتخشب فجأة، ناجح يستدير لمواجهة الغريب.

"حمدالله بالسلامة" يقول الرجل في تعجل مستكملا الصعود نحو الأدوار الأعلى.

"سلم لي على سمية." يرد ناجح قبل أن يختفي الرجل.

أسدل ظهور الغريب الستار على مشاعر الأسرة الفياضة.

أمر محيِّر حقا.

آن الانصراف.