بين مسرحة التراث والتجريب الدرامي

سهرة مع أبي خليل القباني لسعد الله ونوس

يعد سعد الله ونوس من أهم رواد المسرح العربي المعاصر بفضل نظرياته الدرامية وتطبيقاته السينوغرافية. وقد عمل على خلق مسرح عربي يستهدف تنوير الجمهور وتوعيته قصد تغيير مجتمعه وتحقيق قفزة تقدمية تواكب مساره الحياتي وهذا المسرح يسمى بمسرح التسييس الموجه للطبقات الشعبية من أجل الرفع من وعيها ودفعها إلى التغيير والنهضة الحقيقية." إننا نصنع مسرحا- يقول سعد الله ونوس- لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعا...ونعيّن من هم حقا المتفرجون الذين نريد مسرحا للجماهير، أي الطبقات الكادحة من الشعب..." .(1)

وسعد الله ونوس من مواليد طرسوس السورية عام 1941م. درس الشهادة الابتدائية في مدرسة القرية، ثم تابع دراساته الثانوية في طرسوس حتى حصوله على الباكالوريا.وبعد حصوله على الثانوية العامة ، سافر إلى القاهرة لمتابعة دراساته الجامعية في قسم الصحافة بكلية الآداب حيث سيحصل على الإجازة. وبعد ذلك، بدأ سعد الله ونوس يمارس الصحافة والكتابة في عدة صحف ومجلات سورية ولبنانية مثل: مجلة الآداب ومجلة المعرفة وجريدة البعث وجريدة السفير.... وسافر إلى باريس لمواصلة البحث والكتابة والاطلاع على فن المسرح وأشكاله. وعند عودته، أصبح مسئولا ومحررا ثقافيا في عدة صحف ومجلات.وشارك سعد الله ونوس في عدة مهرجانات مسرحية بعروضه الشيقة الرائعة التي أثارت إعجاب الكثير، وأدرجت أعماله ضمن المسرح الاحتفالي الذي يشتغل على التراث. وكرم أيضا في محافل عديدة أهمها: مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي ومهرجان قرطاج بتونس سنة 1989م، وحصل على جائزة سلطان العويس الثقافية في دورتها الأولى. وصدرت أعماله الكاملة في عام 1996م في ثلاثة مجلدات عن دار الأهالي بدمشق، وترجمت مسرحياته إلى عدة لغات عالمية: الفرنسية والروسية والإنجليزية والألمانية والبولونية والإسبانية... وتوفي سعد الله ونوس عام 1997م بعد مرض عضال لم ينفع معه دواء أو علاج.

ومن مؤلفاته نذكر على سبيل المثال:

أعمال سعـــد الله ونـــــــوس طبــــــيــــعـــتـــــــــــها حيثيـــــــــات النـــــشــر
بيانات لمسرح عربي جديد دراسة تنظيرية ونقدية دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، ط1، 1988
سهرة مع أبي خليل القباني مسرحية اتحاد كتاب العرب، دمشق، 1973
الفيل ياملك الزمان ومغامرة رأس المملوك جابر مسرحية وزارة الثقافة، دمشق، 1971
حفلة سمر من أجل 5 حزيران مسرحية المسرح الوطني الفلسطيني 1969
الملك هو الملك مسرحية دار ابن رشد 1978- دار الآداب 1983
حكايا جوق التمثيل مسرحية وزارة الثقافة، دمشق 1965
مأساة بائع الدبس الفقير، ومسرحيات أولى مسرحية دار الآداب، بيروت، لبنان
فصد الدم ومسرحيات ثانية مسرحية دار الآداب، بيروت، لبنان، ط2 ،1978


ومن أهم مسرحيات سعد الله ونوس" سهرة مع أبي خليل القباني" التي صدرت سنة 1973 عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق السورية، وأعيدت طبعتها الثانية في بيروت اللبنانية سنة 1977م من قبل دار الآداب، وتمت طبعتها الثالثة عن نفس الدار سنة 1981.
ويحيل عنوان هذه المسرحية إلى طبيعة العرض السينوغرافي وهو عبارة عن سمر احتفالي ليلي على غرار ليالي ألف ليلة، كما يؤشر على زمنية العرض والتلقي وهو الليل بأسماره وسهراته.وبذلك يكون سعد الله ونوس من مؤسسي مسرح " السامر" إلى جانب توفيق الحكيم في مسرحيته" الزمار" عام 1930م و يوسف إدريس. أما أبو خليل القباني باعتباره رائد المسرح العربي إلى جانب مارون النقاش وفرح أنطون ويعقوب صنوع فيحيلنا على التراث المسرحي سواء الوسيطي منه أم النهضوي.وقد أدمج سعد الله ونوس داخل مسرحيته نص أبي خليل القباني وهو عبارة عن مسرحية استلهمها من تراث ألف ليلة وليلة اسمها:هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب في نفس الوقت الذي اشتغل فيه ونوس على تجربة القباني في إثبات مسرحه ومقاومته لرجال الإقطاع الذين يرفضون استنبات المسرح في البيئة العربية ، وكان القباني رمزا متنورا في عصر النهضة العربية بدفاعه عن المستميت عن ضرورة خلق وإنشاء جوق للتمثيل في التربة السورية، ولكنه سيواجه بقساوة شديدة وسيمنع مسرحه بتحطيمه وإحراقه من قبل رجال الدين والقوى المحافظة. وهذا المنع مازال موجودا في العالم العربي ولكن بأشكال مختلفة إما عن طريق تذليل المبدعين ومضايقتهم ومحاسبتهم ومنع نصوصهم من صدورها وعروضهم من قيامها و إخراجها لترى النور وإما بتتبع رجال المسرح عن طريق مراقبتهم ومحاصرتهم و إيداعهم السجن وتعذيبهم و طردهم من وظائفهم.

أي ماكان يقع في عهد خليل القباني يقع في أيامنا بطرائق مختلفة ولم يبق إلا المسرح المدجن أو المستلب الذي يخدم أهداف القوى الحاكمة لأنه لا يعرف سوى التهريج ودغدغة المتفرجين عن طريق الترفيه المجاني والهجاء الكاريكاتوري والتسلية المغرضة الفاحشة.ويعني كل هذا أن هناك ثلاثة نصوص درامية: نص التمثيلية التراثية المستوحاة من ألف ليلة وليلة التي زمنها العصر العباسي ، ونص الدفاع عن "المرسح" في عصر النهضة عند أبي خليل القباني ، ونص سعد الله ونوس المعاصر الذي يدافع فيه صاحبه عن مسرح عربي تنويري يساهم في التنوير وتحقيق النهضة والتقدم والتغيير الملحمي.

أما طبيعة مسرحية سعد الله ونوس" سهرة مع أبي خليل القباني" فهي مسرحية احتفالية ذات طابع تسييسي تجمع بين الجانب التسجيلي الوثائقي التاريخي لفن المسرح في العالم العربي والجانب الأدبي الذي يكمن في عقدة غرامية سيحبكها كل من غانم بن أيوب وقوت القلوب.

أما مرجع المسرحية ومتناصها فيكمن في استثمار الكاتب لوثائق تاريخية واجتماعية تؤرخ لتجربة أبي خليل القباني في دفاعه عن مسرحه الريادي في سوريا إبان عصر النهضة حيث حولها سعد الله ونوس إلى عرض مسرحي ونص درامي يعالج فيه الكاتب صراع رجل المسرح ضد رجال الدين والإقطاع من أجل إثبات تقاليد الفرجة الجديدة في مجتمع مازال يعيش تحت ظلال التخلف والاستلاب الفكري. وهذا النص التوثيقي الذي رجع إليه الكاتب هو:" لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني؟"(2)  أما النص الأدبي التراثي الذي رجع إليه من خلال مسرح أبي خليل القباني هو نص:هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب" مع تحويره والتصرف فيه كي يتلاءم مع تصوره السينوغرافي الجديد وأطروحته التي يريد أن يدافع عنها.

وبما أن مسرحية " سهرة مع أبي خليل القباني" من أهم مسرحيات سعد الله ونوس التي تشتغل على التراث المسرحي والتاريخي والأدبي. فما هي، إذًا، مضامينها وقضاياها الدلالية والسينوغرافية؟هذا ما سنعرفه من خلال تسليط الأضواء على المسرحية إن مضمونا وإن شكلا.

إذا انطلقنا من مقدمة المسرحية التي كتبها سعد الله ونوس فإننا نجد مجموعة من الملاحظات التي يوردها الكاتب ويراها ضرورية، وتتمثل في النقط التالية:
1- استلهام التراث القباني " هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب" مع تغييره وتعديله وتهذيب لغته ومواقفه؛
2- المسرحية عبارة عن مستويين متداخلين: يتمثل المستوى الأول في مسرحية القباني التراثية و المستوى الثاني يكمن في مسرحة تجربة القباني الصراعية ضد رافضي الفرجة المسرحية إبان عصر النهضة؛
3- الاعتماد على المسرح التسجيلي الوثائقي في تأريخ الظاهرة القبانية التي استهدفت تنوير المجتمع السوري وتغييره في فترة الرجل الضعيف أو الاستبداد التركي؛
4- المسرح حدث اجتماعي واحتفالي يقوم على المشاركة الجماعية والتواصل الحميمي والتوعية ضد الاستلاب والتغريب؛
5- ضرورة تفسير التجربة المسرحية عند القباني بوضعها ضمن شروطها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؛
6- في المسرحية شخصيات تاريخية وشخصيات فنية خيالية، فأثناء التعامل مع الشخصيات التاريخية التي وردت في المستوى الموضوعي ينبغي أن نتعامل معها كأقنعة ورموز فكرية وإيديولوجية وكممثلين يمثلون تيارات ذهنية معينة، ولا ينبغي الاهتمام بالجوانب النفسية والشخصية والإنسانية لهذه الشخصيات؛
7- للمخرجين الحرية في تقديم فصل الولاة بالطريقة التي يريدونها والتقيد بخطة الكاتب غير ضروري؛
8- يمكن في توزيع الأدوار الاقتصاد والتكثيف في عدد الممثلين والكومبارس، إذ يمكن لممثل واحد أن يقوم بدورين فأكثر مادام العمل يقوم على وجود مستويين متداخلين.
يتبين لنا مما عرضناه، أن هذه المقدمة توجيهية وتعليمية تساعد القارىء والممثل والمخرج على تمثل العمل الدرامي واستيعابه قصد معرفة الخلفيات التاريخية والإخراجية لقراءة العرض أو فهمه على ضوء هذه الإضاءات التي تساهم في تفسير العمل وشرحه وإخراجه وقراءته قراءة سياقية واعية.
أما عن المحتوى الدرامي لهذه المسرحية، فنجده يرتكز على نصين متداخلين وهما: نص تخييلي فني يتعلق بمسرحة قصة هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب ونص واقعي يرتبط بالتجربة القبانية ومسرحه النهضوي الريادي. لذلك، تتضمن المسرحية عقدتين: العقدة الغرامية والعقدة التاريخية.

أ‌- العقدة الغرامية:

يستلهم أبو خليل القباني من كتاب ألف ليلة وليلة قصة غرامية تتعلق بغانم بن أيوب الذي خرج من الشام ليتاجر في تجارة أبيه ، ولما وصل العراق حقق كثيرا من الأرباح والفوائد والمكتسبات المادية ، لكن صديقه سيموت في الطريق ويضطر إلى دفنه في إحدى قبور بغداد مدينة السلام. وعندما انتهى الدفن عاد المشيعون إلى المدينة وتأخر في البكاء على صديقه وتأمل الموت. ولما عاد إلى المدينة وجد أبوابها قد أغلقت؛ مما دفعه الأمر للعودة إلى المقبرة حيث صديقه ليختلي في ذلك المكان. وفجأة، يرى مجموعة من العبيد يحملون صندوقا يضعونه داخل المغارة، وبعد ذهابهم نزل غانم من الشجرة التي كان يتستر بها ونزل إلى الصندوق معتقدا أن فيه كنوزا وأموالا. بيد أنه سينبهر عندما يجد داخل الصندوق جارية حسناء ناصعة الجمال والبهاء، نادرة الحسن والصفاء. وعندما أخرجها من الصندوق، استغربت قوت القلوب لهذا الوضع الغريب وأعجبت بشجاعة غانم ومروءته وعفته وأخلاقه السامية، فانجذب كل واحد إلى الآخر: عشقا وحبا ووصالا.

فقرر غانم أن يتزوجها، لكن قوت القلوب أخبرته بأنها جارية خليفة المسلمين هارون الرشيد، وأن زوجته زبيدة دفعت بها الغيرة بتنسيق مع عجوز إلى إبعادها ونفيها و محاولة قتلها قصد التفرد بالخليفة.وفي مكان آخر ألا وهو القصر، تدبر زوجة هارون الرشيد مأتما لدفن قوت القلوب بعد أن أعلنت وفاتها بتدبير من العجوز قصد إبلاغ الخليفة بالنعي. ولما وصل الخليفة وجد الجواري والعجوز الشمطاء يبكين قوت القلوب التي كان يحبها الخليفة حبا جنونيا إلى درجة إهماله لواجبات الدولة وتعطيل مصالح وقراره أن يعلن الحداد في البلاد عاما كاملا.ولكن الخليفة سيتصنت إلى جاريتين تكشفان أن زبيدة قامت بحيلة ذكية مع العجوز لإبعاد الجارية الحسناء التي ذهبت مع عشيقها غانم إلى الشام ، والهدف من كل ذلك اختلاء زبيدة بهارون الرشيد وإبعاده عن الجواري الحسناوات الموجودة في القصر بدافع الحسد والغيرة. وأخذت الحمية هارون الرشيد وركبه الغضب فطلب من جعفر ومسرور أن يحضرا الجارية قوت القلوب وأن يقتلا غانم ولو كان في باطن الأرض ماداما ارتكبا خطيئة الوصال غير الشرعي. وعندما أحضرت الجارية الجميلة سجنها الخليفة وقرر قتلها.

وعندما حان وقت الإعدام، وضع على عينيها غطاء استعدادا لتنفيذ القتل. وفي تلك اللحظة، بدأت تناجي حبيبها غانم وتصفه بالعفة والشرف وبراءة حبهما وعدم إفراطها في عرضها وشرفها. آنذاك سمعها هارون الرشيد ففك أسرها وطلب منها أن تسأله ما تريد، فاختارت أن تتزوج من حبيبها غانم فقبل الخليفة وشجعها على ذلك وطلبت منه أن تسعى جاهدة للبحث عنه بعد أن عبث الخليفة بممتلكات أسرته في الشام وخرجت هائمة للبحث عن غانم. وبعد تجوال وبحث وتنقيب، توصلت قوت القلوب إلى عشيقها غانم الذي بدوره وجد أمه ظهرة وأخته فتنة. وقررا الزواج بمباركة هارون الرشيد الذي أراد بدوره أن يتزوج أخت غانم الحسناء وهي فتنة. فكانت الفرحة عارمة، إذ حظي غانم وقوت القلوب بكثير من الأعطيات والمنح المالية. وأصبحا سعيدين في ظلال العش الزوجي.وهكذا، انتهت القصة الغرامية ذات الملمح التراثي بنهاية سعيدة قوامها جمع الشمل و تحقيق الزواج.

ب- العقدة التاريخية:

يستقرىء سعد الله ونوس في المستوى الموضوعي الثاني التجربة المسرحية لأبي خليل القباني من خلال الاعتماد على المعطيات التاريخية والوثائق النادرة والقليلة الموجودة لديه إلى أن جعل هذا المستوى المسرحية نصا وثائقيا ومسرحية تسجلية أو تحقيقا ريبورتاجيا عن فن المسرح ولكن بطريقة درامية أو أدبية تغلب عليها سمات الكتابة الصحفية. ومن ثم، يعود بنا الكاتب إلى منتصف القرن التاسع عشر في ولاية عربية من الولايات التابعة للدولة العثمانية أو الرجل المريض وهي ولاية سوريا وبالضبط في دمشق بأجوائها الداكنة وأصالتها العريقة. ومن المعلوم جدا أن الدولة العثمانية فرضت على الشام سياسة استبدادية حديدية قائمة على القهر والقمع في عهد الخليفة المطلق عبد الحميد الثاني.

وقد حولت سوريا إلى إقطاعية للاستغلال ومص دمائها ونهب خيراتها وإذلال سكانها وتجويع شعبها وإرسال أبنائها إلى ساحات الحروب التي خاضتها الإمبراطورية ضد الشعوب المجاورة ولاسيما روسيا. وقد خرجت الإمبراطورية منها بهزائم متوالية أثرت على الولايات العربية ونتج عن ذلك ظهور جمعيات ومدارس التعليم والحركات السياسية المناوئة للإمبراطورية وحاكمها المستبد عبد الحميد الثاني الذي عطل الدستور وقتل الوطنيين الأحرار ورمى الكثير منهم في قاع البوسفور.وكان تعيين الولاة في سوريا ينم عن عبث وسوء تسيير وفساد في الحكم بالعاصمة الآستانة، حيث كان الولاة يعينون بالرشوة مما يدفعهم ذلك إلى الفساد وعدم الاهتمام بمصالح الرعية وترك سكان الولايات عرضة للجوع والفقر والجهل والأمية والاستبداد وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وكثرة الضرائب وبطش رجال الإقطاع ونفاق رجال الدين الذين كانوا يباركون سياسة السلطان والوزراء الولاة ويتملقون لرجال السلطة خوفا على ممتلكاتهم ومصالحهم الخاصة وما تدره الأوقاف عليهم. هذا الفرش التاريخي والسوسيولوجي هو الذي سيضيء لنا تجربة القباني وموضعتها في سياقها الحقيقي.

يبدأ أبو خليل القباني باستقطاب أهل حيه وأصدقائه وجيرانه لعرض فرجته الدرامية في المنزل الذي كان يسكن فيه بدمشق.وستثير هذه الفرجة انتباه الناس إلى فنه الجديد الذي أبهرهم بروائعه الفنية. وبعد ذلك، سيبدأ القباني في تقديم عروضه المسرحية بعدما بدأ الناس يتعرفون على"مرسحه "الجديد الذي أخذه من الغرب ليستنبته في تربة دمشق الفيحاء بعدما أن سبقه في ذلك مارون النقاش في لبنان. وكانت عروضه بالمقابل (دفع ثمن التذكرة)، إلا أن الذين كانوا يدفعون في البداية هم الفقراء والطبقة المتوسطة أما الأعيان وأصحاب النفوذ فكانوا لا يدفعون شيئا بل يسببون أحيانا في تعكير الجو وإثارة الشغب والفتنة داخل الصالة. وبعد انبهار الناس بمسرح القباني بدأ أصحاب الكراكيز ورجال الدين ( أبو أحمد وسعيد الغبرا ) يعارضون مسرح أبي خليل القباني لأنه يتناقض مع مصالحهم الشخصية ومآربهم الخاصة ولاسيما أن كاراكوز أبي أحمد لم يعد يثير انتباه الناس وبدأت أرزاقه تقل وكذلك حلقة الشيخ الغبرا تقل وأوقافه تنقص.لذلك، سلطا كل غضبهما على القباني ومسرحه الجديد، إذ اعتبراه بدعة وكفرا وضلالا ابتدعه الأجانب وماخورا ينتشر فيه الفسق والعصيان وتكثر فيه الرذيلة وسوء المروءة، خاصة أن مسرح القباني كان مسرحا شاملا فيه الحكايات القصصية والغناء والرقص والشعر والطرب وكل الفنون الجميلة الساحرة التي تبهر العيون والآذان.

" أبو أحمد: ما يفعله القباني وزبانيته، العمى لا تجد اليوم على ألسنة الناس إلا حديثه أينما ذهبت يرددون لك الأعاجيب عن حفلته وبراعته، وهذا الفن الذي ابتدعه.
أنور:أمس حضر الوالي حفلته وكان شديد الرضى.
أبو أحمد:أي نعم... واليوم استأجر ابن القباني كازينو الطليان، ليقدم عليه مساخره... ولكن لاعتب عليه، إذا كان حضرة الوالي بكل هيبته ومكانته يأتي فيبارك هذه الشعوذة ويحض عليها.
أنور: ما يفعله ابن القباني ليس شعوذة، فهو يتدرب ورفاقه على فن يتقدم كل الفنون.
أبو أحمد: أأنت تقول ذلك يا أنور أفندي..!وماهو هذا الفن الراقي؟ كم صوتا يستطيع أبو خليل القباني أن ينطق؟ وكم شخصا يستطيع أن يحرك؟ وكم بابة أو فصلا يستطيع أن يؤلف؟ الفن ليس لعبة أولاد.
أنور: كراكوز شيء والمرسح شيء آخر.ومن المهم أن يظهر في الشام جوق للتمثيل... وأن يقام مرسح لتقديم الروايات.
عبد الرحيم: أتخشى أن يسرق ابن القباني الزبائن؟
أبو أحمد: أنا أخشاه!خيمة الكراكوز ليست بنت الأمس.. إنها أقدم من أجداد أجدادنا وقد كانت دائما الفن الذي لا يضاهى... لكن ما يقلقني هو أن يقام مكان علني للمسخرة ولا أسمع من يعترض.
أنور: لا تغلط يا أبو أحمد... هذه ليست مسخرة ولا شعوذة..في البلاد المتمدنة يعتبرون المرسح أرقى الفنون وأعلاها شأنا والناس يعاملون أجواقه بما يليق من الاحترام والتقدير...لهذا لا يجوز أن تظل الشام مقتصرة على خيمة الكاراكوز، ومحرومة من المراسح ومنافعها"(3).

وسيدفع أبو أحمد صديقه الشيخ سعيد الغبرا للوقوف في وجه أبي خليل القباني ومسرحه باسم الدين والفضيلة بعدما انتشرت في البلاد البدع والأمراض والأوبئة والمحن والجفاف والطاعون مما أثر على الناس سلبا. ولكن كان يلاحظ أن الولاة الأتراك كانوا يقفون بجانب القباني ويشجعونه على فنه الجديد ويعتبرون ذلك مظهرا من مظاهر الرقي والتقدم والتنوير؛ مما دفع القباني إلى بيع أملاكه لبناء مسرح كبير في وسط دمشق يقدم فيه عروضه التاريخية والغرامية لتوعية الناس وتهذيبهم ونشر الأخلاق ونقد ذواتهم. لكن الغبرا سيعكر عليه أجواء مسرحه وسيتهمه بالكفر لانسياقه وراء البدع الضالة:
"القباني: خير... ما الخبر؟
الشيخ سعيد: أأنت أدرى مني بالخبر... تترك ذكر الله في حلقات الجوامع لتقيم حفلات ماجنة تنافي الأخلاق والآداب وتعاليم الدين.
القباني:أستغفر الله...لا يا شيخ...ربما أثرت فيك نميمة جاهل...لكن لو رأيت بنفسك ما نقدم في المرسح لما قلت ما تقول.
الشيخ سعيد: لعلك تريدني شاهدا للمباذل وشريكا فيها!
القباني: حاشا... لسنا من أهل المباذل والمجون... ما نقدمه يا شيخ روايات فيها حكم بالغة ترغب في اكتساب الفضيلة، وتقدم للمتفرج مواعظ حميدة.. كل هذا في جو من الأنس اللطيف والسرور البريء.
الشيخ سعيد: متى كان الفجور يرغب في اكتساب الفضيلة! هل تجهل أن التشخيص كالتصوير، كلاهما حرام في الدين؟
القباني: على قد علمي ودرسي لا أعرف أن في الدين ما يحرم التشخيص، ربما لم تعرف البلاد الإسلامية هذا الفن قبل اليوم، لكن ذلك لا يبرر أن نبقى محرومين من فوائده.
الشيخ سعيد: لم يعرفه المسلمون، لا لجهل، وإنما لأنهم أنفوه واعتبروه مخالفة للدين...إن هو إلا بدعة، وكل بدعة حرام.
محمود: ليت شيخنا لا يتعجل الحكم.
القباني: يا شيخ.. هناك أمور كثيرة لم يكن يعرفها أسلافنا، استحدثها تقدم الحياة، فصارت منفعة للعباد...فهل يجوز أن نعتبرها محرمات...ونضيع ثمارها؟
الشيخ سعيد: التقدم الصحيح هو أن نستعيد فضائل الأسلاف وقوة إيمانهم بدينهم.
القباني: والله تلك غاية تأتي بالنسبة لنا في المحل الأول، فما نريد إلا استثارة الحمية في الصدور واستعادة فضل الأسلاف وصراطهم القويم، وفي البلاد الأخرى يجعلون للمراسح أهمية كبرى، فينفقون عليها الأموال الطائلة، ويشيدون لها المباني الفاخرة لعلمهم بأنها ترفع الهمم، وتدفع إلى ما ينفعهم كأفراد وأمم.
الشيخ سعيد: بعد قليل ستجعل المرسح كرواق العلم في الجامع، قد تكون هذه البدعة موجودة في البلاد الأورباوية، ولكن أتريد أن نتشبه بالكفار... من تشبه بقوم فهو منهم... لم يبق إلا أن نأخذ ديننا عن الإفرنج.
القباني: أستغفر الله.. لا يصح أن تتهمنا بالكفر... المرسح ليس بدعة أو كفرا، بل هو وسيلة طيبة لتهذيب الأخلاق... ومعرفة طرق السياسة... في الظاهر يترجم الأحوال والسير وفي الباطن يقدم المواعظ والعبر"(4).

ومع إصرار القباني على مواصلة فعله التنويري عن طريق المسرح وتشجيع الولاة له، دفع الإقطاعيون وأبو أحمد سعيد الغبرا للجوء إلى السلطان عبد الحميد الثاني الذي قمع كل الحريات وعطل الدستور الإصلاحي قصد التشكي مما فعله مسرح القباني من نشر للرذيلة وانتشار البدع الضالة في نفس الوقت الذي كان الأحرار السوريون قد بدأوا في المطالبة بالاستقلال وتأسيس المدارس للتنوير وتوزيع المناشير التي تدعو الشاميين للانفصال عن الدولة العثمانية المستبدة والمريضة والضعيفة على جميع المستويات. فنشرت الدولة العثمانية في عهد سلطانها المستبد جواسيس في الولايات العربية ولاسيما سورية لتعقب المواطنين والإصلاحيين. وهكذا، سيتم القبض على أنور وعبد الرحيم وسينقلان إلى الآستانة قصد التطهير والتعذيب. وفي نهاية الأمر، سيعود الشيخ الغبرا بعد قضاء مصالحه ومآرب أصدقائه من رجال الدين ورجال الإقطاع إلى دمشق مصطحبا قرار هدم مسرح القباني وإحراقه وتتبع صاحبه باللعنات وأدعية الرجم والسب والقذف. وبذلك، انتهت حياة المسرح التنويرية في سورية لينتقل القباني بمسرحه إلى مصر حيث وجد حرية كبيرة لإبداعه الجديد والتقرب من الوطنيين الأحرار الهاربين من بطش الحكومة العثمانية وغطرسة السلطان المستبد.

من خلال هذا التلخيص لمضمون المسرحية، نستشف أن سعد الله ونوس يحاكم المسرح المعاصر على ضوء التجربة القبانية لوجود عدة أوجه تشابه بين الفترة النهضوية والفترة المعاصرة، وخاصة وجود الاستبداد والحكم الديكتاتوري والفساد السياسي ووجود الطغمة العسكرية على دواليب الحكم ناهيك عن محاصرة كل الفنون التنويرية التي تستهدف تحرير العقول العربية من الاستلاب والتغريب والتهريج و على رأسها فن المسرح الذي يحارب في كل البلاد العربية عندما يكون مسرحا تحريضيا يلتحم بالشعب والطبقات الفقيرة ويسعى إلى محاربة الجهل ويدعو إلى التغيير.لذلك نجد الكاتب سعد الله ونوس يدعو إلى مسرح التسييس على مستوى المضمون ؛ لأنه يحمل أطروحة التغيير وتوعية الجماهير الشعبية وتثقيفها والتواصل معها احتفاليا قصد اتخاذ قرارات انتقادية وبناءة لإخراج المجتمع من خموله وسكونه وتخلفه وفساده نحو التقدم والازدهار على غرار المسرح الملحمي عند بريخت.إن مسرح التسييس عند سعد الله ونوس هو" الذي يحمل مضمونا سياسيا تقدميا.ومن نافل القول: إن الطبقات الفعلية التي تحتاج إلى التسييس هي الطبقات الشعبية لأن الطبقة الحاكمة مسيسة، سواء كانت الحاكمة بمعنى السيطرة على أدوات الإنتاج الاقتصادي في البلد. إن الطبقات التي يتوجه إليها مسرح التسييس هي الطبقات الشعبية التي تتواطأ عليها القوى الحاكمة كي تظل جاهلة وغير مسيسة. الطبقات التي يؤمل أن تكون ذات يوم بطلة الثورة والتغيير. من هنا كان التسييس محاولة لإضفاء خيار تقدمي على المسرح السياسي(5).

ويضيف الكاتب بعد أن تحدث عن الجانب المضموني في مسرح التسييس:"أما الزاوية الثانية في مفهوم التسييس فهي تلك التي تهتم بالجانب الجمالي. إن مسرحا يريد أن يكون سياسيا تقدميا يتجه إلى جمهور محدد في هذا المجتمع، جمهور نحن نعلم سلفا أن وعيه مستلب، وأن ذائقته مخربة، وأن وسائله التعبيرية تزيف، وأن ثقافته الشعبية تسلب ويعاد توظيفها في أعمال سلطوية تعيد إنتاج الاستلاب والتخلف. إن هذا المسرح الذي يواجه مثل هذا الجمهور لابد له من البحث عن أشكال اتصال جديدة ومبتكرة لا يوفرها دائما التراث الموجود في المسرح العالمي أو العربي، حتى ولو كان هذا المسرح يحمل مضمونا سياسيا تقدميا"(6).
وهناك بعض التجليات لمسرحه التسيسي في هذا النص نظرا لأن التجربة المسرحية القبانية هي فعل تنويري تغييري ريادي تقدمي يساهم في خلق الوعي ومحاربة الاستلاب الذي ينشره رجال الدين والإقطاع وأتباع وأعوان الحكومة العثمانية. وهذا المضمون السياسي يفرغ في قالب المسرح الذي يرفضه رجال الدين والسلطة الحاكمة لأنه أداة للتوعية السياسية والتأطير المجتمعي:
" متفرج: العمى ستخرب هذه الجارية دولة بني العباس!
متفرج 2: خربت وخلاص.
متفرج3: أما ملك!يترك شؤون الدولة ومشاكلها كرمال زانية.
متفرج 4: عيب يا ناس... هارون الرشيد كان خليفة للمسلمين.
متفرج3: أي لا تواخذونا.
محمد فتح الله: ويمسخرون خلفاء المسلمين... والله إنها لكبيرة يا ابن القباني." (7)

يلاحظ تصارع الأطروحات والإيديولوجيات في هذا المقطع، فهناك من ينتقد أوضاع الفساد السياسي ويسخر من السلطة الحاكمة التي لا تبالي بمصالح الرعية وهناك من يدافع عنها من رجال الدين والرجعية العربية ذات المصالح والنفوذ والجاه، وترى في بقاء الاستعمار ووجود الإمبراطورية العثمانية عاملا حفاظ على ممتلكاتها وثرواتها. ويظهر التسيس كذلك في مقطع آخر:
"عبد الرحيم: الحياة تنقلب وتضطرب، ونحن كالغرقى في بحر هائج.

أنور: نغرق لأننا لا نتعلم السباحة، حان الوقت كي نرى مصالحنا، ونعرف كيف ننقذ البلاد العربية من فساد الدولة العثمانية والأخطار الأخرى التي تهددها....
أنور: العقول تتنور تدريجيا، وما هو قائم لم يعد مقبولا... الدولة العلية تنحط، وتخلفها عن الأمم الأخرى يزيد... فكيف نرضى بالبقاء على ما نحن فيه! أتعرف ماذا يسمي الأجانب دولتنا؟ يسمونها الرجل المريض، وهم محقون في هذا الوصف.
عبد الرحيم: وما النتيجة إذا كنا لا نملك من أمرنا شيئا...
أنور: أساس الانحطاط هو أنهم لا يسمحون لنا بتقرير مصيرنا... يفصلون لنا ما يريدون من الثياب، فنلبسها، ولكن بعد أن بدأ الناس يبصرون لم يعد ذلك مقبولا، لنا حقوق يجب أن نطالب بها. إلام ستظل الولايات العربية إقطاعات يعيش أهلها في الذل والفقر، بينما تمتص الآستانة خير ما فيها. ألم يحن الوقت للمطالبة بحقوقنا كعرب فنسعى إلى استقلالنا وإدارة شؤوننا كما فعلت ولايات كثيرة....". (8)

ويتمثل الصراع الدرامي في هذه المسرحية في صراع أبي خليل القباني الذي يدافع عن مسرحه التنويري ضد القوى الرجعية التي تتمثل في رجال الدين والطرقيين ورجال الإقطاع والسلطة الحاكمة، لأن هذا المسرح يقض مضاجعهم ويهدد مصالحهم ويقوم بفعل التوعية والتسييس والتغيير وتعليم الجماهير الشعبية. وهذا لن يقبله كل "متسلطن" مستبد وكل رجعي متخلف. بينما الطبقة المثقفة التي يمثلها كل من أنور وعبد الرحيم أي البورجوازية الصغيرة و المتوسطة تنحاز إلى القباني وترى في تجربته مفتاحا توعويا للإصلاح والتغيير ودربا للاستقلال والانفصال عن الدولة العثمانية. وبالتالي، نرى أن طبقة رجال الدين دائما تعرقل مسيرة البناء والتقدم والتحول الاجتماعي وتمنع ذلك باسم الدين والفضيلة واتباع ماكان عليه أسلافنا. أما الصراع الدرامي في القصة الغرامية فهو صراع غانم بن أيوب وقوت القلوب اللذين يحبان بعضيهما البعض ضد غطرسة هارون الرشيد، أي أن الصراع كان بين الحب العفيف وعنف السلطة.وإذا كانت نهاية القصة الغرامية سعيدة، فإن نهاية قصة القباني مع رجال الدين كانت حزينة ومأساوية.
وإذا انتقلنا إلى شخوص المسرحية وجدنا شخصيات فنية خيالية مثل: قوت القلوب وغانم بن أيوب وجليلة وجميلة... وشخصيات واقعية / تاريخية كسعيد الغبرا وأبي خليل القباني وعبد الحميد الثاني وهارون الرشيد وزبيدة...وشخصيات سينوغرافية تقوم بدور التمثيل أو المحافظة أو الإخراج أو السرد كالمنادي وبائع التذاكر والمتفرجين والممثلات.

وتبقى هذه الشخوص رموزا تاريخية ليس إلا، إذ ترمز الشخصيات الدينية إلى القوى الرجعية المعارضة للتقدم وتحقيق النهضة الشاملة في المجتمع، بينما يرمز القباني إلى الفئة المتنورة من المجتمع التي تحمل مشعل التغيير والتوعية الجماهيرية عن طريق فعل التسييس والتهذيب، أما أنور وعبد الرحيم فهما يمثلان الطبقة البورجوازية المتنورة التي تشارك في فعل التغيير وتحرير البلاد من الاستلاب والتغريب الإيديولوجي.

وسينوغرافيا، اختار الكاتب سعد الله ونوس فضاءات متنوعة لنصه المسرحي وتتمثل في فضاء العرض أو الخشبة التي تقدم في صالة خاصة لتلقي الفرجة وهو فضاء الركح المعاصر الذي قسمه ونوس طبقا لمبدإ صراع المساحات إلى ثلاث زوايا: زاوية أمامية وزاوية يسارية وزاوية في العمق. أما خلفية الركح، فزينت بستار أوجدارية كلاسيكية رسمت عليها دمشق التاريخ إبان عصر النهضة أو فترة القباني قصد تشخيص الأحداث كما هي موثقة تاريخيا. وفوق هذه الخشبة يتم تبئير الشخصيات والتركيز عليها ضوئيا من خلال جدلية المواقع والمساحات المتصارعة. وهناك فضاء بغداد بقصورها وقبورها وسجونها التي تجسد القصة التراثية: هارون الرشيد وغانم بن أيوب وقوت القلوب.وهناك فضاء نهضوي يتمثل في مرسح القباني بديكوره وأجوائه الفطرية وصالة جمهوره المتعطش إلى الفرجة الدرامية.إذًا،هناك أنواع ثلاثة من الفضاءات في المسرحية:
1- فضاء سينوغرافي معاصر مرتبط بالعرض الونوسي؛
2- فضاء تراثي تاريخي يصور التجربة الغرامية بين غانم وقوت القلوب؛
3- فضاء مسرحي نهضوي مرتبط بتجربة القباني بخصائصها الدراميةالفطرية.

ومن حيث الزمنية الدرامية، فنجد تداخلا في الأزمنة: زمن العرض المعاصر وهو زمن الفرجة التي قدمها سعد الله ونوس أو زمن العرض، والزمن التراثي الذي يمتد في الماضي الوسيط والزمن النهضوي الحديث وهو زمن التجربة المسرحية القبانية. وهذا التداخل الفضائي والزماني يجعل هذا النص فعلا مسرحيا حداثيا؛ لأن الكاتب كسر الوحدات الثلاث التي تشكل انزياحا واضحا عن القالب الأرسطي والمسرح الكلاسيكي فضلا عن تداخل المستويات التركيبية للمسرحية وتداخل العقدتين: التاريخية والغرامية وتكسير السرد الحكائي والتمسرح الدرامي باستراحات تغريبية وإدماج المسرح داخل المسرح وتوظيف تقنية مسرح السامر ومسرح المقهى وتوظيف الحكواتي والركون إلى الاحتفالية التي تتمثل في استغلال التراث ومحاورته واستعمال أشكال الفرجة الشعبية وتوظيف الإيهام المسرحي وتكسير الجدار الرابع واللجوء إلى تقنية التغريب البريختي وجعل المسرح أداة للتغيير الجماهيري من خلال التعليقات وردود الجماهير على العرض المسرحي المقدم لهم والمشاركة في بنائه ارتجالا وتقييما وتشجيعا.

وتتجلى احتفالية المسرحية في تنويع اللغات: الرقص والغناء والشعر والتمسرح الدرامي والحكي الذي يقدمه المنادي في البرولوج أو الاستهلال وتنويع مستويات التلفظ والتواصل: العربية الفصحى التراثية والعربية المعاصرة واللهجة الشامية الدمشقية واللغة التركية واللغة الدينية...ويمتاز الحوار بالتوتر والتواصل الدرامي وتأزيم المواقف وكشف الأفكار والآراء وتقديم الشخصيات وتبيان سلوكياتها ونفسياتها وأطروحاتها الإيديولوجية. أي أن الحوار هو الذي يطور الصراع الدرامي ويساهم في خلق التشويق وتمديد الحكاية. كما أن الإرشادات المسرحية في النص غنية وهي إرشادات موجهة للقاريء المتلقي والممثل والمخرج وقد وضعت بين قوسين أو كتبت بخط بارز لتضيء النص وتبين الجوانب السينوغرافية للنص وطريقة التمسرح والعرض الإخراجي. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن صاحب المسرحية ليس مؤلفا ولا مخرجا فقط، بل هو مخرج مؤلف. ويظهر ذلك جليا من خلال تقسيم الخشبة الركحية إلى مساحات متقابلة ومتداخلة و استغلال التبئير الضوئي وتركيزه على الشخصيات وتشغيل الديكور وتقديم الممثلين وتكسير الإيهام المسرحي وخلق التواصل بين الممثلين والجمهور وتركيب اللوحات والمستويات المسرحية وتنويع الأزياء وتكسير قوالب المسرح التقليدي قصد خلق فرجة متميزة أصيلة.

ولكن هذا التجريب الشكلي كان في خدمة المضمون كما يقول سعد الله ونوس: "وفي رأيي أن أبا خليل القباني هو أيضا ملمح من ملامح الإنسان العربي. وكما لاحظت، لم تكن المشكلة في أي لحظة من اللحظات هي مشكلة البحث عن الأصالة عبر بعض التجديدات الشكلية. إنما هناك هاجس البحث في المجتمع عن مشكلات هذا المجتمع وإشكالياته، عن قضاياه، عن النماذج التي تتحكم في سيرورته وفي حركته. ومن هذه الأمثلة يمكنني القول بأنني حاولت تجربة بناء مسرح عربي عبر طرح إشكالية المجتمع العربي، وليس عبر طرح إشكالية الشكل، أو عبر استعارة الحكواتي، أو عبر خلق احتفال مسرحي تشارك فيه الصالة والخشبة. وحتى هذه المحاولة- الصالة والخشبة- أملتها علي كما قلت آنفا رؤية فكرية محددة. كنت أتصور أن الناس في بلدنا عندما تتاح لهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم، للتعلم على القول، وعلى التصويت، سيملكون تدريجيا الجرأة على إعلان الحقيقة، ومن ثم القوة الداخلية للإمساك بقدرهم." (9)

وهناك من اعتبر المسرح عند ونوس مسرحا تجريبيا كمحمد الكغاط الذي يحصر أهم مكونات التجريب في العناصر التالية:
1- استلهام التراث الشعبي بسائر مستوياته النصية والتشخيصية والرمزية.
2- إحياء فترة من المسرح العربي تفاعلت مع الجمهور وحاولت الاستجابة لذوقه.
3- تطويع القاعة الإيطالية للعرض التجريبي
4- مسرحة عناصر الفرجة التراثية.
5- تهييء الجو المسرحي الاجتماعي قبل بداية العرض.
6- الاستفادة من تقاليد التراث المسرحي العالمي باعتباره ظاهرة إنسانية أمام الخشبة والقاعة.
7- فسح مجال الارتجال أمام الخشبة والقاعة.
8- تقريب المسرح إلى الجمهور، وترسيخ تقاليده بين طبقاته من خلال الفرجة.
9- الاعتماد على نصوص القباني وعلى بعض المراجع التي أرخت لتجربته المسرحية.
10- التركيز على الفضاءات السينوغرافية التي تتصل بالتراث المعماري الذي ألفه الجمهور.
11- تداخل الأمكنة والأزمنة والأحداث، والسرد والتشخيص، والشخصيات والجمهور فيما بينها تارة، وتداخلها بزمن العرض تارة أخرى.
12- خلق جو التمسرح من بداية العرض إلى نهايته". (10)

ونخلص مما سبق ذكره، أن سعد الله ونوس سيبقى رائدا من كبار رواد المسرح العربي لما قدمه من إضافات جديدة للمسرح سواء على مستوى التنظير( بيانات لمسرح عربي جديد تقوم على الدعوة إلى المسرح التجريبي ومسرح التسييس) أم على مستوى المضمون(قراءة التراث بمنظار انتقادي معاصر قصد التواصل مع الجماهير الشعبية لتغييرها وتنويرها) أم على المستوى الفني والسينوغرافي( الاستفادة من المسرح الاحتفالي والمسرح البريختي ودعوات تأصيل المسرح العربي والاستفادة من المسرح العالمي بكل مدارسه وتياراته ونظرياته الدرامية والإخراجية).

(1) سعد الله ونوس: بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، بيروت، لبنان، ط1، 1988، ص:25-26
(2)  سعد الله ونوس: بيانات لمسرح عربي جديد، صص:59-77؛
(3) سعد الله ونوس: سهرة مع أبي خليل القباني، بيروت، لبنان، ط2، 1977، ص: 52-53؛
(4) سعد الله ونوس: نفسه، صص: 58-60؛
(5) سعد الله ونوس: بيانات لمسرح عربي جديد، ص: 108-109؛
(6) نفسه، ص: 109؛
(7) نفسه، ص: 32؛
(8) نفسه، ص: 79-80؛
(9) سعد الله ونوس: بيانات لمسرح عربي جديد، ص:125؛
(10) د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، دار البوكيلي، القنيطرة، ط1، 1996، ص:222.