التصوير المفارق في رواية (نخلة على الحافة) لجميل عطية إبراهيم

أتذكر أني قرأت في أواخر الستينات فقرة نقدية للمرحوم شكري محمد عياد رسختْ دلالتها في ذهني و ساعدتني إلى حد بعيد على التصنيف الجمالي لإبداع جميل عطية إبراهيم. قال شكري عياد عن قصة قصيرة للكاتب المذكور : » إن المشكلة التي تعالجها قصة " المربع الدائري" مشكلة قديمة عالجها الكتاب الرومنسيون و الواقعيون و الواقعيون الاشتراكيون كل بطريقته. و هل ثمة مشكلة أقدم من استغلال الأقوياء للضعفاء ؟ . إن قصة الغسالة التي تترك طفلها الرضيع و تأتي إلى منزل مخدوميها بعد أسبوع واحد من ولادتها كان يمكن أن تكتب بألف طريقة، و كل طريقة يمكن أن تؤدي غرضا مختلفا. و لكن [ جميل عطية إبراهيم ] في صميمه كاتب عاطفي يثيره مشهد الظلم كيفما كان، و يثيره أكثر عندما يكون من إنسان ضعيف لإنسان أشد ضعفا، فلذلك كان الأسلوب السريالي هو أقرب الأساليب إلى غرضه مادام الأسلوب الرومنسي يبدو لأبناء العصر، الذين تعودوا مرارة الآمال المحبطة، ساذجا حتى الإضحاك« (1) .

لقد ظل هذا » المعيار السريالي « مهيمنا على الذاكرة و موجها قراءاتي لإنتاج جميل عطية إبراهيم و صحبه، خاصة ما كانوا ينشرونه في مجلة » غاليري 68 « المصرية التي كان يديرها جميل عطية بالاشتراك. كانت مجلة متميزة من حيث صغر حجمها المستطيل، وورقها المتقشف ، و طريقة إخراجها، و أسماء كتابها، و طبيعة موضوعاتها، و فوق هذا و ذاك النبرة التجديدية التي وسمت كتاباتها الإبداعية و النقدية.

كان اسم جميل عطية إبراهيم قد ارتبط بذاكرة فئة عريضة من مثقفي المغرب المنتمين إلى مرحلة الستينات بوصفه عضوا نشيطا من أعضاء البعثة التعليمية المصرية التي عملت في المغرب منذ سنة 1961 ثم غادرته في سنة 1963 بسبب الحرب الحدودية التي نشبت بين المغرب و الجزائر. كانت مصر قد انحازت إلى صف الجزائر، و كان من نتائج ذلك طرد أعضاء البعثة. ولقد صور جميل عطية عملية الخروج في رواية » أصيلا « التي كتبها عام 1966 و لم ينشرها إلا في سنة 1980 . و أتذكر شخصيا عديدا من تفاصيل خروج الأساتذة المصريين و أنا تلميذ في قسم الباكلوريا بتطوان في نوفمر 1963 . و إني أتساءل بهذه المناسبة عن مصير الأستاذ و الشاعر الجليل أحمد محمد صقر الذي كان واحدا من ألمع أعضاء البعثة في مدينتنا.

صورت رواية » أصيلا « قلق عادل أستاذ الرياضيات في هذه المدينة المغربية الصغيرة و انشطاره بين التفكير في خطيبته المهددة بأن تبتر رجلها في القاهرة و بين الأجواء الفاسدة في مدينة » أصيلا « . أقول الفاسدة لأن الراوي لم يكد يرى فيها سوى الشذوذ و القوادة و بيع القيم و الدعارة الجنسية و الخمرة و اللعنة و الخيانة و العجز و الجوع و الانتحار و ما إلى ذلك من المظاهر السلبية العديدة التي لا توازي على الإطلاق الصور التي يمكن وسمها بالمضيئة. قد يقول قائل إن الحالة النفسية الكبيسة التي هيمنت على الراوي هي التي جعلته يرجح صور القتامة مع استثناءات قليلة. لكن على الرغم من ذلك الإقرار يظهر أن الراوي لم يبد أية رغبة في إنجاز تصوير متعاطف مع الشخصيات و الأماكن و المواقف على الرغم من اختلافه معها. إذ من الواضح وجود فرق بين تصوير » مظاهر السلب « بقدر من الفهم أو التحليل أو الحياد و بين تصويرها بانفعال متحامل. أما من حيث التكوين السردي فقد كان الراوي ينتقل في حكيه بكل حرية و انطلاق من أصيلا إلى القاهرة، و من القاهرة إلى أصيلا ليروي تفاصيل يوم واحد في موضعين متباعدين ظاهريا. و لعل هذه الحرية أن تذكرنا بالمعيار السريالي الذي سبق أن رصده شكري عياد و تثير انتباهنا إلى الأهمية القصوى التي يوليها الراوي للمكون الزمني. لكن على الرغم من ذلك تضل رواية » أصيلا « غير متوازنة في تصويرها، مكتوبة بانفعال ذاتي على إثر الطرد الذي مس الكاتب شخصيا فتحامل على المدينة الوديعة التي اقتضى سرده ذات مرة أن يقول عنها إنها بلا روح!.

ثم كانت لي فرصة أخرى لقراءة عمل آخر للمؤلف نفسه . و يتعلق الأمر برواية » النزول إلى البحر « ( 1986 ) التي أكدت لي حضور الأسلوب السردي المفارق الذي يحاول جميل عطية إبراهيم ترسيخه في مجال السرد العربي عامة و المصري خاصة. إنه أسلوب التصوير المتشظي الذي يتمنع عن الانسياق مع أنماط الكتابة المألوفة، ويرفض تماسك الحدوتة و ينبني على الفقرات المتقطعة ، المفصولة عن بعضها ظاهريا، الموصولة فيما بينها بغير حروف العطف. أسلوب يصبو إلى أن يشتت ذهن القارئ و يحفزه على المشاركة في البناء أكثر مما يعمل على دفعه إلى متابعة القراءة في راحة و استرخاء. لكن أعترف بأني قد اكتشفت وراء هذه الرغبة في التشظية و التفتيت وجود عناصر قصة متكاملة لولا أن المؤلف عمل بإلحاح على تشتيتها و نثرها هنا و هناك. و ربما كان هذا الإلحاح سببا في إحساسي بنوع من الفتور في متابعة القراءة.

لم يـكن من الممكن أن أقرأ رواية جميل عطية إبراهيم مـن دون أن أسترجع تلك الأجواء الثـقافية و المقاصد الجمالية غير المألوفة. و تدور رواية » نخلة على الحافة « ( روايات الهلال، أبريل 2002 ) حول شخصية متولي عجورة، و هو شيخ في الثانية و السبعين من عمره، محال على المعاش، يقيم في الجيزة، توفيت زوجته و تركته يعاني أسقاما عدة اضطرته إلى إعداد طعامه بنفسه. و متولي رجل القانون العارف بالتاريخ الحديث، رفاقه من رجال القضاء و كبار الموظفين، و أعمامه و أخواله كلهم من رجال الوفد في ثورة 1919 . يحب قراءة الصحف و تتبع الأخبار و تدوين اليوميات. بل إن له بعض الكتب المؤلفة. و هو طالب قديم جاء من الصعيد الجواني. نجا من الغرق في حادثة كوبري عباس الشهيرة بفضل معرفته السباحة. و في مرحلة الشيخوخة انتابته أكثر من مرة نوبات مرضية حمل على إثرها إلى المستشفى. أما همومه في تلك الفترة فترجع أساسا إلى مسألتين، أولهما تخص علاقته بابنه سليم، و ثانيهما لها صلة بزميله القديم زعيم الطلبة كمال مسيحة.

كان سليم قد تعرف إلى مادلين في كلية الطب و أحبها لكنها اختارت بدلا منه رجل أعمال ثريا أنجبت منه الطفل فتحي، و لما طلقت عاد إليها سليم صاغرا. ثم لم تعرف علاقتهما بعد ذلك استقرارا حقيقيا. و يعود سبب هم الشيخ متولي إلى حزنه على ابنه الذي يأكل مال طليق زوجته المحرم، إضافة إلى إلحاح سليم و مادلين على أن يرافق الشيخ متولي بين الحين و الحين الطفل فتحي في صحبة الشغالة.

أما قصته مع كمال مسيحة فترجع إلى أيام الطلب حينما شاعت حكاية خيانة كمال للقضية بادعاء الجنون فبدأ متولي يدبر لقتله، لكن المعلم عبد الجبار صاحب المقهى كشف نية متولي فصدّه و بدل خفية مسدسه بآخر فانصرف متولي عن ذلك. و بعد عقود من الزمن ربطت الحياة من جديد بين كمال ، و كان معدما، و الشيخ متولي المنخور بالأسقام. و بعد هذا اللقاء سيقدم الشيخ مساعدات جمة لكمال. و لكن في إحدى زيارات كمال لبيت متولي ستقع حادثة قتل غير منتظرة: كان كمال يمسك مسدس متولي فانطلقت منه بالمصادفة رصاصة قتلت الطفل فتحي، و لما عاين متولي ذلك انتحر برصاصة ، ثم انتحر بعده كمال برصاصة أخرى، و قد أكدت الشاهدتان نفيسة وصباح أن كل ذلك القتل لم يكن عمدا. أما نفيسة فهي بائعة خضار قديمة كانت تزور بيت متولي بين الحين و الحين، ثم استطاعت أن تقيم سوبرماركيت من دون أن يفلح الشيخ متولي في إدراك مصدر تمويله، لأن نفيسة كانت مجرد زوجة عتريس بائع الخضار، و جامع قديم للقمامة. أما صباح تركي فهي جارة متولي، تهوى التمثيل و تحلم بأن تصبح نجمة كبيرة. و عندما ستقع لها حادثة مع البهلوان أبو طرطور ستحاول كاذبة استغلالها في الوسطين الفني و الصحافي.
و تنتهي الرواية من دون أن يعرف لا متولي ولا القارئ سر الأفعال الآتية:
- ما سر تلك الوقفة الغريبة لكمال تحت تمثال إبراهيم باشا؟ . هل هي وقفة جنون أم خيانة؟.
- ما حقيقة علاقة المعلم عبد الجبار بكمال مسيحة؟. و هل كان المعلم قد استبدل فعلا بمسدس متولي الحقيقي آخر زائفا؟. لأنه إذا كات قد استبدله حقا لماذا غدا سلاحا قاتلا في نهاية الرواية؟.
- كيف استطاعت نفيسة الفقيرة أن تصبح في رمشة عين صاحبة سوبرماركيت؟.

من البين أن الراوي في عموم الروايات حر في اختيار الأسلوب السردي الذي يود أن يصور به الخبر أو الحدث. و من بين الاختيارات التي غدت مألوفة في السرد المعاصر ذلك الأسلوب الذي يعتمد على المشاهد الفرعية و الحكايات المتفرقة يجعلها تدور حول شخصية واحدة و إن لم تكن ثمة علاقة مباشرة فيما بين المشاهد و الحكايات. أما الاختيار الأسلوبي الآخر فيدفع الراوي منذ البدء إلى أن يبني عمله على حدث رئيس يطوره و يتدرج به إلى أن يوصله إلى درجة التنوير أو التوتر الحاد أو العقدة. و لقد اختار راوي » نخلة على الحافة « الأسلوب الأول حيث جمع في شخصية متولي موضوعات الأمراض و المهنة و كتابة اليوميات و الدراسة و مشاكل السكنى و المعاش و الغناء و الطبخ و الجرائد و الإصلاح الزراعي و الكمبيوتر و المحاكم و الشعر.. ثم قصة حكايات متولي مع كوبري عباس، و مع عائلة ابنه سليم، و مع كمال مسيحة، و مع الفتى بلية، و مع نفيسة و عتريس، و مع صباح تركي، و مع المعلم عبد الجبار، و مع أبو طرطور وما إلى ذلك. بيد أن هذا الاختيار الأسلوبي النابع من الحرية الواسعة في السرد يضع القارئ أمام مجموعة من المظاهر التصويرية التي تظل في حاجة ماسة إلى تعليل حتى يتمكن من الاقتناع بها قصصيا. و حيث إن التعليل يبقى مبهما أو غامضا أو صعب الاهتداء إليه من لدن القارئ؛ تظل الحرية التي يتيحها الاختيار الأسلوبي نفسه التعليلَ الوحيدَ و المحتمل لكل تلك المظاهر التي نذكر منها:

- غياب الحدوتة الرئيسة يجعل القارئ يشرع في قراءة أي فصل جديد من فصول الرواية من دون أن يستطيع الحدس أو المعرفة المسبقة للموضوع الجديد أو الشخصية أو الحكاية التي سيدور حولها السرد لاحقا. إنها طريقة اللاتوقع.

- يتابع القارئ صفحات الرواية من دون أن تتاح له الفرصة ليعلم على وجه التحديد طبيعة العرقلة التي يمكن أن تمثل تحديا حقيقيا لشخصية متولي: هل هي المرض، أم مشاكل الإبن، أم مشكلة كمال، أم مشاكل المهنة و الجيران. قد يقول قائل إن العرقلة هي كل تلك المنغصات مجتمعة، و لكن ألن يكون في مثل ذلك القول نوع من فتح الباب على مصراعيه لإدراج كل شئ داخل النص بحيث تغدو الحبكة الروائية مهددة بالترهل؟.

- قد ينساق الراوي مع موضوع أو شخصية جديدة فينسى الشخصية الرئيسة كما في الفصل الثامن عشر حيث يستطرد وراء حكاية صباح تركي مع أبو طرطور و ينسى متولي نسيانا تاما.

- إن أبرز تلك المظاهر التصويرية الناتجة عن هذا الاختيار الأسلوبي تتجلى في مسألة المصادفات خاصة في خاتمة الرواية عندما يجمع الراوي معظم الشخصيات في بيت متولي ( فتحي – كمال - نفيسة - صباح) ثم يتيح الفرصة لرصاصة طائشة لتقتل الطفل فتحي يتبعها انتحاران غير مبررين. و حتى لو فرضنا جدلا أن الراوي قصد إلى خلق نوع من التمويه عندما جعل مسدس متولي يقتل حقيقة - في حيث سبقت الإشارة إلى أن المعلم عبد الجبار قد استبدله مسدسا مزيفا - يظل مع ذلك أمر الرصاص الطائش محض مصادفة لا تكاد تقنع القارئ بتماسك الوقائع و تدرجها بصورة طبيعية.

ما من شك في أن حال الشيخ متولي عجورة و هو يعيش على حافة الأحـداث و الحياة نفسها شبيه بحال النخلة الوحيدة التي تسمـق هي الأخرى على حافة الـحارة. و كم كان عنوان الرواية دالا على ما بين هذين المخلوقين من أواصر العلاقة. و الحق أن وظيفة الشجرة و رمزيتها باديتان. هكذا تغدو النخلة في بعض الصور الروائية كأنها الشيخ نفسه تشاركه في أداء وظائف سردية لعل أبرزها المشابهة و المفارقة و المقارنة و التوكيد:
» اليوم الاثنين و الناس جياد في سباق، وهو؟
أجاب الأستاذ متولي عجورة مبتسما: كلب سكك.
لا همة ولا أهمية. أعجبه القول وهو يقف على جانب
الترعة تحت نخلة عالية ميتة «( ص 77).
و لن يخفى على قارئ هذه الصورة القصيرة الجمع غير المباشر بين سمتي ضعف الهمة و الموت، في حين تتوكد وظيفة المشابهة في صورة ثانية بصيغة أوضح:
» سـار و عاد ووقف تحت النخلة. نخلة
ميتة وحيدة ، لا تـصد شمسا في الصيف ولا
تحمي من المطر في الشتاء، نخلة بلدي لا تطرح،
عجوز، تلف جدعُها، وسقط جريدها. و يأنس
الأستاذ متولي إلى هـذه النخلة، ولا يقـف في
انتظار التاكسي إلا تحتها، ربما لأنها وحـيدة، أو
لأنها من علامات المنـطقة «(ص 78).
و في مناسبة أخرى نعاين النخلة و هي تقوم بوظيفة إنسانية مؤثرة حينما وقف الشيخ متولي جاهلا مستسلما أمام عوالم الكمبيوتر التي يحذق الطفل فتحي أسرارها أكثر منه بدرجات كبيرة:
» وقف الأستاذ متولي في المحل [ الذي يبيع
آلات الكمبيوتر ] صامتا وهو سيد الكلام. هذه
ليست بضاعته وهذه الأيام ليست أيامه. غمرته
الدهشة. غرق في الصمت يتأمل حـاله طوال
عملية الشراء و الفحص. سرح . رأى نفسـه
نخلة واقفة على حافة الترعة.نخلة مائلة. مـات
ساقها الطويل مـن زمن. نخلة اسودَّ سعفها و
حرقته الشمس. نخلة ميتة جذعها نخرته حشرات.
نخلة سقطت قشرتها و بان لحاؤها. و من جانب آخر
كبر الولد [ فتحي] في نظره أعواما « ( ص 127).

بذلك تصبح النخلة بديلا عن شخصية متولي مثلما يغدو هو بديلا عنها. كل منهما شبيه و توكيد و مفارق للآخر. و قريبا من هذه الوظائف تلك التي نقرأها حينما يربط الراوي بين الشيخ متولي و الطالبة الشابة التي كان ينتظرها تحت النخلة الميتة على حافة الترعة كل صباح ( ص 164).
ولا غرابة بعد كل هذا أن تكون جملة " نخلة على الحافة" عنوانا لهذا العمل الروائي . لكن على الرغم من ذلك لم يشأ الراوي أن يجعل من النخلة فضاء رئيسا مهيمنا في كل ثنايا النص مثلما هيمن عنوان " النزول إلى البحر" في الرواية كلها.

في ثنايا المحن التي يعانيها الشيخ متولي تتراءى كذلك بعض محن الإبداع نفسه. و الحق أن صورة متولي الروائية ليست مجرد صورة شيخ يعاني و لكنها أيضا صورة مبدع محبط أو مشروع كاتب فاشل، أو على الأصح كاتب توقف عن الكتابة. و إذا كانت الرواية تبدأ شعرا و تنتهي بالإشارة إلى الشعر فإن شخصية متولي نفسها تبدو كأنها تستلهم ما في ذلك الشعر من دعوة إلى التشبث بالموت حتى تكتمل بذلك سماتها التكوينية. ولقد بدا لي ذلك الاستلهام كما لو كان دعوة القراء لكي ينظروا إلى متولي باعتباره »لا بطلا« ، أو» بطلا سلبيا «، أو ما إلى ذلك من السمات التي لا تبقيه شخصية روائية مألوفة. إن متولي يعيش شيخوخته على الحافة، و تظهره الرواية كأنه الخاسر في كل عمل جليل أو تافه يباشره. يلازمه الخسران حتى إن استطاع أن يحقق انتصارات في معارك صغيرة ( إخراج أبو طرطور مثلا من قسم الشرطة) . لكن هل استطاع حقا أن يفلح في مجالات الكتابة و المرض و العائلة و إدراك خبايا النفس الإنسانية؟ . في هذا السياق المسؤول أثارني الصدق الكئيب الذي كتبت به الصورة الآتية التي تكشف بدقة عالية جانبا من محن المبدع مع الزمن:

» حياتنا ساعات نهار تلحق بها ساعات ليل. ماكينة
دوارة. من لا يسجل أحداث يومه، و يلتفت إلى ساعـاته
تأكله ماكينة الزمن المندفعة إلى أمام. من لا يسرق لحظات
يقظته، يضيع وقـته، و تختلط أيامه، ولا يفرق بين بدايـة
الأسبوع ونهايته. من لا يعرف قيمة الساعة و نصف النهار،
و يميز بـين شروق الشمس و مـغربها، يصبح نهاره ليلا.
لا ينـام ولا يصحو؟. تـختلط أيامه بلياليه- يصبح جثة
هامدة مهما تحرك « ( ص 55).

في الفصل الثامن، و بعد مرور زمن طويل يعرف متولي أن المسدس الذي كان سيقتل به كمال كان » فشنك « ، أي فاسدا » بدله المعلم عبد الجبار بمسدس صوت من ديكورات الأوبرا« ( ص 93 ) . » و يتذكر متولي حادثة فحصه لمسدسه، و كان قد تركه في حقيبة الكتب في المقهى لمدة ساعتين، و ساورته شكوك بعدها، لكنه لم يفقد ثقته في المعلم. فحص متولي المسدس و اختلط عليه الأمر. ابن المدارس لم يفرق بين السلاح و بين اللعبة[...]. ماذا يقول ولد عمه الذي زوده بالمسدس؟ عار... «( ص 94).
و لم ترد في الرواية أية إشارة إلى أن متولي قد تخلص من هذا المسدس الفاسد لكننا نعثر في ثناياها على إشارات تؤكد وجود مسدس آخر له صلة بحرفة المحاماة التي مارسها متولي حينما قال ذات مرة وهو محال على المعاش:
» و في داخل أرواب المحاماة مسدسه الذي تحصل عليه أثناء سنوات عمله في الإصلاح الزراعي« ( ص 125).
ثم تكثر الإشارات إلى مسدس المهنة ( الصفحات 104-126-165) . وفي صفحة 165 بالذات ترد إشارة دالة:
»تأمل أرواب المحاماة المكوية [...] ورأى مسدسه
ولم يفحصه ، تركه قابعا في موضعه و لم يلمسه « .

بذلك يكون في الرواية مسدسان يمكن أن نسمي أولهما » مسدس ابن العم« و ثانيهما » مسدس المهنة « . ولكن ترد بعد ذلك إشارة أخرى فيها إبهام شديد، و ربما كانت تمثل بيت القصيد في عملية القتل الثلاثي المفاجئة. فحينما زار كمالٌ الشيخَ زيارته الأخيرة أراد متولي أن يعرف » سر تلك الوقفة الغريبة التي كادت أن تصيبه بالجنون و تحوله إلى قاتل « ( ص 169). وفي مقابل ذلك قصد متولي إلى أن يقدم لصديقه السلاح الذي كان سيقتله به : » أداة الجريمة لا تزال في دولابه، يخرج اليوم مسدسه من مكمنه، و يقدمه لكمال مسيحة و يقول له: هذا سلاحي« ( ص 169).

إن عدم فحص المسدس الموجود في الدولاب يمهد الطريق لمتولي لكي يقع في الخطأ . و يظهر أن جميع من كان في بيت متولي في خاتمة الرواية كان متيقنا بأن الأمر يتعلق بالمسدس الفاسد، أي » مسدس ابن العم « . و قبيل وقوع الجريمة أكد كمال لنفسه أن المسدس الذي قدمه له متولي فاسد. لذلك ذكرت الممثلة صباح تركي في شهادتها:
» إن كمال مسيحة قال عدة مرات، وهو يضحك و يلعب
بالمسدس، هذا مسدس صوت من الأوبرا. لزوم التياترو. مسدس
"فيشنك" يا متولي، بدله المعلم عبد الجبار. ثم انطلقت الرصاصة« ( ص 175)

و حتى الشيخ متولي ذكر بصريح العبارة » هذا مسدس ابن عمي« ( ص 182) و مع ذلك يظهر أن الراوي قد قصد إلى الغموض و التعتيم البوليسي قصدا. لذلك انطلى لغز السلاح على وكيل النيابة مثلما انطلى على القارئ . لكن على الرغم من ذلك يمكن أن نستخلص من سياق الإشارات الصغيرة الاحتمالين الآتيين:

- إن الجريمة قد حـدثت لأن متولي كان قد أخطأ في التمييز بين » مسدس المهنة « و »مسدس ابن عمه « . و هذا الاحتمال غير بعيد بدليل الاضطراب الذي وقع فيه متولي في نهاية الرواية حينما لم يعد يثق في زيف مـسدس ابن العم ( ص 182) . كما أن إشارات الرواية تذكر أن » مسدس المهنة « هو الذي كان داخل أرواب المحاماة، أي المسدس الحقيقي. و من المعلوم أن المسدس الذي وقعت به الجريمة كان قد استخرج من بين» أرواب المحاماة «.

- إن الجريمة قد حدثت لأن المعلم عبد الجبار لم يكن استبدل المسدس ربما لأسباب سياسية غامضة، أو لأنه كان ينحاز في العمق إلى الاختيار الذي أراده الطالب متولي بقتل كمال.

و مع كلا الاحتمالين تظل النهاية البوليسية قائمة و مفتوحة. لكني أمضي بعيدا لأتساءل: هل كانت مثل هذه النهاية ضرورية و مناسبة لشخصية مهووسة بالأسئلة الوجودية الكبرى؟ ثم هل هي نهاية تنسجم مع التكوين الجمالي للرواية؟
أعترف بأن هذه النهاية لم تقنعني مثلما لم تقنعني نهاية مماثلة جعل فيها لويجي بيرنديللو صبيا يقتل نفسه بمسدس كان يلهو به. إنها نهاية مسرحيته الخالدة » ست شخصيات تبحث عن مؤلف « التي لم تنسجم فيها هي الأخرى كتلة الأسئلة الفلسفية العميقة التي سادت في معظم المسرحية و النهاية المفتعلة.

لست أدري من أين تسرب إليَّ حب الحبكة المتماسكة و الحدوتة القصصية الواضحة المعالم. ربما تم ذلك في مدارسنا الثانوية على يد أساتذة أجلاء كان منهم أعضاء البعثة التعليمية المصرية في الستينات. تَمَّ ذلك قبل أن نتعرف إلى تجارب صنع الله إبراهيم و محمد حافظ رجب و محـمد مبروك و إبراهيم أصلان . لكن على الرغم من ذلك يلزمني أن أكون ديموقراطيا و أنا أقرأ روايـة » نخلة عـلى الحافة « فأقرّ طـبقا لذلك بأن جمـاليات » اللاطـبيعي « و » اللامتوقع« و » المصادفة « كانت اختيارات أسلوبية نابعة من قناعات كاتبها. لقد كان جميل عطية إبراهيم حرا في اختياره الأسلوبي. أما أنا بوصفي قارئا فقد اكتفيت بالإعراب عن المواقف التي أقنعتني في الرواية و تلك التي لم تقنعني. إنني حرٌّ في هذا المضمار مثلما المؤلف حر في مضماره. .
 

*- قاص و باحث من المغرب.
1 - المجلة ، ع 150، يونيو 1969.