الخطاب الواقعي في "خفايا الزّمان" لبوراوي عجينة1*

تمهيد

تطوّرت النّظرة إلى علاقة الأدب بالواقع. وأصبح اليوم من العسير التّسليم بأنّ الأدب يحاكي الواقع[2] أو يعكسه[3]. وقد نسفت النّتائج المحرزة خاصّة في ميدان البحث اللّسانيّ الأساس الذي قام عليه مفهوما المحاكاة والانعكاس. ونعني به القول إنّ اللّغة قادرة على نسخ الواقع والتّعبير عنه وعاجزة في الآن ذاته عن خلقه[4]. فاللّغة، في الدّراسات اللّسانيّة، لا تنسخ العالم ولا تحاكيه وإنّما هي تحاكي نفسها وبعض عناصر الطّبيعة كالأصوات مثلا[5]. وإذا كان القول بالمحاكاة والانعكاس يُهمل دور اللّغة الأساسيّ في الأدب فإنّ الفصل بين الواقع والأدب فصلا حادّا قد لا يخلو من مبالغة. فالواقع في الأدب يستحيل كما يقول "كلود دوشاي" (Claude Duchet) نصّا وتصبح مظاهره من أشخاص ومدن ومؤسّسات ووقائع ومشاهد طبيعيّة علامات وإشارات وتظلّ، مع ذلك، مُخبِرة عن نفسها وعن الواقع الذي إليه تُشير[6]. وبذلك يصبح الحديث عن مشاكلة الأدب الواقعَ ممكنا وعن إيهامه به جائزا ويصبح التّساؤل عن الكيفيّة التي بها يوهم الأدب أنّه ينسخ الواقع مشروعا.
ولقد تنافست مذاهب أدبيّة كثيرة حول أحقّية تمثيل الواقع. ولكنّ اسمه لم يقترن إلاّ بتيّار فنّيّ[7] ما فتئ يتطوّر منذ ظهوره إلى اليوم هو التّيّار الواقعيّ. وليست التّسمية سوى مجاز وليست "الواقعيّة"، وهو ما يدركه أنصارها كتّابا[8] ونقّادا[9]، سوى خطاب أدبيّ حول الواقع له خصائص بها يُعرف ويتميّز قد تتوفّر جميعها في نصّ وقد لا يتوفّر سوى بعضها في غيره.
وقد اخترنا "خفايا الزّمان"، خامس مجموعات بوراوي عجينة القصصيّة[10]، للتّعرّف إلى الأساليب الفنّيّة المستخدمة فيها لإدراج "الواقع" في النّصّ التّخييليّ ولاستكشاف طرائق تمثيله أو تصويره. ويعود اختيارنا هذه المجموعة إلى ما لاحظناه في جلّ أقاصيصها من طغيان الخطاب الواقعيّ الذي ضبطت مقوّماته الدّراسات النّظريّة والتّطبيقيّة التي أمكننا الاطّلاع عليها. وقد حتّمت علينا الزّاوية التي نظرنا منها إلى المجموعة استبعاد أقصوصتين[11] بدتا لنا رمزيّتين وبدا لنا الواقع فيهما مجرّد مطيّة، وإقصاء خمسة نصوص لا تنتمي في رأينا إلى جنس الأقصوصة رغم اندراجها في باب السّرد. فمنها ما هو إلى المقامة[12] ينتمي ومنها ما هو إلى القصّة المثليّة ينتسب[13] ومنها ما هو بالحكاية الخرافيّة ألصق[14]. أمّا آخرها[15] فإلى الخطاب على الخطاب[16]  أقرب إذ هو نصّ على نصوص الكاتب قديمها والجديد. وفيه يروي المؤلّف الكائن التّاريخيّ تجربته في الكتابة والنّشر ويعبّر عن آراء في فنّ القصّ وأخرى في أقاصيصه. وقد وفّرت لنا سائر النّصوص مادّة سمحت لنا بالوقوف على أهمّ الأساليب التي توسّل بها الكاتب إلى تمثيل "الواقع".
إنّ الطّموح إلى محاكاة الواقع وتمثيله تمثيلا "أمينا" يستدعي استخدام جملة من الأساليب المخصوصة. وهي أساليب مشتركة بين الكتّاب الواقعيّين رغم أنّ أشكال حضورها في نصوصهم ونسبه تختلف باختلاف الكتّاب والنّصوص. وقد أتاح لنا استقراؤنا الأقاصيصَ الواقعيّةَ في "خفايا الزّمان" استخلاص مجموعة من الخصائص رتّبناها حسب درجة حضورها في النّصوص.

1- ترسيخ القصّة في الواقع أو تجذ يرها فيه

يعدّ ترسيخ القصّة في الواقع من أهمّ خصائص جنس الأقصوصة[17]. وتدرك هذه الخاصّية في ثلاثة مستويات من مجموعة "خفايا الزّمان": مستوى المكان ومستوى الزّمان ومستوى الشّخصيّات.
فقد أجرى الكاتب وقائع أقاصيصه في عوالم بشريّة محتملة وعدّد الإشارات إلى الأماكن والأزمنة المرجعيّة[18]. وعهد بالبطولة إلى شخصيات لها بالواقع الخارجيّ متين صلات. وجعلها تتحرّك في فضاءات اجتماعيّة وسياسيّة وحضاريّة يشدّها إلى خارج النّصّ وثيق علاقات.
فأقصوصة "عطر من بلاد الشّمال" مثلا تدور أحداثها في مدينة يسهل التّعرّف إليها بفضل الإشارات التي تعيّنها. فهي مدينة ساحليّة صغيرة ضارب معمارها في العراقة والحداثة في آن معا. لها من الماضي معالم لا تزال تقارع الزّمن وتتحدّاه كالمتحف الأثريّ والأسواق ذات الأزقّة المتعرّجة والرّباط الذي تطلّ منارته على الميناء والبناءات والحقول (ص6). ولها إلى الحاضر انتماء يشهد عليه المقهى الجديد الأنيق والمطعم الهادئ والنّوادي اللّيليّة (ص6).
وفي أقصوصة "رياح الزّمان" يطغى المكان المرجعيّ بشكل لافت للنّظر إذ يعسر أن يخطئه من يعرف السّاحل التّونسيّ وتحديدا "جوهرته" وبعضا من معالمها المميّزة كمحطّة سيّارات الأجرة المحاذية للسّور الشّماليّ (ص89) والرّباط ومنارته والمعهد الكبير ومركز البريد ومندوبيّة التّجهيز المجاورة جميعها لمحطّة القطار (ص90) ومعهد الفتيات والمعهد الفنّيّ (ص92) المجاوريْن للشّارع المنحدر إلى وسط المدينة (ص92) و"تمثال النّقابيّ الشّهيد الذي توسّط المدينة يحرسها" (ص96).
لقد أدّت هذه الأماكن وظائف قصصيّة متعدّدة اختلفت من أقصوصة إلى أخرى. إلاّ أنّها اشتركت جميعها في ترسيخ القصّة في الواقع وفي الإيهام بواقعيّة الأحداث المرويّة. فالمكان "هو الذي يضع أسّ القصّة لأنّ الحدث يحتاج إلى المكان حاجته إلى الشّخصيّة والزّمان. إنّ المكان هو الذي يكسب القصّة المتخيّلة مظهر الحقيقة"[19].
وقد أدّت الأشياء التي تؤثّث الأمكنة، ما اتّسع منها وما ضاق، الدّور ذاته وإن لم تكتف به. فكلّها أشياء ليست غريبة عن البشر ولا عن حياتهم. ففي الأقاصيص حرص على المطابقة بين الأماكن وما يعمرها من أشياء وفقا لما هي عليه الحال في الواقع المرجعيّ. فلا نجد في غرفة نوم مثلا ما يوجد، في الحياة اليوميّة، في مطبخ. ولم تؤثّث عيادة الطّبيب بما به يؤثّث عادة مكان معدّ للسّكن فقط. من ذلك أثاث شقّة الطّلبة: "غرفة واسعة بها أسرّة وطاولات وبعض أثاث قديم [...] ملاحف الأسرّة مكوّمة والكراسي قلقة في أماكنها وهناك بعيدا [...] أدوات أكل وصحون مبعثرة مكدّسة بعضها فوق بعض عليها بقايا طعام" (ص18) أو أثاث عيادة الطّبيب: "كان المكتب الذي يقف فيه الطّبيب الأخصّائيّ [...] واسعا رصّفت على رفوفه كتب ومجلاّت طبّيّة. وفي خزانة صغيرة وعلى سطح الطّاولة تبعثرت علب دواء ونماذج من أدوية أخرى حديثة وأدوات طبّيّة" (ص115).
هذا "الشّغف بالعالم الخارجيّ"[20]، أمكنته وناسه وأشيائه، تتمّ تلبيته غالبا عن طريق النّظر. فالكاتب يفوّض في أغلب الأحيان[21] شأن الرّؤية إلى الشّخصيّة المحوريّة ويخلق وضعيّات تُحلّ هذه الشّخصيّة موقعا مناسبا للرّؤية والوصف. فبطل "آلام مبرّحة" قاده مرضه إلى عيادة الطّبيب فيسّر عليه عمليّة وصفها. والفتى الرّيفيّ في "عطر من بلاد الشّمال" ما كان ليعرف ما يدور داخل الملهى لو لم يدخله مع المرأة الإسكندنافيّة. وفي "ثمن القفّة" ما كان ليتيسّر للخادم رؤية ما يؤثّث شقّة الطّلبة لو لم تدخلها بسبب حاجتها إلى مال به تعيل أسرتها.
وقد عمد رواة الأقاصيص المذكورة، على غرار نظرائهم في القصّ الواقعيّ[22]، إلى استخدام عبارات مخصوصة[23] لإدراج الوصف في السّرد وملء الثّغرة بينهما. وهي عبارات توهم بواقعيّة ما تدركه الشّخصيّة الرّائيّة. ومنها: "أخذ يتأمّل مذهولا..."(ص5) و"أجالت بصرها وأنفها [...] وهناك بعيدا لاحت لها [...] لاحت لها في أحد أرجاء المطبخ..." (ص18) و"تناهت إلى مسامعه [...] لمح تقاسيم وجهها [...] تناهت إليه ترنيماتها..." (ص73) و"تأمّلتُ المشهد العامّ فإذا شاحنة أمن [...] نظرت إلى إحدى النّوافذ [...] فلاح لي [...] كنست المكان بنظراتي..." (ص90).
ساهم المكان والأشياء والرّائي بما هي عناصر بنائيّة فنّيّة في تأكيد العلاقة بين النّصوص والواقع الذي إليه تحيل. وقد عاضدها في هذا الدّور الزّمن المرجعيّ. وهو، وإن لم يُذكر في جلّ الأقاصيص صراحة، حاضر لا تكاد تخطئه العين. فهو زمن السّيدا عطرا يتضوّع من بلاد الشّمال وزمن الحرب ضدّ العراق غضبا يتفجّر في الشّوارع فتحمله "رياح الزّمان" خبرا للاحق الأجيال عن عضو أنّ فقامت له جلّ الأعضاء بالسّهر والحمّى. وهو زمن تُدين فيه البريءَ لحيةٌ فلا يجد إلاّ قارورة الخمر منافحا ومدافعا. وهو زمن الملتحين يدعون في أقصوصة "على جدار مقبرة" إلى "إيقاظ النّاس وإلى إزالة بناء قائم وبعث بناء عتيق".
ليس الزّمان في "خفايا الزّمان" أسطوريّا ولا خرافيّا ولا ملحميّا إنّما هو زماننا، زمن الكتابة وما قبله بقليل يُدرجه السّرد في الأقاصيص فتُقضى به مآرب منها تأكيد انتماء هذه الأقاصيص إلى واقع تاريخيّ واجتماعيّ محدّد وتأكيد رغبة صانعها في رصد حركة التّاريخ وفي التّأثير إيجابا في مجريات الأحداث.
ولمّا كانت الأشياء والمكان والزّمان شبيهة بأشياء البشر ومكانهم وزمانهم كان بين الشّخصيّات القصصيّة وبشر المرجع وشائج. التقت هذه الشّخصيّات مرّة وافترقت مرارا. جمعها العراق الجريح في "رياح الزّمان" فأنساها فوارق السّنّ والجنس والطّبقة والمعرفة. تقول الشّخصيّة الرّاوية: "رأيت حولي أطفالا ونساء وفتيات وعاملات وموظّفين يلبسون ملابس أنيقة ومعاطف ثمينة وبدلات زرقاء. تداخلت روائح العطور المستوردة وعرق الأجساد الملتهبة. امتزجت الشّعور المجعّدة والشّعور المعطّرة المرسلة. تصافحت الوجوه السّمراء والبشرات الورديّة البيضاء. التقى المتعلّمون والأمّيّون تحت سماء المدينة كبارا وصغارا" (ص94).
آلفت لحظة الغضب بين المتناقضات. ولكنّ هذا التّآلف لم يعمّر أكثر من لحظة الانفعال الذي ولّده. فالنّاس في الأقاصيص، كما في الواقع، طبقات. ولهم في الهرم الاجتماعيّ مواقع ومراتب. وقد صمتت النّصوص، باستثناء "رياح الزّمان" صمتا دالاّ عمّن هم في أعلى الهرم. واهتمّت بمن هم دونهم كالفتى الرّيفيّ وحارس المصنع والطّالب والخادم والموظّف الصّغير والمجرم وربّة البيت وعامل المخبزة وعازفة البيانو المحترفة. وكلّ هذه الشّخصيّات "شخصيّات مرجعيّة تحيل على معنى كثيف وثابت قصرته ثقافة ما بصفة نهائيّة على أدوار وبرامج يرتبط وضوحها مباشرة بمدى مساهمة القارئ في هذه الثّقافة"[24]..
وهذه الشّخصيّات تتحرّك في محيطها لا تغادره[25]. وهي، باستثناء عازفة البيانو[26] بائسة، محرومة، مكدودة. يبهظها وضعها الاجتماعيّ وتنوء بأعباء الوضع السّياسيّ، تقاوم بالحلم[27] أو اكتساح الشّوارع[28] حينا وتستكين أحيانا. فتضيع في زحمة الحياة محرومة حتّى من الاسم العلم. وإذا كان هذا الضّرب من الأسماء يحدّد في واقع البشر الفرد تحديدا عرفيّا اجتماعيّا فيميّزه من غيره من بني جنسه فهو في النّصوص السّرديّة التّخييليّة علامة من علامات المرجع فيها وأداة فنّيّة تتيح توليد المعنى وتعدّد القراءة بفضل ما يرتبط به عادة من معان حافّة تختلف باختلاف المجتمعات والثّقافات.
ورغم هذه الأهمّيّة، فالشّخصيّات في "خفايا الزّمان" ضمائر نحويّة أي معارف في مرتبة النّكرات[29] بل هي ليست في حاجة إلى أسماء بها تُعرف وتختلف. فأغلبها يكابد الوحدة والعزلة. وإذا ما أجبرتها الظّروف على التّعامل مع الآخر فصفتها تُغني عن اسمها. فالموظّف في عيادة الطّبيب ليس سوى مريض لا يُميّزه من غيره اسمُه بل طبيعة مرضه. والمرأة في شقّة الطّلبة جسد يُمتهن مرّتين بسبب قلّة ذات اليد وجوع الجسد وخواء القلب. والفتى الرّيفيّ جسد حارّ يذيب صقيع أقاصي الشّمال. والرّأس الملتحي في "على جدار مقبرة" قد يُضلّ اسمه ولكنّ لحيته علامة لا تخيب. فهي الاسم والهويّة والتّهمة والحُكم.
خالف الرّواة، في الظّاهر، الواقعَ حين جرّدوا الشّخصيّات من أسمائها. ولكنّهم حين فعلوا ذلك جاءت شخصيّاتهم أكثر واقعيّة وجاء الواقع فيها أكثر حضورا. فما تنكير شخصيّات القصّ إلاّ من غربة أفراد المجتمع وضياعهم وانسحاقهم في واقع يقاومونه فيعجزهم فيفقدون بعض ما يكون به الإنسان إنسانا.
رُسمت الأمكنة والأشياء والشّخصيّات وحدّدت ملامح الزّمان فنطقت جميعها بالمرجع الكائن خارج النّصّ ومثّلته. ولكنّ هذا المقصد قد لا يتحقّق في غياب بعض العناصر التي تيسّر عمليّة التّواصل بين الرّاوي والمرويّ له.

2- الشّفافيّة والوضوح

يسعى الخطاب الواقعيّ دوما إلى الشّفافيّة وانتقال المعارف. وفي سبيل ذلك يحاول أن ينزع التّفاوت بين ظاهر الأشياء والشّخصيّات وباطنها إلى الصّفر[30]. وهو يتجنّب ما يوجَد منها دون أن يظهر كالكائنات الللاّمرئيّة والكائنات الغامضة والقوى الخفيّة والكنوز المخفيّة[31].
 وفعلا فالأشياء في الأقاصيص حاضرة مرئيّة وتستخدم فيها استخدامها في المرجع كأن تستعمل الحافلة للتّنقّل والكأس للشّرب والسّرير للنّوم والتّلفاز للفرجة والتّسلية. وقد يحدث أن يُستخدم شيء لغير ما وُضِع له أصلا. إلاّ أنّ هذا الاستخدام الجديد لا ينبتّ عن الأوّل ولا ينفصل كأن تصبح مشاهد الإشهار في التّلفزة مولّدة للخيال والحلم وفاتحة لمسلك سرد يفضي إلى العجيب مثلما حدث في أقصوصة "الشّيخ والحسناء".
أمّا الشّخصيات فغالبا ما طابق مظهرها مخبرها. وكثيرا ما كشف الأوّل الثّاني عن طريق الملمح أو النّبرة أو القول أو الحركة مثلما هو الشّأن بالنّسبة إلى الطّالب الأعمى والمرأة الخادم في "ثمن القفّة". فقد كشفت أقوالهما وأفعالهما جوعا جنسيّا ناهشا وحدّدت سلفا مآل العلاقة بينهما مثلما يبيّنه هذا الشّاهد:
"أيقظها الشّاب المكفوف من غفوتها الحالمة سائلا:
-هل أنت متزوّجة ؟
أزاحت يدها عن راحته بانفعال وقالت هامسة كأنّها تعتذر: إنّني على أبواب طلاق" (ص19).
ولكنّ الشّخصيّة قد تخفي نواياها. فتظهر ما لا تبطن مثلما فعلت السّائحة مع الفتى الرّيفيّ في "عطر من بلاد الشّمال". فقد قنصته بحركتها: "أخذت- وهي ترنو إليه بطرف عين- من حقيبتها اليدويّة علبة سجائر[...] وأخرجت منها واحدة. فرشقتها بين أسنانها وظلّت تنتظر..."(ص5). وصادته بلباسها وتحديدا بما يكشفه من جسمها: "ضاع الفتى في فتحة عريضة من صدرها، تدلّى من جانبيها ثديان كبيران كقربتي ماء أطلّ منه لحم بضّ..." (ص5). فعلت ذلك فبدت عطشة إلى الجنس، متكالبة عليه. فطابقت صورتها صورة المرأة الغربيّة في نظر العربيّ لا في الواقع فحسب وإنّما أيضا في الكتابات القصصيّة. إلاّ أنّ صانع هذه المرأة المصابة بداء السّيدا شاء أن يكون لها وجه غير الذي أظهرت وأراد أن تكون رمزا لشمال زاحف على جنوب جائع. يُغريه فيوقعه ويقع عليه فيُفنيه.
ورغم أنّ الفكرة ليست جديدة وأنّ الرّمز في الأقصوصة واضح فقد زُوّد القارئ بما به يكون قادرا على أن يزيل الغموض الذي قد يُشوّش القراءة فيعطّل التّواصل فلا تبلغ الرّسالة. فقد أوكل الكاتب[32] إلى العنوان " عطر من بلاد الشّمال" وظيفة توضيح المتن وإكساب الخطاب فيه شفافية تضمن التّواصل السّريع المحبّب إلى نفوس الكتّاب الواقعيّين، هؤلاء الكتّاب الذين يبذلون "جهدا طوبائيّا لتكون المفردات والوحدات التي يعالجها السّرد أحاديّة المعنى"[33].
وإنّا لنلاحظ في "خفايا الزّمان" احتفاء باللّغة مفردات وتراكيب وصورا من ذلك قول راوي " عطر من بلاد الشّمال": "تعانق الجسدان، تقاربا، انصهرا كائنا واحدا، سكب الفتى على نيران شهوتها مياهه الزّلال، وأطفأت هي في لحظة واحدة ما كان يستعر بداخلها" (ص7) وقول راوي "الموت على حدّ النّصل": "ثمّ تسارعت غمزات أناملها [عازفة البيانو] خفيفة رشيقة [...] وتمازجت النّغمات الرّّّّّّقيقة الهامسة والأنغام القويّة الصّاخبة تداخلت... تشابكت... تدافعت... تعانقت... تصاعدت إلى قمم الغضب وذرى الصّخب ولامست حرائق الثّورة [...] (ص39).
فاللّغة، تماما كما في القصّ الواقعيّ[34]، مجازيّة استعاريّة. ولكن بشكل لا يثير مشاكل فهم كبيرة ولا يهدّد خاصّيتي الشّفافيّة والوضوح.  وقد نزعت أحيانا إلى أن تكون ذات معنى وحيد لا تتجاوزه. وذلك خاصّة في الأقاصيص ذات الطّابع السّياسيّ. ومنها الأقصوصة التّسجيليّة "رياح الزّمان" التي يكاد راويها يحيل إلى امرأة بعينها في قوله: "تلفّعت راقصة شعبيّة متقاعدة دميمة براية فريق المدينة الشّهير لكرة القدم وهي كاشفة عن أسنان بعضها مسوّس وبعضها الآخر معدنيّ" (ص95).
وسواء شفّت الألفاظ كثيرا أو كثفت قليلا فالرّواة لا يعدمون الأساليب التي توضّح الخطاب وتؤطّر التّقبّل وتهديه كأن يُزَوَّد المتلقّي في مواطن متعدّدة من الأقصوصة بما يجعل لاحق الأحداث متوقّعا والنّهاية غالبا منتظرة.
ففي "الموت على حدّ النّصل" يُدمج الخطاب القصصيّ المتلقّي مباشرة في الأحداث ويخلق لديه حالة من التّوتّر والانتظار المشوب بالقلق والتّوجّس وتعاطفا مع البطلة المحبّة للحياة والتي يتربّص بها الموت في المكان الذي لا تنتظره فيه: "بينما شرع يسوّي موساه الجديدة متهيّئا لخلع صندوق مصوغها المزركش، في أوّل يوم بعد خروجه من السّجن، إذ دلفت هي إلى شقّتها الصّغيرة الأنيقة مترنّمة جذلى" (ص37). وينمو القصّ موهما بتفاقم الخطر وبقرب انتصار الموت على الحياة: "وأخذ يلهو بين الحين والحين بموسى "بوسعادة" [...] متوتّر الأطراف، مترقّبا اللّحظة الحاسمة للوثوب عليها وكتم أنفاسها" (ص38). ولكنّ المتلقّي لا يفاجأ حين يقول له الرّاوي مختتما الأقصوصة: "لمّا أدرك البون الشّاسع بين حقارة فعلته المحتملة ونفاسة كنوزها ضغط على موساه وأعاد نصلها إلى الغمد مضطرب الحركات لاعنا عجزه وقد تلاشت نقمته. ثمّ تسلّل بخطى صامتة مبارحا شقّتها" (ص40).
وهو لا يفاجأ لأنّ الرّاوي عدّد الإشارات الممهّدة للنّهاية[35] المُطَمْئنة. فجعل المجرم يتردّد في اللّحظة التي كان عليه أن ينقضّ فيها على ضحيّته: "لأنتظرها قليلا قبل أن أجمع ما أجمع وأبارح المكان !" (ص37). وهذا الانتظار وذاك التّردّد هما اللّذان خلقا بداية لحظة التّحوّل الحاسم: "ثمّ بدأت نفسه النّاقمة على البشر والقدر والدّنيا جميعا تهدأ شيئا فشيئا وترتاح من عناء سنوات القهر. وتباعدت صور السّرقات وقطع السّبل [...] فذاب شوقا وحنانا" (ص39). وذاب توتّر المتلقّي وقفزت إلى ذاكرة بعض القرّاء أقصوصة "الرّكن النّيّر" لعلي الدّوعاجي[36] فأيقن بحسن مآله ومآل المرأة والمجرم جميعا.
وللعنوان، هذا "الموطن الاستراتيجيّ"[37]، كبير دور لا في الإنباء بنهاية الأقصوصة فحسب بل كذلك في وضوح الخطاب وشفافيته. فقد جاء في جلّ الأقاصيص مكثّفا معنى المتن وخالقا آفاق انتظار لا تخيب غالبا. ولعلّ العنوان الوحيد الذي يطرح إشكالا هو "ثمن القفّة" لأنّه، خلافا لسائر العناوين، لا ينطبق على كامل الأقصوصة علاوة على أنّه يتناقض مع قسم مهمّ منها.
فالمرأة التي خرجت، حسب قولها، لأوّل مرّة من بيتها إلى بيت غرباء لتزيل غبارا غير غبار بيتها وتطبخ طعاما لغير أهلها وتغسل ثيابا ليست لأبنائها شجّعت الطّالب على مغازلتها وسعت إلى أن يكون بينهما ما كان دون أن يتبادر إلى ذهنها أنّها تبيع جسدها. والشّواهد على ذلك عديدة. ومنها قول الرّاوي: "تركته يحاور أنوثتها الغافية دون أن تبدي حراكا. دغدغتها أنفاسه الحارّة قرب وجهها. ضاعت الكلمات وغارت في أعماق صدرها لم تقدر على إخراجها لصدّه أو معاتبته وظلّت مع ذلك قدماها مسمّرتين على الأرض لا تقدران على الفرار بها أو حتّى الخطو. وبعد فليكن ما يكون !" (ص21-22). وليست عبارة "فليكن ما يكون !" من خطاب الرّاوي وحده وإنّما هي من خطاب الشّخصيّة المنقول في الأسلوب غير المباشر الحرّ[38]. وتنهض نقطة التّعجّب والسّياق دليلين على نسبتها "الأصليّة" إلى المرأة التي أقبلت، وهي المتزوّجة، على تجربة الجنس لا بسبب الحاجة إلى المال وإنّما لأنّ الشّابّ حاور "أنوثتها الغافية" وداعب أغصان بستانها التي لم تفقد نضارتها بعد (ص23).
تتظافر العوامل الموضّحة للخطاب إذن وتغيب المفاجآت الحادّة في جلّ الأقاصيص وينمو السّرد من بداية معلومة إلى نهاية متوقّعة غالبا بلا تعرّج ولا قفز غير محسوب محترما غالبا التّسلسل الزّمنيّ للأحداث. فلا استرجاع إلاّ لما اقتضته ضرورة فنّية ملحّة ولا توقّف في الأغلب إلاّ عند ما كان من الوقائع للنّهاية خادما وما كان منها للمقاصد مجلّيا. وعلى هذا النّحو تُبنى عوالم الأقاصيص لبنة لبنة ويتشكّل معمارها ملمحا ملمحا ولا حَكَم غالبا غير قوانين "الواقع" وقواعد القصّ. فيتماسك السّرد ويتناسق ويزداد الخطاب شفافية ووضوحا وتُؤطّر القراءة وتُوجّه للنّفاذ إلى معنى الأقصوصة الذي هو، كما في النّصوص الواقعيّة[39]، واحد ماثل في النّصّ وما على القارئ إلاّ الاستعانة بمختلف الأساليب المتقدّمة لكشفه ورفع الغطاء عنه. وبذلك تبلغ الرّسالة جليّة واضحة. والحديث عن الرّسالة يقود إلى الذّات المرسلة والعلامات النّصّية المحيلة إليها وإلى مقاصدها.

3- حضور الذّات الرّاوية

تُحدّ المحاكاة بكثافة الأخبار وفي الآن ذاته بغياب المُخبر أو حضوره حضورا متقلّصا جدّا[40]. فتطغى حركة سرديّة ينسى معها المتقبّل أنّ الرّاوي هو الذي يروي[41] هي المشهد[42]. ففي السّرد الطّامح إلى محاكاة الواقع يختفي الرّاوي. ولكنّ بصماته تظلّ شاهدة عليه ومحيلة إليه. ومن هذه البصمات ضمير السّرد[43] ودرجة العلم بالأحداث المرويّة والصّور البلاغيّة والتّّلاعب بزمن الوقائع والتّعليق وإطلاق الأحكام.
إلاّ أنّّّ ما يلفت النّظر في أقاصيص "خفايا الزّمان" الواقعيّة جمعها بين كثافة الأخبار وكثافة حضور المُخبر[44]. فالأحداث, كما في القصص الواقعيّ الغربيّ[45], غزيرة والوقفات الوصفيّة تكاد تكون رغم توفّر الوصف منعدمة ومواطن الحوار المنطوق قليلة واستبطان الشّخصيات حتّى في الأقاصيص ذات البعد النّفسيّ الواضح[46] لا يُعطّّل السّرد ولا يُُثقله إذ النّفوس تُرسم أساسا من خلال الأفعال والأقوال. ولكنّ السّرد جاء ذاتيّا كاشفا الموقع الذي منه تنظر الذّات الرّاوية إلى العالم الممثّل سواء أكان السّرد بضمير المتكلّم أم بضمير الغائب.
ففي الأقاصيص بضمير المتكلّم تنقل شخصية مشاركة الوقائعَ من وجهة نظرها الخاصّة التي لا تظهر في طرائق تمثيل الواقع الفنّيّة فحسب وإنّما تظهر أيضا في الخطاب الصّريح المباشر. ففي "باقة أغان" لا يُخفي الرّاوي إعجابه بالمشهد الذي ينقل. وهو إعجاب يظهر من خلال السّلوك: "جلستُ على مقعد مرهفا السّمع ناظرا بعين المحبّة" (ص121) والوصف التّعبيريّ: "تصاعدت نغمات الآلات وآهات وأغنيات قديمة ليّنة كالحرير، مزخرفة كحواشي ثوب ثمين، رائقة كماء السّلسبيل" (ص121) ومن خلال الإصداع بالموقف: "حدّقت مليّا وأرهفت السّمع غير مصدّق ما يحدث أمامي. أما زال يوجد اليوم من يؤمن بالفنّ الخالص ويهواه إلى حدّ التّماهي والانصهار ؟" (ص121).
وفي "رياح الزّمان" يجهر الرّاوي في أكثر من موطن بموقفه. من ذلك قوله معلّقا على نبإ الهجوم على العراق: "يا لهول الخبر في هذا الصّباح الشّتائيّ المشؤوم ! ويا لهول الفاجـعة ! [...] أجهشت ببكاء متقطّع، هزيمة أخرى تصيب العرب مثل هزيمة حزيران ! [...] إنّها كارثة كبرى ! بكيت وبكيت... سالت منّي دموع محرقة على الـوجه والصّدر وفاضت..." (ص86).
أمّا في "هوس النّظافة" فالخطاب الذّاتي أظهر بما أنّ البطلة تروي قصّتها مع النّظافة وتدفع، في الآن ذاته، عن نفسها تهمة الولع بالنّظافة حدّ المرض. ورغم أنّ السّرد كان بضمير المتكلّم المفرد الظّاهر من أوّل متن الأقصوصة إلى آخره فإنّ الكاتب لم يعدم موطنا يعبّر فيه عن موقفه من المرأة. فقد جاء العنوان "هوس النّظافة" ردّا على هذه المرأة التي لم تتحدّث إلاّ عن عنايتها بالنّظافة (ص106). وهو ردّ يُقحم الكاتب في الحكاية ويضعه مع الطّرف المناهض للمرأة "الزّوج والأبناء والخادمة والأقرباء" (ص106).
أمّا في الأقاصيص المرويّة بضمير الغائب فقد تنوّعت أشكال حضور الرّاوي وعلامات انحيازه. ويظهر ذلك في انتقاء الأحداث وأمكنتها وفي اختيار الشّخصيات المحوريّة وتصوير معاناتها وفي دمجه صوته أحيانا في صوتها من خلال استخدام الأسلوب غير المباشر الحرّ الذي عدّ لحظة ظهوره في القصّ الغربيّ علامة حداثة سرديّة. يقول راوي "الشّيخ والحسناء": "لا تراها [الزّوجة] العين إلاّ منحنية الظّهر [...] لا تصلح من شأنها إلاّ قبيل الخروج من البيت لقضاء بعض الشؤون. شتّان بين هؤلاء الشّابّات المتعطّرات وتلك الكهلة المتصبّبة عرقا الآن في أحد دروب المدينة* " (ص11).
ولعلّ أبرز أشكال حضور الذّات الرّاوية وانحيازها تسخيرُ المتخيّل لخدمة الأطروحة التي تُعدّ النّهاية الموطن المفضّل لظهورها. ولكنّ ظهورها في هذا الموقع الاستراتيجيّ يجب ألاّ يحجب عنّا حقيقة أنّها مولّدة السّرد الفعليّة وأنّ كلّ العناصر القصصيّة تُسخّر لتجليتها وإقناع المتلقّي بها في مرحلة أولى وحمله على العمل وفقها في مرحلة ثانية[47].
وفعلا فلا تخلو أقصوصة من أقاصيص "خفايا الزّمان" الواقعيّة من أطروحة. وهذه الأطروحة تختلف باختلاف مضمون الأقصوصة. ويمكن حصرها في مجالات المجتمع والسّياسة والفنّ. وقد حدّد هذا الاختيارُ التّخييل. فانتقيَت الشّخصيات الفقيرة المسحوقة للاحتجاج لفكرة العدالة الاجتماعيّة والشّخصيات المنشغلة بالفنّ لإبراز قيمته في حياة الإنسان وأهمّيته في ترويضه وتطهير نفسه.
لقد حتّمت أولويّة الأطروحة ألاّ يقتل المجرم، حتّى لو أراد، عازفة البيانو وأن يرافق الفتى الرّيفيّ السّائحة الإسكندنافية يوما كاملا وإن كان لا يفهم "إلاّ بعض أشلاء" (ص6) من لغتها لم تكفه لإدراك معنى عبارة شكر. فالنّصّ الأدبيّ يخضع الواقع لمتطلّباته[48] فيكشف في الآن ذاته جانبا من لعبة الإيهام بالواقع. ولكنّ النّصّ قد يوقعه صانعه في ورطة لا خلاص له منها مثلما هو الشّأن بالنّسبة إلى "ثمن القفّة" الذي تنافست فيه أطروحتان لم تظهر ثانيتهما إلاّ بصفة متأخّرة وتحديدا في النّهاية. فبدا ظهورها ضربا من الإسقاط يرفضه سير الأحداث وإن برّرته الأخلاق السّائدة. فيظلّ المتلقّي متأرجحا بين أطروحة "الضّغط يُولّد الانفجار" وأطروحة "تجوع الحرّة فتأكل بثدييها". ولعلّه يكون، بفعل إلحاح النّصّ، إلى الأولى أميل.
تُنتقى عناصر المتخيّل إذن لتأدية فكرة سابقة جاهزة وتُوظّف الأدوات الفنّيّة والأساليب اللّغويّة للإقناع بالعالم المرويّ وبها. ويظلّ استنساخ المرجع الخارجيّ هدفا يُنشد ولا يُدرك. ولكنّ الأقاصيص تكشف عن وعي أو عن غير وعي أنّ المرجع فيها مراجع. فأقصوصة "الموت على حدّ النّصل" مثلا لها بأقصوصة "الرّكن النّيّر" لعلي الدّوعاجي صلة و"عطر من بلاد الشّمال" لها برواية الطّيّب صالح "موسم الهجرة إلى الشّمال" علاقة بل بكلّ النّصوص التي تناولت علاقة العرب بالغرب. وهي علاقة أصبحت منذ أمد غير قصير موضوعا أدبيّا. ولها بكلّ الكتابات الفكريّة التي عالجت علاقة الشّمال بالجنوب أو الشّرق بالغرب أواصر. وقد تُرجع أقصوصة إلى أخرى فتوضّحها وتعلّل، وإن جزئيّا, نموّ أحداثها ونهايتها. فقيمة الفنّ لدى الشّخصيّة الرّاوية في "باقة أغان" تفسّر التّّحوّل الحادّ في علاقة المجرم بعازفة البيانو في "الموت على حدّ النّصل".
وهذه العلاقة المتينة بين الأقصوصتين تنهض دليلا على أنّ الذّات الرّاوية في كلّ منهما واحدة رغم ما يظهر من اختلاف ضمير السّرد. ويكاد هذا التّماهي يطبع علاقة الرّواة في جلّ الأقاصيص بالكاتب. فقد وردت على ألسنتهم معلومات قدّم بها الكاتب نفسه في صفحة الغلاف الأخيرة لمجموعة "ممنوع التّصوير". من ذلك قول الرّاوي في "رياح الزّمان": "ثمّ عبرت الشّارع الرّئيسيّ فاعترضني زميل لي مدرّس لا يعمل مثلي في ذلك اليوم من كلّ أسبوع" (ص87). وقوله في موضع آخر من الأقصوصة نفسها: "وقرب المعهد الكبير الذي كنت درست فيه عدّة سنوات، سكنت سيّارة أمن صغيرة" (ص90). وينضاف إلى هذا إجراؤه وقائع جلّ أقاصيصه في مدينة سوسة مقرّ سكناه وعمله وفي المنستير مدينته الأصليّة.
ليس عيبا أن يستمدّ الكاتب جانبا من مادّة أدبه من حياته ومن محيطه. فليس القصّ في نظرنا موهبة فقط ولا دراية فنّيّة فحسب وإنّما هو أيضا خبرة بالحياة. ولكنّ الحياة أوسع من أن تنحصر في ذات ومحيط ضيّقين والأدب القصصيّ أرحب من أن يُختزل في ذات تضخّم حضورها أحيانا فمحت المسافة أو كادت بينها وبين الذّات الفاعلة في الخطاب من جهة وبينها وبين الذّات الفاعلة في الحكاية من جهة أخرى. يقول بوراوي عجينة في "السّندباد الكاتب": عندما أشرع في رسم الحروف [...] أنسى الأهل والأصحاب وأنشئ شخصيّات أسعى إلى أن أنطقها بما أريد وأدفعها إلى الفعل والحركة والصّراع كما أشاء وأجتهد حتّى تضاهي الشّخصيات الحيّة أو تـفوقها أحيانا." (ص129).
وليس قصر المسافة الشّديد هذا خاصّية تنفرد بها "خفايا الزّمان". فهو يكاد يكون ثابتا من ثوابت النّصوص السّرديّة التّونسيّة أقاصيص كانت أو روايات، تقليديّة كانت أو مغرقة في البحث عن جديد الأشكال[49] .
وقد شدّ هذا القرب انتباه الدّارسين منذ سبعينيّات القرن العشرين[50] إلى اليوم[51] مثله في ذلك مثل طغيان الخطاب الإيديولوجيّ في النّصوص السّرديّة العربيّة بتونس ومنها "خفايا الزّمان". وفي هذا الصّدد يقول الأستاذ توفيق بكّار: "إنّ غلبة الخطاب الإيديولوجيّ على الإنتاج القصصيّ في تونس يُضفي عجزا عن تفسير الواقع واستيعابه ويدفع الكاتب إلى التّجريد وإسقاط الإيديولوجيا على الواقع بدل فهمه من الدّاخل"[52].

خاتمة

الخطاب الواقعيّ في "خفايا الزّمان" خطاب ذاتيّ إيديولوجيّ بل هو مغرق فيهما أحيانا. وقد أثّرت هذان الخاصّيتان في الكتابة القصصيّة فجاء السّرد في جلّ الأقاصيص هادئا مطْمئنّا مطَمْئنا[53] في لغة تنزع غالبا إلى المجاز ولكنّها قد تفقد، في سعيها إلى تعيين الواقع وتبليغ الرّسالة، الكثير من كثافتها النّسبيّة. وإذا كان التّكثيف والتّركيز من أهمّ مقوّمات الأقصوصة فإنّ بعض الأقاصيص لم تراع هذين المقوّمين. فتمطّطت العبارة وقيل في كلام كثير ما كان بالإمكان قوله في لفظ قليل. من ذلك قول الرّاوي في "الشّيخ والورقة الطّائرة": "صلّى [العم شعبان] خلف الإمام* في أحد الصّفوف الوسطى صلاة الجماعة[...] وغادر المكان متسلّلا خشية أن يتفطّن إليه... أحد ممّن يعرف. "(ص78).
وقد تقود إلى الاستطراد غير الموظّف فنّيّا الرّغبة في نقل المعرفة. فيتعطّل سرد الحدث المركزيّ ويشوّش ذهن المتلقّي. من ذلك مشهد الطّالب الأعمى في "ثمن القفّة" وهو ينسخ بطريقة برايل درسا من جهاز تسجيل. ولعلّ الرّاوي أفقده البصر ليُدرج هذه المعرفة في النّصّ بصورة تبدو طبيعيّة. وقد يقف المقصد التّعليميّ الأخلاقيّ وراء إطالة الخاتمة إطالة لا تخدم الأقصوصة قدر خدمتها المقصد من التّأليف. ولنا في نهاية "عطر من الشّمال" خير دليل على ذلك.
ليست الموضوعيّة في أقاصيص "خفايا الزّمان" الواقعيّة إذن سوى وهم وليس الحياد غير سراب وما نسخ الواقع إلاّ مطمح أو مشروع[54] تقف دون تحقّقه وساطة اللّغة سواء كثفت فغمض المعنى أو شفّت فاتّضح. وإنّ ذاتية الخطاب القصصيّ التي عجزت عن محوها مختلف الأساليب الفنّيّة الواقعيّة لتكشف مأزقا من مآزق الخطاب الواقعيّ عموما. فهو يطمح إلى نسخ الواقع. ولكنّه لا يظفر بغير الإيهام بنسخ واقع. ويجلّي هذا المأزق بدوره إحدى مفارقات الواقعيّة في الأدب هي المفارقة بين ضخامة المشروع وضآلة النّتائج.
ولمّا كانت الواقعيّة في أدبنا مذهبا وافدا لم تخل ممّا يمكن اعتباره خصوصيّة ناجمة عن واقع العرب بمختلف أبعاده. فقد كانت, أوّل ظهورها في الغرب في الفلسفة والأدب, ردّة فعل على التّفكير المثاليّ وتجسيدا لمقولات منها أنّ العالم يمكن أن يقارب عن طريق الحواسّ وأنّ التّجربة الإنسانيّة متجدّدة وأنّ نموذج الإنسان أمامه لا وراءه[55]. ولم تفقد في رحلتها من الغرب إلى بلاد العرب طابعها الإيديولوجيّ هذا ولا كونها سلاحا يُشهر في وجه الخصوم في مجالي الفكر والأدب. ولكنّها, وقد وصلتنا مجرّدة من سياقها الفكريّ والأدبيّ, استخدمت عندنا سلاحا يهدف إلى إصلاح المجتمع وتغييره. وذلك من خلال تعرية الواقع وكشف الخفايا، خفايا الزّمان. إلاّ أنّ الخطاب الواقعيّ عندنا ظلّ في النّصوص التّقليديّة وبعض النّصوص الجديدة شكلا قاصرا عن تجاوز السّطح لأنّه خطاب بيداغوجيّ أحاديّ الاتجاه تغلّب فيه النّقل على البحث فظهر الكاتب الواقعيّ في صورة يبدو أنّها محبّبة إلى المثقّف العربيّ من عهد الطّهطاوي إلى الآن هي صورة العارف العالم، صورة "النّبيّ المجهول".


 الهوامش

*  نشر هذا المقال في مجلّة "قصص" العدد 110 ، أكتوبر - ديسمبر 1999 .
[1]  دار سحر للنّشر، تونس، جانفي 1997.
[2]  يعدّ أرسطو أوّل القائلين بأنّ "كلّ الأدب محاكاة". انظر:
Philippe Hamon, Un discours contraint, in Littérature et réalité, op. cit., p120.                 
[3]  القائلون بمفهوم الانعكاس كثر "فنحن نجده في ذلك الاتّجاه المتقادم الذي يعدّ أصحابه الأدب مرآة لحياة مؤلّفه النّفسيّة [...] ونحن نجده في هذا الاتّجاه الذي يذهب أصحابه في فهم الأدب الفهم الاجتماعيّ فيعدّون الأثر مرآة تنعكس عليها الحياة الاجتماعيّة بما فيها من رقيّ وانحطاط ومن تناحر طبقيّ وصراع مذهبيّ عقائديّ". انظر: حسين الواد، في مناهج الدّراسات الأدبيّة، سلسلة قراءات، سراس للنّشر، الطّبعة التّونسيّة،1985 ص 30-31.
[4]   Un discours contraint, op. cit. p132.    Philippe Hamon,
[5]  نفسه، ص 124-125.
[6]  انظر مقدّمة المؤلّف الجماعيّ:
                               Le Réel et le Texte, Librairie Armand Colin,1974,P9.
[7]  يقول جاكبسون: "ما هي الواقعيّة بالنّسبة إلى منظّر الفنّ ؟ إنّها تياّر فنّيّ وضع لنفسه هدفا نسخَ الواقع بأكثر ما يمكن من الأمانة والطّموحَ إلى أقصى ما يمكن من الاحتمـاليّة Vraisemblance". انظر مقاله "عن الواقع في الفنّ" الصّادر في "نظريّة المنهج الشّكليّ: نصوص الشكلانيّين الرّوس"، ترجمة إبراهيم الخطيب، الشّركة المغربيّة للنّاشرين المتّحدين ( الرّباط)، مؤسّسة الأبحاث العربيّة (بيروت)، الطبعة الأولى، 1982، ص90.
[8]  يقول غي دو موبسان (Guy de Maupassant): "يجدر أن نسمّي الواقعيّين الموهوبين إيهاميّين". ورد هذا الشّاهد لدى:
Jean-Michel Adam et André Petitjean , Le texte descriptif , op. cit., p.37.
[9]  من النّقّاد العرب من تأثّر بالمنهج التّاريخيّ فقال بمفهوم الانعكاس. ونذكر على سبيل المثال محمد مندور الذي يقول ناقدا أسلوب أحمد حسن الزّيّات: "إنّ من الرّوائيّين الخياليّين من يحتال بعدّة طرق حتّى يعطيك ما يُسمّونه بالفرنسيّة وهـــم الحقــيقة (L' illusion du réel) فما بال الزيات إذا يأبى إلاّ أن يفسد بالصّنعة نغمات الواقع ؟" انظر:
 د. محمد مندور، في الميزان الجديد، مكتبة نهضة مصر ومطبعتها، الفجالة، الطبعة الثالثة، مصر (د.ت) ص23.
[10] - ممنوع التّصوير، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر ، الطّبعة الأولى، سوسة (تونس) 1982. وأعادت المؤسّسة نفسها طبعها سنة 1985.
- وجوه في المدينة، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة، 1985. وأعادت المؤسّسة نفسها طبعها سنة 1992.
- أمواج الغضب، مؤسّسة سعيدان للطّباعة والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة، فيفري 1992.
- ثمار الجسد، مؤسّسة سعيدان للطّبع والنّشر، الطّبعة الأولى، سوسة،1994.
[11]  "حروف وأرقام" و "مواجهة".
[12]  أ- "حكاية حبّة فول". ب- "حكاية شحمة". (يصرّح الكاتب في تصدير كلّ منهما بأنّه يكتب مقامة).
[13]    "حيلة مغتصب".
[14]    "الطّوق والعنق".
[15]    "السّندباد الكاتب"
[16]  الخطاب على الخطاب )  (Métadiscoursهو "الملفوظات الواقعة على هامش النّصّ. وهي ملفوظات تتحدّث عن نصّ أهمّ وتشكّل ملفوظات على ملفوظ تنتمي إليه انتماء عضويّا". انظر:
Pierre Van Den Heuvel, Parole-Mot-Silence op. cit., p110.                                             
[17]  Thierry Ozwald, La nouvelle, Hachette, Paris, 1996, p35.
[18] نقصد بالمرجع في هذا المقال الواقع الكائن خارج النّصّ. وسنشير إليه أحيانا بعبارة الواقع المرجعيّ.
[19]  Henri Mittérand, Le discours du roman, op. cit., p194.
[20]  Thierry Ozwald, La nouvelle, op.cit, p.34.                            
[21] قد تقود الرّغبة في تبليغ موقف ما الكاتب إلى استرداد الرّؤية من الشّخصية. تقول الشّخصية الرّاوية في "المسافر والقارورة": "واجه العونان الموقف بالصّمت المتعمّد [نحن نشدّد]" (ص70).
[22]   Philippe Hamon, Introduction à l' analyse du descriptif, op. cit., p.184.
[23] يسمّيها بعض الدّارسين ملفوظات سرديّة مزيّفة (Enoncés pseudo-narratifs). انظر المرجع السّابق، ص 184.
 
[24]  Philippe Hamon, Pour un statut sémiologique du personnage, in Poétique du récit, op. cit., p.122.   
[25]   يقول فيليب هامون إنّ البطل الواقعيّ نادرا ما يسافر بعيدا عن بيئته. انظر:
Philippe Hamon, Un discours contraint, op.cit, p.137.                       
[26]   "الموت على حدّ النّصل".
[27]  "الشيخ والحسناء".
[28]   "رياح الزّمان".
[29]   نستثني منها "العمّ شعبان" في "أقصوصة "الشّيخ والورقة الطّائرة".
[30]  المرجع السّابق، ص 156.
[31]   نفسه، ص  175.
 
[32] إلى الكاتب تُنسب العناوين والعناوين الفرعيّة وسائر الملفوظات المصاحبة للمتن السّرديّ. انظر:
Pierre Van Den Heuvel, Parole-Mot- Silence, op.cit p.110.                       
[33]  Ph. Hamon, Un discours contraint, op. cit, p155.
[34] "إنّ المجاز والاستعارات، في بناء تخييل واقعيّ، كثيفة الحضور شديدة النّفع في مستويات مختلفة". انظر:
J-M. Adam et André petit jean, Le texte descriptif, op.cit, p.55.
لمزيد الاطّلاع انظر المرجع نفسه، ص 53-59.
[35]  يقول فيليب هامون إنّ الخطاب الواقعيّ يرفض الأساليب الإرجائيّة. انظر:
Philippe Hamon, Un discours contraint, op.cit, p.161.           
[36]  من مجموعته "سهرت منه اللّيالي".
[37]  Philippe Hamon, Un discours contraint, op.cit,p.138.
[38]  يتميّز هذا الأسلوب بغياب أفعال القول وتغيّر أزمنة الأفعال إذ "الرّاوي هو الذي يؤدّي خطاب الشّخصيّة أو إن شئنا فإنّ الشّخصية تتكلّم بصوت الرّاوي وعندها يختلط العونان السّرديان". انظر:
Gérard Genette, Figures III, op. cit., p 194.           
[39]    Philippe Hamon, Un discours contraint, op.cit, p 155.
[40]  Gérard Genette, Figures III,op.cit,p 187.           الغياب المطلق، كما هو معلوم، أمر مستحيل ولذلك فالمقصود بالغياب هنا هو التّخفّي.
[41]  نفسه، ص 187 .
[42]  المشهد حركة سرديّة ترد غالبا في شكل حوار وتحقّق من باب المواضعة المساواة بين القصّة (النّصّ أو الخطاب) والحكاية. انظر المرجع السّابق، ص 129 .
[43]  مهما يكن ضمير السّرد الظّاهر فالرّاوي في سرده، تماما ككلّ ذات تلفّظ في ملفوظها، لا يمكن إلاّ أن يكون ضميرا متكلّما مفردا. نفسه، ص 252 .
[44]  يبدو أنّ الأمر لا يخصّ "خفايا الزّمان" إذ انتهى جينات إلى النّتيجة نفسها بخصوص رواية بروست "A la recherche du temps perdu"، نفسه، ص188.
[45]  درس فيليب هامون الرّواية الواقعيّة الفرنسيّة في القرن التّاسع عشر واستنتج أنّ الخطاب الواقعيّ يُرعبه الفراغ الإخباريّ. انظر:
 Philippe Hamon, Un discours contraint, op.cit, p 161.
[46]  "الحديث عن واقعيّة نفسيّة يبرّره سعي الكتّاب إلى مشاكلة الواقع من خلال إبراز شخصيات ووصف علاقات إنسانيّة". انظر:
         Thierry Ozwald, La nouvelle, op. cit. p. 42 - 43.
 
*   نحن نشدّد.
[47] Analyse des récits, op. cit. p.91.  Françoise Revaz, L'  J-M. Adam et
[48]        Roland Barthes, L' effet de réel, in Littérature et réalité, op.cit, p. 84.
[49] بخصوص الرّوايات انظر: مصطفى الكيلاني، إشكاليات الرّواية، مرجع مذكور، ص 179.
[50]  يقول صالح القرمادي في تقديم اختار له عنوانا دالاّ (أدب الفدّة): "ولئن بحثنا عن "قفا الميداليّة" في هذه النّصوص، فلعلّنا واجدوها في هذه المبالغة في الرّمزيّة الذّاتية المعيار وهذا الإغراق في التّجريد والغرابة". انظر تقديم مجموعة عروسيّة النالوتي القصصيّة "البعد الخامس"، مرجع مذكور، ص16.
[51] يقول منصف الجزّار في معرض حديثه عن مجموعة قصصيّة صدرت بتونس سنة 1997: "القصّاص حرّ في اختيار الموضوع الذي يختاره لقصّته. لكن إذا كان الموضوع يتكرّر في عديد القصص فإنّ الخطاب يصبح مباشرا وتطغى وظيفة الإبلاغ على الوظيفة الفنّيّة". انظر: المنصف الجزّار, نظرة نقديّة في مجموعة دليلة الزّيتوني "لا سلطان إلاّ للحبّ", جريدة الصّباح (تونس) بتاريخ23 /12/1997.
[52] خيرة الشّيباني, عرض للمداخلات التي ألقيت في ندوة "الأدب العربيّ المعاصر بين الإبداع والتّلقّي" المنعقدة بصفاقس أيّام12  و13 و14 جويلية1988 , جريدة الصّباح (تونس) بتاريخ16 /08/1988.
[53]  من خصائص الأقصوصة المعاصرة إزعاج القارئ بما تعمد إليه من أساليب مختلفة منها خرق القواعد و"خلط الأوراق" وتخييب الانتظار. انظر:
Thierry Ozwald, La nouvelle, op. cit. p36 et 37.                             
*  نحن نشدّد.
[54] العبارة لفيليب هامون. انظر مقاله (Un discours contraint), مرجع مذكور, ص132.
[55] انظر:                
  Ian Watt, Réalisme et forme Romanesque in Littérature et réalité, op.cit, p. 15-39.