طاقة ورد للشاعر الراحل سركون بولص

سركون بولص شاعر عراقي استثنائي ، عاشَ نبضاً استثنائياً للشعر وحده !وهذا مجد الإنسان المتوحد في ملكوت الكلمة ، انه قديسها وملاكها الحميم !
قد لاتسع هذه الشرفة التي أطلُّ منها على فضاءات الشاعر ، لكني أحاولُ إزاحة القسوة/الفقد الأليم / النسيان المر الذي يصاحب رحيل الفنارات العراقية المضيئة ، سأقفُ من شرفتي الوحيدة هنا داخل الوطن وربما عربياً للأحتفاء العميق بمجد الشاعر سركون بولص مبتهجاً بعمق الأسى بأشجاره الباسقة الغناء، لإضاءة المحطات التي لوَّنها شعراً أبدياً منساباً مع هدير الرافدين ، بانفتاح متاهاتهِ في هذا العالم... منذ بداياته مع جماعة كركوك استطاع الشاعر الجميل سركون بولص أن يمتلك صوته الخاص والمتفرد وسط جوقة ضاجة بالشعر والأسئلة وأحلام التغيير والطموح نحو عالمٍ شعري متدفق كموج لايعرف أين سيحط به الترحال ...
في عقد الستينيات المشتبك بقوة الأصوات ، حيث صدى الرواد لمايزل حاداً ،وحيث الجدلُ يشتعل ملتهباً حول مشروعية النص الجديد المختلف مع السائد النمطي ، استطاع الشاعر أن يكون نسيج وحده أن يؤسس لعالمهِ المدهش ليكون نافذة ًبهية ً وشرفة ً عالية ً من شرفات قصيدة النثر ،إذ راح يؤثثها بالضوء والحرية والمعرفة ، والطواف حول العالم وصولاً إلى مدنٍ لامرئيةٍ وكأنه حين يطلق حديقته الشعرية الأولى عبر ديوانه:( الوصول إلى مدينة أين ) يحاول أن يمنحنا مفاتيح المدن اللانهائية ، المنسية والساطعة معاً ،التي سوف تثيرُ عافية الاكتشاف لديه، ليقول في هذا الفاصل/ الكونشرتو من حياته :(سافر حتى يتصاعد الدخانُ من البوصلة )، ولكن هل تشظت خطاهُ من السير الحثيث وراء مغامرة الشعر والسفر والاكتشاف ؟
ربما أن رحيل الشاعر بلا محطاتٍ ، الشاعرُ الحقيقي، الشاعر الرائي عشبٌ بري ، لاوطن له،وطنه الأبهى القصيدة في ينبوعهاالسؤالي والحرية بعناقٍ متفردٍ في فضاء الحلم !إن إصرار الشاعر على قراءة الليل وأسراره ،والموج وأصدافه ، والليلك وغواياتهِ، والتشبث بالعابر واليوميِّ كمدونات المهاجر على ظهر سفينة شحن ٍ مثلاً أو في المسرح أو في رحلةٍ إلى أرخبيل أوفي طقس غرائبي لامع وجميل ،أو عند سجن الكتراز حينما أرته إياه ايتيل عدنان وسوى ذلك من الأمكنة التي راودت أفق العابر والمهاجر والمقتلع من حاضنته الأولى اختيارا أو قسراً ، كل ذلك يعطينا رسائل للوشم الأليف أحيانا ، وللوحشي المدمر في أحايين أخر!!غادر الشاعر العراق/بعد أن عصفت بروحه أهوالُ الواقع الأليم ، متجهاً صوب بيروت ليفتح جرحه بين يدي يوسف الخال وأدونيس ،ومن هناك ينطلق في بوصلة التيه والاكتشاف اليوليسسي نحو سان فرانسيسكو ، من ملامحهِ آنذاك ارتسامات اللاجدوى والصمت الخالق المنتج بعيداً عن مداهمات الصحافة والنشر ، حتى كتب نصوصه بغير العربية في مرحلته تلك التي أطرها بيأسه من محيطه العربي ، ربما، لولا رسالة قادمة من زرقة المجهول ، كمايصفها، وصلته من أدونيس لظل في محترفه غير العربي إلى حيث لايعلم أحد! ، هذه الرسالة أعادته متوهجاً من جديد ليتابع نشر نصوصه في الصحافة العربية .
جذور الشاعر العميق والنفيس اللاجذور ، هكذا قدر الغريب المبدع المتفرد روحاً وعمقاً ونصاً ، حيث التباس العالم العربي حول قصيدة النثر قبولا ورفضاً ، لكن الشاعر استطاع اختراق المسافات والتواء العقل النقدي العربي وكسل الذائقة الثقافية والغليان السياسي أوالطغيان والدكتاتورية المرعبة عندما تسحق أنفاس الشعوب المقهورة! ليعبر بكلمته نحو شواطئ دون حدود ، مكتنزاً بالمعرفة والتجارب الهامة التي في صدارتها تجربة جماعة كركوك ، والجذوة الحيوية الهائلة لمجلة شعر مغنياً اطلاعه بعدها على تجربة جيل بيْت
Beat Generation التجربة الشعرية الأمريكية الشهيرة التي فتحت أفقا في فضاءات الشاعر ، مفيداً منها ومترجماً عنها لأهم رموزها الشعرية كآلن غينزبرغ ،وغاري سنايدر،وغريغوري
كورسو،ومايكل مكلور ،وبوب كوفمن وسواهم، وقدم ترجمات رائعة لهم في مجلة شعر اللبنانية .
ولد سركون بولص بالعراق قرب بحيرة الحبانية عام 1944 ليرحل في22/10/2007في مشفى برليني !وقد حصد من جمرات اغترابه الطويل مجداً شعرياً متوجاً بالأعمال الأدبية الآتية :
1-( الوصول إلى مدينة أين )1985
2- ( الحياة قرب الاكروبول ) 1988
3- ( الأول والتالي ) 1992
4- (حامل الفانوس في ليل الذئاب)1996
5-( أذا كنت نائما في مركب نوح) 1998
6- (غرف مهجورة ) مختارات قصصية بالعربية والألمانية

******

مؤخراً بعد رحيله في صحيفة السفير كتب عنه الشاعر سعدي يوسف :( هو لم يكن سياسياً بأي حالٍ، لكنه أشجع كثيراً من الشعراء الكثار الذين استعانوا برافعة السياسة حين ترفع ، لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر!...) وعن وعيه الشعري يضيف سعدي يوسف:( لاأكاد اعرف ممن مارسوا قصيدة النثر شاعراً ألمَّ بتعقيدات قصيدة النثر ومسؤولياتها مثل ما ألمَّ سركون بولص ، مدخله إليها ليس المدخل الفرنكوفوني ، النص المنبت في فترة مظلمة من حياة الشعر الفرنسي : رامبومقتلعاً من متاريس الكومونة ، مدخله المد الشعري الأمريكي ،مجد النص المتصل ، قد لايعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوف مع فريق لإلقاء الشعر في البلدات الأمريكية والقرى ،طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا ).

******

يا سركون بولص تعبت من تشظي المحطات حتى انشطر المنفى بنا إلى منافٍ مدمرة، منفى الداخل ،ومنفى الخارج ، لكنك لم تعد من رحيلك العوليسي ، عرجت روحك ينابيع إلى هذا الفضاء اللانهائي لتكتب مالايدون أو ما لايقال ، كيف بغداد؟ كيف سينما السندباد؟كيف العراق الحصان الجريح ؟ أسئلتك الحميمة والضرورية في زمن التشظي بجدب الحب وقحط الوفاء، بالرماد والإرهاب المطلق ، لافرق بين إرهاب ينسف الجدران والأجساد وذلك الذي يغتال وردة الشعر فينا ويقصي النوافذ عن أحلامنا ، لادموع لي هذه الليلة أيها المايسترو لقد حفرنا بجنب الرافدين نهرنا الثالث، نهر قيامتنا الجديدة ، نهر دموعنا وعذاباتنا ، كثرهم المحبون المحتفون معنا أيها الحميمُ ! أرسلوا لنا زهوراً من شرق الأرض وغربها أطلقنا إليهم الجسور بحجم المحبة والبنفسج لنقيم كرنفالاً كونياً تتحد فيه الإنسانية كلها من أجل مجد الإنسان المحب العميق ، اخفضوا حماقاتكم وظلامياتكم سيمرُّ من هنا ضوءُ الشاعر عابراً حنايا الزمان/ المكان ،دون أن يرى الفردوس المفقود /الوطن /الحلم ... لكني سأوشح هامتهُ العنقاء بالشعر وحده هذا الذي فتحتْ لنا نارُ أسئلته أبوابَ الجنة...

******

ضوء عابر حنايا الزمان/المكان
ماجد الشرع

إلى النائم بمركب الجمال/ سركون بولص

I
ماوراءَ أجنحةِ الكلمات،
ماوراءَ فجر الألوان،
ماوراءَ حرائق الكتابةِ،
ماوراءَ شجرةِ التيه،
ماوراءَ أقنعةِ المرايا،
ماوراءَ بستانِ الحقيقة،
ماوراءَ التماعةِ النهودِ
وسبوراتِ الرَّغبةِ...
ماوراءَ ليلِ الجنرال،
ماوراءَ عاصفةٍ / خلاسيةٍ نذرتْ نصفَ فرجها للحروب
وما تبقى لصهيل الأبواق...
ماوراءَ الكريستالِ المدوزن برمادِ التماثل،
ماوراءَ...
ومضاتِ الكوجيكي ،
وهضباتِ أفلاطون،
ومداراتِ أرسطو،
والأشرعةِ اللامرئية لديكارت،
ويقظاتِ ضوء فولتير،
ولهيبِ صيحاتِ كيركجارد وهيدجروغارودي،
وأمطار صقورهابرماس ،
ومرايا الكيتشي مايا والأزتيك ،
وألواح الفايكنغ،
وكورال العشق السومريِّ،
وخيول طوفان نيتشه،
وعناق جسوردانتي ،
والشمسِ ذاتِ الينبوع الداخلي الرائي/ المحفوف بحنايا وشاح بتهوفن،
وخطوات الصحو الممهورفي جبين سرفانتس وديستويفسكي،
وفضاءاتِ رولان بارت،
ومعراج السياب،
و قناديل حسين مردان،
و CONCERTO الماغوط،
وRHAPSODY  غائب طعمة فرمان،
وILLUMINATION برشت ،

ماوراءَ عنقودِ الشهوات،
ماوراءَ الخيرِ والشر،
ماوراءَ حديقةِ الألم،
ماوراءَ منافي أورفيوس،
ماوراءَ...
جراحِ سماءِ بغداد ،
ووردةِ بيروت،
وحدقاتِ الهدسن ،
وأقنعةِ برلين،
وغواياتِ سان فرانسسكو،

ماوراء أنيابِ الكتراز*
التي
تمطرُ
في
داخلنا...
ماوراءَ...
بئر يوسف الخال ،
وأرخبيلاتِ أدونيس،
وكائنات فاضل العزاوي ،
ماوراءَ وحشةِ المعرفةِ،
تشرقُ عشبة ٌمفعمة ٌ بالأحلام...




II

ضمَّني إلى غربةِ النشيدِ الكونيِّ
لأحرِّرَ ينابيعَ الرؤيا...
من أقفاص ِ الإثم ِ/ العالم !

III
كيف تصيرُ الينابيعُ شمسَ العبارةِ...؟
أبراجُ الرُّعبِ تحسو فضاءَ السنابل...!
المرايا هدروا حدقاتِ أحلامها في بريدِ غودو
لاعدمَ أمضى مما تورقُ الخيولُ
بأنهارِ جمرهِ
على
شرفاتِ التأويل

IV

لامدنَ للنهار...
المدنُ خفيضة ُ الفرح !
تضيقُ بأسئلةِ الوردةِ
وتجدبُ عندَ دهشةِ الفراشات...!

V

(أيُّها الحاملُ الفانوس في ليل الذئاب)**
أيُّها العشبُ العوليسيُّ الصاهلُ في حنايا جمانةِ اللاوقت
أقيمُ أعراسَ السؤال ِ القصيِّ ...
سائراً...
أشجاراً...
مطراً مدونة َ اليباب
اشتعالاتٍ
ترفلُ بعافيةِ الفجر المستعاد

ألكلمة والقصيدة التي افتتح بها الشاعر ماجد الشرع الأمسية التأبينية الأولى للشاعر الراحل سركون بولص عراقيا وعربيا التي أقمناها له في الأمانة العامة لبيت الشعر في مدينة النجف 30/10/2007 بتأريخ

* الكتراز ، من أشهر السجون الأمريكية المرعبة التي تحدث عنها الشاعر في ديوانه إذا كنت نائما في مركب نوح حيث يهدي التحية لايتيل عدنان التي أرته هذا المكان الوحشي .
** مابين قوسن للراحل سركون بولص .