مرثية القرية الضائعهْ

وآتيكِ يا قريةُ الآنَ
من جهةِ الريحِ
نسراً عجوزاً
يمدُّ جناحيهِ فوقَ هشير الهواءِ
وينثرُ ريشَ كهولتهِ
في مهبِّ عذابكْ.
وآتيكِ من دكنةِ الليلِ،
كيما أنيخَ بكائي ببابكْ،
وأنزلَ عن ظهريَ السنواتِ التي شرّدتني
وراءَ تلالِ الغروبِ
ثلاثينَ مرثية عن دياركْ.
أما آنَ أنْ أتبعَ الغيمَ
خلفَ ضفائِركَ السود
كيما أسلسلَ خُصلاتها
كالسنابلِ بين يديَّ؟
أما آنَ لي أن أعودَ إلى طفلةٍ
كذّبتها المراجيحُ يوماً،
لأربطَ سبعَ شرائطَ خضراءَ في
شعرها القرويّ،
وأتركها كالأغاني على العشبِ
تتبعُ طيّارةً من ورقْ؟
أما آن أنْ أترنّحَ في الريحِ
مثلَ عريشِ الحبقْ؟،
وأسألَ عن ذلكَ الطفلِ
كي أتأمّلَ آثارَ خطوتهِ في الترابِ،
وأبحثَ عن ثوبِ دميته الخشبيّةِ
بين بقايا الخرقْ!
أما آنَ لي أن أعودَ صغيراً
على درجِ الدارِ؟
كي أتسلّقَ أشجارَ جدّي القديمهْ،
وأبني لروحيَ عشّاً عليها
فأخلدُ للنومِ..
أجمعُ ضحكَ العصافيرِ من شجرِ اللوزِ،
أركضُ خلفَ الحساسينِ
كيما أسابقَ خالدْ..
فيسبقنا القمحُ
تسبقنا قبراتُ الحواكيرِ…
ما أجمل القمحَ حين يصيرُ ممرّاً لأعمارنا المشتهاةِ،
ومئذنةً للنواطيرِ!
ما أجملَ الغيمَ حين يسابقُ أعمارَنا
ويطير….
ركضنا وراءَ الغيومِ إلى أن تعبنا
رأينا على ضفةِ النهرِ نفسَ الصبيّةِ
تغسلُ فستانها في الصباحِ
وتنشرُ فوق حبالِ الغسيلِ
مناديلَ من سوسنٍ ويمامْ.
رأينا الصبيةَ تمشي على الماءِ
مثل إوزّةِ ثلجٍ على غيمةٍ
من هديلٍ حنونٍ
دعونا أنوثتها كالغزالةِ للحبِّ
فابتكرَ اللوزُ سكّرةً ثم ذابْ.
سألنا الطفولةَ عن اسمها،
وسألنا صغارَ العصافيرِ..
كان لها جسدٌ جارحُ الحزنِ
تهدلُ فيه حِمائمُ مكويّةٌ بالدموعِ،
وقلبٌ يدقُّ كرمّانةِ الشهواتِ
على صدرِ قيثارةٍ في الغروبِ،
وحزنُ غمامهْ!
تغنِّي لأولِ ريحانةِ لمستْ أنوثتها بالعبيرِ..
وزهرةُ قطنٍ تشبُّ إلى صدرها
كاليمامهْ!
كأنَّ الأنوثةَ ماءٌ
يذوبُ على جدولِ الدمعِ
كيما نظلَّ نتوقُ إليهِ،
ونتبعهُ بخناجرِ أحزاننا،
وسيوفِ الندامهْ
رأينا الصبيةَ في ضفةِ النهرِ شاردةً كالحمامهْ!
فرحنا نعمّرُ أشواقنا للنساءِ،
ونرمي على النهرِ أحجارَ أعمارنا
قبلَ أن يتراءى لنا الحزنُ
خلفَ رحيلِ الغيومِ كأيقونةٍ من حنينْ
كأنِّي بهمْ رحلوا مفردينْ!
أيا قريةَ الضائعينَ
حننتُ إليهمْ،
لمحراثِ أحزانهم في الخريفِ،
وهم يبذرونَ دموعَ العتابَاتِ في الأرضِ،
للصبحِ يفرشُ أهدابَهُ البيضَ
سجادةً للصلاةِ.
حننتُ لرائحةِ التبغِ بِينَ لحاهمْ،
لدفءِ معاطفهمْ في الشتاءِ.
أيا حادي العيسِ
لا تقرعِ البابَ!
قد رحلوا مفردينَ
أغني لهمْ،
ولمن هجروا وقتهمْ
واستحالوا تماثيلَ
كيف استحالوا تماثيلَ؟
يا قريةَ الضائعينَ وأندلسَ الحزنِ!
يا صرخةَ الوعرِ في عتمةِ الليلِ:
رُدُّا إليَّ غريبيْ!
كأني غريبُ الضِّيَاعْ،
يتيمُ الرضاعِ
الذي رافقَ القمحَ نحو دموعِ الرياحينِ
أوّلَ مرهْ..
وَضَلَّ طريقَ السلامهْ!
كأنيَ فرخُ الحمامِ الذي طارَ يوماً
إلى زرقةِ الغيمِ
كي يتأمّلَ أنثى الغيابِ
وعادَ بطوقِِ الحمامهْ.
فأينَ الصبيُّ الذي
كانَ يركضُ خلفَ الفراشاتِ
من حقلةِ الوردِ حتى أقاصي القرى؟
وأينَ سعادُ التي واعدتني
لنحفظَ درسَ النشيدِ وراءَ حقول الذرهْ؟
ترى
ما الذي أخّرَ الطفلةَ القرويةَ؟
هل وجدتْ في الطريقِ حمامةَ أحزانها
دونَ عشٍّ
فراحتْ تربِّي جدائلها للخريفْ،
وتبكي برجعٍ حزينٍ على جثّةِ الحبِّ
حتى بَرَاهَا النزيفْ!!!؟
ترى
هل تناهى إليها غناءُ الجبالِ البعيدُ
فراحتْ مع الطيرِ ترعى أنوثَتَها
في مهبِّ الحفيفْ؟
أنا الضائعُ الأبديُّ
سآتيكِ يا قريةُ الآنَ مكتئباً
لأكرِّرَ كالزَّمرِ
رَجْعَ المواويلِ في دربِ وحشتكِ المرِّ
أو أتمايلَ كالغيمِ فوقَ سهولِ هضابكْ.
وأسألُ عن شتلةِ الأقحوانِ
التي سرقتها الأناشيدُ من دفترِ النومِ يوماً
فصرتُ شهيد غيابكْ.
وأسألُ نفسَ السؤالِ القديمِ
أما زلتِ أمّاً لتلك الصَّبيَّةْ؟
أما زلتِ تنتظرينَ على البابِ عودتها
من شمالِ الحقولِ؟
لأجعلَ مرآتَهَا الغيمَ،
والنرجسَ الانكسارَ اليتيمَ لأهدابِها السودِ..
كانتْ أقلَّ من الشمسِ حزناً
على شاطئِ البحرِ،
أجملَ من نجمةٍ تتأوّهُ في الظلمةِ النائيهْ!
إذن أخبروها:
بأنَّ الحفيفَ الذي هَبَّ يوماً على
ردهةِ الروحِ
لا زالَ أجملَ مابيَ،
أنَّ رياحَ الشمالِ التي شرّدتني
غدتْ واهيهْ!!
أنا الراحلُ اليومَ أنظرُ خلفي
فأشعرُ بالدمعِ!!
أسمعُ تنويحةَ الحورِ في باحةِ الدارِ،
أسمعُ حزنَ الجرارِ
التي تتأمّلُ كأسَ الفراغِ المكسّرَ
أَنْحَلَ جسمي فراقُ الأحبِّةِ!
أكثرُ من قريةٍ وجدتني وحيداً على الدربِ أبكي!
فتنبحُ بضعُ كلابٍ على وحشةِ الروحِ:
عُدْ من هنا!
فأصيحُ على الليلِ من سفحِ عمريَ:
وَاضيعتاهُ البعيدة!!
مَنْ؟
(إنَّ هذا أنا)
عدتُ أسألُ عن ورقِ التينِ
خلفَ سياجِ الطفولةِ،
عن زكرّيا*،
وعن لحنِ أغنيةٍ جبليّهْ…
سمعتُ تلامسَ أجراسها من بعيدٍ
فجئتُ أَنوّمُ روحيْ على راحتيها
وأسألُ عن اسمِ عاشقةٍ
ضيّعتْ في البساتينِ خاتمَ خطبتها الذهبيّ
فراحَ يبادلها الصيفُ صوتَ البكاءِ،
وراحَ الحمامُ ينوحُ على بيدرِ القمحِ
حنطَتَهُ الضائعهْ!
فتاةٌ بخصرٍ نحيلٍ
بكى الماءُ في حبّها،
وبكاها كتابُ الأناشيدِ!
يا بِنْتُ لا تغسلي الصوفَ في النهرِ
إني حزينْ!
سأطعنُ نفسيْ بقربكِ
خفتُ..
رأيتُ عصافيرَ من لذّةٍ تتراكضُ في روحها،
والفراشاتُ تجمعُ من صدرها عسلَ الياسمينْ.
فتاةٌ بخصرٍ نحيلٍ
تردُّ إلى النهرِ زغرودةَ الحبِّ
ثم تراهقُ صوتَ الخريرِ أنوثتها اليانعهْ.
رأيتُ المياهَ تُبلّلُ سيقانها
بالدموعِ الغزيرةِ،
والموجَ يركضُ تنهيدةً إثرَ تنهيدةٍ
عندَ شطِّ الغيابِ!
رأيتُ وراءَ البحيرةِ مملكةَ الطائرِ الطلقِ
مثلَ إلهٍ مِنَ الدمعِ يغفو على قدمٍ واحدهْ!!
تنادي عليه:
(أبو سَعْدُ)*.
يا ثاكَلَ النهرِ خذني
لأسرحَ في زرقةِ الحزنِ مثلَ (العروسةِ)
وافردْ جناحينِ من لوعةٍ وعذابْ!
(أبو سَعْدُ)*. غابَ الأحبّةُ
: مازنُ ماعادَ يسرقُ بطّيخةً من حقولِ المغيبِ
ويشردُ في الوعرِ حرّاً، شقيّاً،
حزيناً كأغنيةٍ في كتابْ!
وأما أنا
فرحلتُ أجرُّ الربابةَ خلفي
وأجمعُ من طرقاتِ الحياةِ دموعَ الهديلْ!
(أبو سَعْدُ) غابَ الأحبّةُ
كلُّ الأحبةِ غابوا!
وغابَ (أبو طالب)* المستحيلْ!!
فما عادَ يرفعُ في مغربِ الفقراءِ أذانَ العشاءِ،
وما عادَ يرفعُ أطيبَ أصواتِهِ ويغنّي
على صخرةِ الليلِ
بُحَّتْ ربابتهُ.
وجفَّ رنينُ أناملهِ الخمس فوقَ الرسائلِ
ماذا أصابَ الحياةْ؟
أيا قريةَ الضائعينَ وأندلسَ الذكرياتْ!
سَمِعْنَا عتاباتِهِ تتنهّدُ قبلَ الغروبِ
مكسّرةً كسيوفِ الرحيلِ
فماذا أصابَ الحياةْ؟
لما تُسقطونَ حمائمكمْ قرب ذاكرتي يا حداةُ؟
وترمونَ قلبي على قمرٍ في أقاصي النخيلْ!
لماذا تنامونَ قبلَ انتهاءِ الحكايةِ؟
لا تتركوني جريحاً بغربتكمْ!
وخذوني إلى قريةٍ من هلاكْ!
أبي إنَّ قلبي يراكْ!
تدبُّ على الغيمِ
مثلَ هلالٍ من الحزنِ
والمشرقُ الأبديّ يردّدُ من شرفةِ الصبحِ
رَجْعَ غناكْ.
حزينٌ كضلعِ الأمومةِ،
كهلٌ كقوسِ الربابةِ،
طفلٌ يغازلُ باللوزِ وَهْمَ الملاكْ.
كأنكَ أيوبُ في مشرقِ الأرضِ،
نادلُ حزنِ الخريفِ،
ضريحُ الحفيفِ الذي
راحَ يسقطُ أيلولَ في لجّةٍ من ألمْ!
كأنكَ غيمُ الشتاءِ
الذي كلما فَطَرَ الهمُّ قلبيَ
راحَ يمطّرُ فوقَ جذوعِ الحواكيرِ
دمعاً ودمْ!
كأنكَ يا أبتي في غيابكَ
أيقونة من نَدَمْ
أما كنتَ تعرفُ أن (أبو سَعْدَ)
يولدُ مثلَ دموعِ الأغاني من النايِ؟
يولدُ من شهوةِ في أسايْ!
أنا الراحلُ اليومَ
يعبرُ رفُّ الحمامِ فأبكي!
وتذهبُ بيضُ الصبايا إلى عرسهنَّ
فتنشقُّ من صدري مئذنةٌ للزغاريدِ،
يهتزُّ غصنُ صبايْ..
فكيفَ سأتركُ كلَّ صبايا الغناءِ
يَمِلْنَ مع الزمرِ ذات اليمينِ
وذات الشمال
ولا أتأملُ ثوبَ الزفافِ
الذي راحَ يهدلُ حرّاً على شجرِ العرسِ؟
فالآنَ تقطرُ أرواحهنَّ عبيراً على شفةِ الروحِ
يا زَمْرُ مَيِّلْ صبايا الجنوبِ
مع اللحنِ حتى يذبنَ ومَيِّلْ!
ويا ليلُ لَيِّلْ!
ويا نايُ حلِّقْ وراءَ الزغاريدِ
إن سعادَ تزغردُ في ظاهرِ الشامِ
رافعةً روحها كهلالٍ على شجرِ الرقصِ
يعبرُ رفُّ الزرازيرِ قامتها
ويميلُ إلى النهرِ..
يطلقُ (خالدُ) من بندقيتهِ
طلقةَ العشقِ في جسدِ الليلِ
كلُّ صدورِ الصبايا
يزّينها الذهبُ الغجريُّ،
وكلُّ الخصورِ مجرّحةٌ بالغناءِ العراقيِّ..
أينَ سنذهبُ يا قلبُ أينْ؟
سندبكُ حتى الصباحِ،
ندورُ بلا أيّ معنى سوى العشقِ،
والانتقامِ من العمرِ
كنا ندورُ على بعضنا في انسجامٍ
وحين تصيرُ سعادُ أمامي
أقولُ أحبكِ يا قرويّةُ!
رُدِّي سلامي!
وأقرصها كالشقيِّ..
قرصتُ سعادَ اليتيمةَ بالحبِّ
لكنني منذُ ذاك الزمان
عرفتُ بأنَّ الحبيبةَ ليست سوى
نقراتِ الضياعِ على وترِ الروحِ،
والإنتحابِ المريرِ لحبٍّ فقدناهُ!
ليست سوى همساتِ القصيدةِ
قبلَ وصولِ الصدى للأَواهِ!،
وتفاحةٍ ساقطهْ من غصونِ الحياهْ.
وأن عيونَ النساءِ الجميلةِ
أسماؤنا الضائعه
في المتاهِ..
وخوخُ الحياةِ الأحبّْ.
… عرفتُ بأنَّ (العروسةَ).
أولُ زغرودةٍ أطلقتها القرى
باتجاهِ العنبْ..
لتخطبَ ودَّ النواطيرِ،
أنَّ سعادَ تنهُّد رفِّ اليمامِ الذي
لا يزوّجُ إلا حنينَ البيوتِ إلى أهلها،
ويطيرُ على شجرِ العمرِ مثلَ ملاكِ التعبْ.
فقلتُ أحبكِ يا قرويةُ لكنه الحزنُ..
تأخذُ بالرقصِ..
ترفعُ عازفَ نايٍ على كتفيها
وترقصُ مثلَ طيورِ الليالي
على سهرِ الصيفِ…
تعلو يداها إلى ذروةِ الرجزِ المغربيِّ ملوحةً
بالمناديلِ
مال على جسمها الزمرُ،
والطبلُ يركضُ خلفَ المواويلِ…
لَفَّتْ محارمَ حبيِّ على خصرها
ثم راحتْ تحلّقُ مثلَ الأغاني
أواهِ لقد أقفلَ العرسُ أبوابهُ..
يذهبُ الناسُ للبيتِ،
والعاشقونَ إلى كوخِ أيلولَ
كلُّ البناتِ ذهبنَ إلى الحبِّ كلُ البناتِ
ولم تبقَ إلا شرائطُ عرسٍ،
وعازفُ زمرٍ،
وطالبْ.
نحدّقُ في الليلِ مثلَ بكاءِ الثعالبْ!!
وينتبهُ القلبُ
يا عازفَ الزمرِ أينَ سعادْ؟
ـ لقد حلّقتْ في الأعالي كثيراً،
وغابتْ على درجِ النومِ
وا أسفاه!!
ـ أعدها إليَّ بحقِّ الطفولةِ!
ـ ما عادَ صوتيْ ليرجعها أيها العاشقُ الطفلُ
ـ أين هيَ الآنَ؟
ـ أبصرتها آخرَ العرسِ
ترقصُ مثل الحمامةِ في طرفِ الغيمِ
بيضاءَ… بيضاءَ
ناديتها يا سعادُ ارجعي!
لم تجبني
أواهِ كأنَّ النساءَ مرايا
نحدّقُ فيها لنبصرَ أحوالَ أرواحنا في الخريفِ!!،
لنبصرَ أوراقَ صفرتنا تتساقطُ من شجرِ التوتِ
كالذكرياتِ
فكلُّ النساءِ يرحنَ مع النهرِ يوماً
ويرجعنَ مثل الجرارِ على شارعِ الصيفِ
ضاعتْ سعادْ!
وضاعتْ بناتُ الطفولةِ كلُّ البناتْ!!
وظلُّ (أبو سَعْدُ) خلفَ البحيرةِ
مثل إلهٍ من الدمعِ
يغفو على قدمٍ واحدهْ،
ويردّدُ ماذا أصابَ الحياةْ؟
أيا قريةَ الضائعينَ
وأندلسَ الذكرياتْ!..

**
• أبو سعد: تسمية باللهجة المحكية.
• تطلقُ على طائر البجع في الريف السوري.
• أبو طالب: والد الشاعر.