التهام الأدب ومزايا عصيان الأباء

في نص غريب:

ماركيز يكتب عن التهام الأدب ومزايا عصيان الأباء.

ترجمة وتقديم عبدالسلام باشا


اشتهر "جابرييل جارثيا ماركيز" نوبل 1982، بالكتابة الروائية وقام خلال العقد الأخير بإصدار مجموعة من الكتب هي إعادة طبع لأعماله الصحفية منذ بدايته صحفيا في كولومبيا، بالإضافة إلى الحوارات التي تجري في مدرستي الصحافة والسيناريو اللتين يديرهما في المكسيك. إلا أننا اكتشفنا له عملا مختلفا بعنوان (دليله لكي يصبح طفلا)، ويتحدث فيه عن التمرد والعصيان الذي يجب أن يعلنه كل طفل على إرادات الآباء وكيف أنه الحل الوحيد لاكتشاف الموهبة وتنميتها في بلده الأم (كولومبيا)، لكن الوصفة أو الإرشادات التي يضعها ماركيز يمكن أن تصلح للتطبيق على أي مجتمع في العالم الثالث... وهذا ما سنراه في السطور القادمة.

أتمنى أن تكون هذه التأملات مرشدا للأطفال لكي يجرؤا على الدفاع عن أنفسهم أمام الكبار فيما يخص تعلم الآداب والفنون. إنهم لا يملكون قاعدة علمية وإنما شعورية ـ عاطفية إن جاز هذا ـ ويعتمدون على مقدمة غير مقبولة: إن وضع طفل أمام مجموعة من الألعاب سينتهي به الأمر إلى البقاء مع واحدة منها فقط، التي تعجبه أكثر. أعتقد أن هذا التفضيل ليس مصادفة وإنما يكشف عن ميل واستعداد قد يمران على أبويه المشغولين ومعلميه المرهقين. أعتقد أن الميل والاستعداد يوجدان معه منذ الميلاد ومن المهم التعرف عليهما في الوقت المناسب والانتباه لهما لمساعدته في اختيار مهنته. والأكثر من هذا أنني أعتقد أن بعض الأطفال في سن معينة وفي ظروف معينة، تكون لديهم إمكانات خِلقية تمكنهم من النظر إلى ما وراء الواقع الذي يقبله الكبار. قد تكون بقايا قوة تخمينية استهلكها الجنس البشري في فترات سابقة أو مظاهر غير طبيعية من الحدس الكشفي لدى الفنانين خلال عزلة النمو والتي تختفي مثل الزائدة الدودية، عندما لم نعد نحتاجها.

أعتقد أن الطفل يولد كاتبا أو رساما أو موسيقيا. يولد بالميل، وفي حالات كثيرة، بالهيئة الجسدية المناسبة للرقص وبموهبة في الصحافة المكتوبة التي تعرف كجنس أدبي، وللسينما التي تعرف كتوفيق بين الخيال والفن التشكيلي. أنا أفلاطوني في هذا الصدد: التعلم هو التذكر. هذا يعني أنه عندما يصل طفل إلى المدرسة الابتدائية، ربما يكون لديه ميل طبيعي من قبل لإحدى تلك الوظائف، على الرغم من أنه لا يعرفها بعد. وربما لن يعرفها أبدا، لكن مصيره سيكون أفضل إن ساعده أحد على اكتشافه. ليس بإجباره على أي شيء بأي معنى من المعاني وإنما أن يخلق له أفضل الظروف ويشجعه على الاستمتاع بلعبته المفضلة. أعتقد وبجدية شديدة، أن فعل الإنسان لما يريد دائما، وهذا فقط، هو الطريقة المثلى لحياة طويلة وسعيدة.

ولكي أحقق هذه الفكرة الجميلة لا أملك أساسا سوى الخبرة الصعبة والإصرار على تعلم مهنة الكتابة أمام وسط مخالف وليس على هامش التعليم الرسمي وإنما ضده، انطلاقا من شرطين لا غنى عنهما: استعداد شديد التحديد وميل جارف. لا شيء يسعدني اكثر من أن تكون لهذه المغامرة الفردية فائدة ما، ليس لمتعلم مهنة الكتابة فقط وإنما لكل المهن الفنية.

الميل بدون موهبة

والموهبة بدون ميل

قال الكاتب الفرنسي جورج برنانوس: "كل ميل هو دعوة". (المعجم الحجة) الذي كان أول معجم تصدره الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية في 1726 يعرف الميل بأنه:" الوحي الذي يدعو به الله إلى حالة معينة من الكمال". كان هذا إذن تعميما منطلقا من الدعوات الدينية. الاستعداد كما يعرفه نفس المعجم: "المهارة والسلاسة في أداء شيء معين". بعد قرنين ونصف لازال معجم الأكاديمية الملكية يحتفظ بنفس التعريفات بتصرفات طفيفة. وما لا يقوله أن ميلا غير خاطئ وعميق يصبح نهما وأبديا ومقاوما لأي قوى مضادة: القدرة الوحيدة للروح التي يمكنها هزيمة الحب.

الاستعدادات تجيء غالبا بمصاحبة مواصفاتها الجسدية. إن سمع أطفال كثيرين نفس النوتة الموسيقية، يستطيع بعضهم تكرارها بدقة وآخرون لا. معلمو الموسيقى يقولون إن الأوائل يمتلكون ما يسمى بالسمع الأولي، المهم لكي يصبح الإنسان موسيقيا. أنطونيو ساراساتي استطاع في الرابعة من عمره أن يعزف بفيولين لعبة مقطوعة لم يستطع أباه العازف الشهير أن يعزفها بفيولينته. رغم هذا يوجد دائما خوف من أن يقوم الكبار بتدمير هذه المواهب لأنها، أو لأن هذا ما يبدو لهم، بسيطة وينتهون إلى سجن أبنائهم في الواقع المحدود الذي سجنهم فيه آبائهم. صرامة الأباء مع أبنائهم الفنانين تكون دائما نفس الصرامة التي يعاملون بها أبنائهم الشواذ جنسيا.

الميول والاستعدادات لا تعيش دائما متجاورة. ومن هنا كارثة مطربين ذوي أصوات رائعة لا يصلون لأي شيء لانعدام التقييم، أو رسامين يضحون بحياتهم كلها من اجل مهنة خاطئة أو كتاب خصبين ليس لديهم ما يقولونه. فقط عندما يجتمع هذان الشيئان توجد إمكانية لحدوث شيء، لكن بفعل السحر: لا زال هناك التعلم، الدراسة، التكنيك وقدرة على التفوق طوال الحياة.

بالنسبة للقصاصين توجد تجربة ل تفشل أبدا. إن طلبت منهم مجموعة أفراد من أعمار مختلفة أن يحكوا لهم قصة فيلم، ستكون النتائج كاشفة. البعض يعبرون عن انطباعاتهم العاطفية والسياسية أو الفلسفية لكنهم لا يعرفون كيف يحكون الحكاية كاملة وبالترتيب. آخرون يحكون القصة بالتفصيل، كما يتذكرونها، واثقون أن هذا كاف لنقل الشعور الأصلي. الأوائل يمكن أن يكون بهم مستقبل لامع في أي مجال إنساني، لكنهم لن يصبحوا قصاصين. الآخرون لا زال ينقصهم الكثير لكي يصبحوا قصاصين ـ قاعدة ثقافية تكنيكية، أسلوب خاص، قدرة عقلية ـ لكن يمكنهم هذا.

هذا يعني أن هناك من يعرفون كيف يحكون قصة منذ يبدءون في الكلام ومن لن يعرفون أبدا. بالنسبة للأطفال تستحق هذه التجربة أن تؤخذ بجدية.

مزايا عدم طاعة الأباء

أُجري استفتاء قبل هذه التأملات كشف عن عدم وجود أنظمة قائمة في كولومبيا قادرة على الالتقاط المبكر للميول والاستعدادات، كنقطة انطلاق لحياة فنية من المهد إلى اللحد. الأباء غير مؤهلين لهذه المسئولية الخطيرة باكتشاف هذا في الوقت المناسب، وعلى العكس إن كانوا مؤهلين لهذا فلكي يقفوا ضده. الناس الأقل ثقافة يفرضون على أبنائهم دراسة مجال مضمون والاحتفاظ بالفن للتسلية في ساعات الفراغ. لحسن حظ الإنسانية يعطي الأطفال أهمية قليلة لكلام الأباء الخطير وأقل فيما يتعلق بالمستقبل.

لهذا يقوم من يملكون ميولا خفية بأفعال غامضة لكي يظهروها. يوجد من لا ينجحون في المدرسة لأنهم لا يحبون ما يدرسون، ومع هذا يمكنهم التفوق فيما يحبون إن ساعدهم أحد. ويمكنهم أيضا أن يحصلوا على تقديرات جيدة، ليس لأنهم يحبون ما يدرسون وإنما لكي لا يجبرهم آبائهم ومعلميهم على ترك اللعبة المفضلة التي يحملونها سرا في القلب. ومعروفة أيضا مأساة من يجبرون على الجلوس أمام البيانو في أوقات اللهو، بدون ميل أو استعداد، فقط لأن آبائهم يفرضون هذا عليهم. معلم موسيقى حيد فضح عدم الرحمة في هذه الطريقة وقال إنه يجب وجود بيانو في البيت، لكن ليس لكي يدرسه الأبناء قسرا وإنما لكي يلعبوا به.

نحن الأباء نريد دائما أن يكون أبنائنا أفضل منا، على الرغم من أننا دائما لا نعرف كيف. وحتى أبناء العائلات الفنية يعانون من هذا الهاجس. في بعض الحالات لأن الأباء يريدون لأبنائهم أن يصبحوا فنانين مثلهم والأطفال لديهم ميلا مختلفا تماما. في حالات أخرى لأن الأباء كان حظهم سيئا في الفن ويريدون حماية أبنائهم (الذين يملون إلى الفن بلا شك) من حظ مشابه.

ليس قليلا خطر أبناء العائلات البعيدة عن الفن الذين يريد آبائهم إنجاب ذرية تستطيع أن تكون ما لم يستطيعوا هم. على الطرف المقابل يوجد الأطفال المعارضون الذين يتدربون على الآلة خفية، وعندما يعرف الأباء يصبحون نجوما في اوركسترات شهيرة.

يوجد معلمون وتلاميذ يتفقون على رفض الطرق الأكاديمية، لكن ليس لديهم معيار مشترك لما يمكن أن يكون أفضل. الأغلبية ترفض الطرق السائدة لطبيعتها الصلبة واهتمامها القليل بالإبداع ويفضلون أن يكونوا تجريبيين مستقلين. وآخرون يعتبرون أن مصيرهم لم يتوقف كثيرا على ما تعلموا في المدرسة، بقدر ما توقف على الحيلة والعناد الذين كانوا يسخرون بهما من عقبات الأباء والمعلمين. عموما، صراع البقاء وافتقاد الحافز أجبرا الكثيرين على العزلة والجنون.

معايير التعليم شديدة التنوع. بعضها لا يقبل سوى بالحرية الكاملة وأخرى تحاول تقديس التجريب على إطلاقه. من يتحدثون عن اللانظام يعترفون بفائدته، لكنهم يعتقدون أنه يولد تلقائيا كثمرة لحاجة داخلية، ولهذا لا يجب الإجبار عليه. آخرون لا يعولون كثيرا على التكوين الإنساني والأسس النظرية لفنونهم. وآخرون يقولون إنهم تجاوزوا النظرية. الأغلبية، بعد سنوات من الجهد، يتمردون على غياب النفوذ وفقر الفنانين في مجتمع يرفض الطابع الاحترافي للفن.

ومع هذا، فإن أشد الأصوات حدة في الاستفتاء كانت ضد المدرسة كفضاء يقص فقر الروح الأجنحة فيه، وأنها صخرة أمام تعلم أي شيء، والفنون خصوصا. يعتقدون أن هناك تبديدا للمواهب بالتكرار اللانهائي للمقولات الأكاديمية الجامدة. بينما أمكن لأفضل الموهوبين أن يصبحوا عظاما ومبدعين لأنهم لم يكونوا مضطرين للذهاب إلى قاعات الدراسة.

"التعليم يتم من وراء ظهر الفن" هكذا يقال للمعلمين والتلاميذ المتفقين في الرأي. هؤلاء يبهجهم الشعور بالعزلة. المعلمون يأسفون لهذا لكنهم يقبلون أن يقولوه أيضا. ربما كان أكثر عدلا أن يقال إنهم جميعا على حق. لأن المعلمين مثل التلاميذ، وفي النهاية المجتمع بأكمله، ضحايا نظام تعليمي شديد البعد عن واقع البلد.

كيف تؤكل الآداب

نحن الكولومبيون وجدنا أنفسنا دائما بلدا مثقفا. ربما يعود هذا لأن مقررات الثانوية تتحمس للأدب أكثر من الفنون الأخرى. لكن فيما عد السرد التاريخي للمؤلفين وأعمالهم لا ينمون لدى الطلاب هواية القراءة وإنما يجبرونهم على القراءة وعلى كتابة ملخصات للكتب المقررة. في كل مكان أجد طلابا مثقلين بالكتب التي يجبرونهم على قراءتها بنفس المتعة التي يتناولون بها زيت الخروع. بالنسبة للملخصات لا مشكلة لديهم لسوء الحظ، لأنهم يجدون في الصحف إعلانات مثل هذا: (أبدل ملخص دون كيخوته بملخص الأوديسا). وهكذا نجد في كولومبيا سوقا مزدهرا وتداولا كبيرا للملخصات المصورة. وسيكون أربح لنا نحن الكتاب أن نضع الملخصات بدلا من تأليف الكتب.

هذه هي طريقة التعليم ـ وليس إلى هذا الحد التلفزيون والكتب الرديئةـ التي تقضي على هواية القراءة. أنا أوافق على أن دورة أدبية لا يمكن أن تكون سوى دليلا للقراء. لكن من المستحيل أن يكتب الأطفال رواية أو ملخصا ويعدوا عرضا تأمليا للأسبوع التالي. سيكون أكثر مثالية أن يخصص الطفل جزءا من عطلة نهاية الأسبوع لقراءة كتاب في المكان المتاح وحتى في الكان الذي يحب ـ هذا هو الشرط الوحيد لقراءة كتاب ـ لكن من الجرم بالنسبة له وللكتاب أن يقرأه قسرا في ساعات اللعب، و بالضيق الذي يؤدي به مهام أخرى.