عالمية نجيب محفوظ : والكتابة من السماء السابعة

 

لم تنشأ عالمية الكتابة لدى نجيب محفوظ من فراغ فقد كانت مفاجأة سارة للعالم العربى فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1988 لأنه بذلك قد اختطّ للعالم العربى قدرا أدبياً مهما طالما سعى هذاالعالم إليه، وربما يرجع الفضل فى ذلك الى الترجمات الإنجليزية التى قدمت نصوص محفوظ فأتاحت للعالم الغربى معرفة بهذا الكاتب غزير الإنتاج عميق المعانى فيلسوف الحكاية، وعندما قدمت له الكاتبة الإفريقية البيضاء نادين جوديمر * (التى فازت بنوبل عام 1991 لاعتبارات غير سياسية لأنها تدافع عن حقوق السود) أصداء السيرة الذاتية الصادرة باللغة الإنجليزية عن قسم النشر الجامعة الأمريكية ، قالت إنها ونجيب محفوظ كلاهما حاصل على جائزة نوبل وهما من أدباء العالم الثالث يكتبان عن هذا العالم وما يعانيه البشر فى هذا العالم من التعقد والتناقض والغموض . فى عام 1934 نشر القاص الشاب نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا (11 - ديسمبر - 1911) أول قصة قصيرة تحت عنوان" ثمن الضعف" فى مجلة"المجلة الجديدة" الأسبوعية التى كان يصدرها سلامة موسى . ثم كتب أول رواية له عندما أصدر سلامة موسى كتابه"مصر أصل الحضارات " وكذلك إنجاب سلامة موسى مولود أطلق عليه اسم " خوفو" ، فاقترح نجيب محفوظ على سلامة موسى - الذى تولى نشر الرواية - أن يطلق على الرواية هى الأخرى اسم خوفو ، لكن موسى رأى الاسم لا يصلح للرواية ، وأختار لها بنفسه اسم " عبث الأقدار " فصدرت فى أول سبتمبر 1939 فى عدد خاص من " المجلة الجديدة " . وقد حاز نجيب محفوظ الكثير من الجوائز منذ نصوصه الأولى ، أولاها كانت جائزة قوت القلوب الدمرداشية عام 1940 ، ثم تبعها جائزة وزارة المعارف 1947 عن رواية خان الخليلى ، ثم جائزة الدولة التشجيعية عام 1957 عن قصر الشوق ، ثم جائزة الدولة التقديرية عام 1968 عن الثلاثية ، ثم الاعتراف العالمى بأحقيته فى أرفع الجوائز العالمية فى 13 اكتوبر 1988 حين حصوله على جائزة نوبل .

ولكن ما الذى جعل نجيب محفوظ يحصل على هذه الجوائز ، وقبلها وأهم منها على قدر هائل من التقدير والحب من خَلَفَه من الروائيين ، ومن النقاد ، بل من القاعدة العريضة التى يمثلها القارئ العادى الذى يقرأ محفوظ بنهم ويعرفه عن ظهر قلب ؟ بداية على مدار أكثر من ستين عاما من الكتابة المتصلة استطاع نجيب محفوظ أن ينقل كتابة الرواية من مرحلة المقامة أو الحدوتة أو الحكاية الرومانسية الى مرحلة البناء الروائى المُحكم متكامل الأركان سواء فى مجال الرواية الاجتماعية بدءاً من خان الخليلى 1945 مروراً بزقاق المدق 1947 ، ثم بالثلاثية بين عامى 1956 / 1957 حتى قشتمر 1988 ، وكلها ترصد حركة المجتمع من خلال مكان صغير سواء كان حارة أم حياً شعبياً أم عوامة راسية على ضفة النيل. أو فى مجال الرواية الرمزية بدءاً من أولاد حارتنا 1959مروراً بالشحاذ1960 ، ثم اللص والكلاب 1961 ، و انتهاءً بأفراح القُبّة 1981 فى المرحلة الأخيرة ، حيث العالم الداخلى للشخصية بكل نوازعها المتناقضة ومحاولاتها الاتحاد بعناصر الكون الأكثر شمولاً وشفافية مع الواقع المعيش . ولأن نجيب محفوظ من الكتاب الذين –كما قيل عنه- أتت إليهم العالمية فقد قُرأ على نطاق واسع من الأدباء العالميين ومنهم الكاتب البرازيلى المعروف باولو كويلو الذى اعترف بتأثره بمحفوظ فى روايته الأشهر "السيميائى" التى تتواشج كثيرا مع نص نجيب محفوظ "رحلة بن فطومة".

 

خروج رحلة كويللو ومعلوف من عباءة ابن فطومة سؤل الروائى البرازيلى باولو كويللو عن السبب فى كتابته عن الرحلة ، فقال : سعياً وراء تحقيق الحلم!. وهذا ما تعكسه جملة "حدّث نفسك الكلية على الدوام في كل محطة من محطات سفرك الأبدي في هذا الكون " التي جاءت على لسان بطل روايته المهمة "السيميائى" . وقد انتهى بطل رواية السيميائى فى مصر– مما يبادر إلينا بسؤالين؛ الأول كيف يكتب روائى من العالم الثالث عن هذا العالم ؟ الثانى الرحلة المتقنة التي صورها فى نصه إلى اى مدى تماست مع الرحلة لدى الكاتب المهم أمين معلوف فرنسى الهوية لبنانى الأصل وهما معاً بأسلوبهما كيف تماسا مع رحلة ابن فطومة لمحفوظ ؟ .

أهرامات مصر والعقلية الغيبية

أما عن الرحلة فنحاول هنا ان نثبت وشائج الكتابة فيها بين باولو كويلو وأمين معلوف تضافراً مع نجيب محفوظ . بداية " السيميائي" هي الرواية الثانية التي كتبها "باولو كويلو", و التي حققت نجاحا عالميا باهرا جعل كاتبها من أشهر الكتاب العالميين. تتحدث الرواية عن راعٍ أندلسي شاب يدعى سنتياجو،و فعل السرد يبدأ و البطل لم يتفتح وعيه بعد، يمضى للبحث عن حلمه المتمثل فى كنز مدفون قرب أهرامات الجيزة بمصر. ومن ثم بدأت رحلته من أسبانيا حيث باع قطيع غنمه الذي كان يجوب به فيافي الأندلس عندما التقى الملك صادق الذي أخبره عن الكنز. وعبر مضيق جبل طارق ابتدءا من "طريفا" ثم طنجة في المغرب مرورا بالصحراء الممتدة والواحة ذات الثلاثمائة نخله، و انتهت ببلوغه لأهرامات مصر، بما فى ذلك من دلالة سحرية في اختياره لوجهة الرحلة – أهرام مصر – بكل ما تمثله مصر و أهراماتها من تداعيات غيبية في العقلية الأوربية ، ترتبط بالتراث المصرى الفرعونى حيث كانت توجهه طوال رحلته إشارات رمزية. وفي طريقه للبحث عن كنزه الحلم تقع أحداث كثيرة، كل حدث منها استحال عقبة تكاد تمنعه من متابعة رحلته، إلى أن يجد الوسيلة التي تساعده على اجتياز تلك العقبة. يُسلب مرتين ويعمل في متجر للكريستال في طنجة ويرافق رجلا إنكليزيا يبحث عن أسطورته الشخصية المتمثلة فى لقاء رجل يعلمه "السيمياء", يشهد حروبا تدور رحاها بين القبائل إلى أن يلتقي بـ "السيميائي" عارف الأسرار العظيمة الذي يحثه للمضي بحثا عن حلمه الكنز. وفي الوقت نفسه يلتقي بحبه الكبير "فاطمة" فينشأ داخله الصراع بين البقاء إلى جانب حبيبته أو متابعة أسطورته الشخصية. وهكذا تتلخص الفكرة لهذه الرواية بجملة قالها الملك صادق للفتى الأندلسي "إذا رغبت في شي، فإن العالم كله يطاوعك لتحقيق حلمك، كل ما تحتاجه لذلك هو الانتباه للإشارات الغيبيه التي تمر بها والاستماع لقلبك فقط". في هذه الرواية يجيب "باولو كويلو" عن الصراع الأزلي مع الحب في أعماقنا وعن الأسطورة الشخصية التي يجب أن يبحث عنها كل منا ، مع توالي الطرق على أبواب المجهول الكوني .

سمرقند والبحث عن عمر الخيام

أما رواية أمين معلوف، سمرقند، فتسلط الضوء على فترات وأفكار لا يجب ألاّ نغفل عنها في قراءاتنا التاريخية والسياسية والفكرية.. القصة يرويها شخص يُدعى لوساج عمر بنيامين والاسم الوسط عمر لأن أهله كانوا من دائرة المعجبين بعمر الخيام التي كانت تتسع في الغرب منذ اكتشاف أول مخطوطة لرباعيات الخيام في القرن التاسع عشر. ودور هذا الراوي أنه من أجل الحصول على نسخة مخطوطة لرباعيات الخيام يذهب إلى إيران في عز التجربة الديمقراطية التي خنقت في البرلمان أوائل القرن العشرين، والغريب أنه ذهب من أجل الحصول على هذه المخطوطة التي كان يقول عنها إنها ستقلب حياة البشر.. وبالفعل فقد قلبت حياته. وتدخل قصة المخطوطة في مرحلتين زمنيتين يفصلهما ألف عام. المرحلة الأولى تضم ثلاث شخصيات في ذروة الخلاف السني الشيعي الذي سخر له الوزير نظام المُلك كل قوته من أجل القضاء عليه، فكتب الكتب وأصدر الأحكام ولاحق المارقين وأسس المدارس العلمية واستقدم لهذا الأمر أشهر علماء المسلمين في عصره الإمام أبو حامد الغزالي. الشخصية الثانية: حسن الصباح الذى ربط الدين بشخصه ودكتاتوريته، فهو شخصية فذة وعبقرية، إلا أن عبقريته خضعت لهدف الوصول للقمة بشتى السبل، وقد عرفه عمر الخيام على السلطان حتى أصبح ذا حظوة واستلم حسابات السلطنة فقلبت الملك عليه حيث قيل إنه دبر له مكيدة فكاد يقتل، ولكن عمر الخيام تشفع له عند نظام الملك. وقد أقسم على الانتقام فذهب إلى مصر واعتنق المذهب الفاطمي وتعلم في الأزهر (ربما كان مساهماً فى تأسيسه). وعاد إلى المنطقة مندوباً عن الفاطميين وتطرف بدعوته حتى أسس فرقة الحشاشين، وهي فرقة اشتهرت بالاغتيالات. وتمكن من قتل نظام الملك واعتصم مع أتباعه الكثر في قلعة ألْموت في حياة متقشفة ، وقد أخذ معه المخطوطة ليغري صديقه عمر الخيام باللحاق به. أما الشخصية الثالثة فهي عمر الخيام، التي أسرت لب الشرق والغرب برباعياته، فكان صديقاً للعدوين اللدودين رغم أنه ليس ذا سلطة أو جاه، ولكنه مفكر من الدرجة الأولى، قال عنه البعض أنه ملحد سكير فيلسوف، وقال الآخرون أنه عالم وصل إلى الله بفكره. بالإضافة إلى ذلك كان محباً للعلم فأكبر هبة أخذها من السلطان طلب منه افتتاح مرصد فلكي بها، وكان عالم رياضيات أضاف إلى نظريات الخوارزمي وصحح بعضها. فكان هدفاً في صراع الشخصيتين الأوليين، نظام الملك وحسن الصباح، لكونه حكماً لا يستهان برأيه، أنقذ الصباح من الموت وبكى نظام الملك حين قتل. والمرحلة الثانية فى نص سمرقند هي التي عاشها الراوي (بعد ألف عام). وتجذب القارئ شخصية لوساج عمر بنيامين الذي جرّه انجذابه وراء الرباعيات إلى أبعد الأماكن وأعمق الأزمات من أجل الوصول إلى هدفه. فوصل إلى الحضيض فى فترات طويلة حيث أمضى أشهراً يقطع المسافات ماشياً أو على ظهر بغل فيما بعد بحثاً عن المخطوطة، التي وجدها أخيراً وأرسلها إلى نيويورك مع محبوبته إحدى أميرات عرش الشاه في إيران.

ابن فطومة أو خبرة الشيخ

أما "رحلة ابن فطومة" لنجيب محفوظ فعنوانها يتماس بالجناس الناقص مع ابن بطوطة الرحالة الأشهر ابان الحملات الصليبية على الشرق ، إنها رواية يقدم فيها محفوظ صورة رحالة يسرد مشاهداته عبر ضمير المتكلم، محدداً الإطار المكاني الذي تجري فيه تجربة الرحلة. يستهل محفوظ روايته بعبارة في غاية الأهمية، قائلاً: "نقلاً عن المخطوط المدون بقلم قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطّومة". وينهي نجيب محفوظ روايته قائلاً: بهذه الكلمات ختم مخطوط رحلة قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطومة" وعبر شخص ابن فطومة المحب للمغامرات يخطف محفوظ قراءه إلى بلدان نائية وعادات غريبة عبر الحضارات والأفكار والمذاهب السياسية المختلفة باحثا عن المدينة الفاضلة ، لكن البطل لم يصل الى الجنة المنشودة‏..‏ يبدأ الرحالة قنديل محمد العنابي الشهير بابن فطّومة بسرد دوافع رحلته، وقد ترحل هذا الرحالة في البلدان مصوراً مشاهداته وانطباعاته عن النظم السياسية والاجتماعية في البلدان التي زارها فالزمن الذي يقطعه ابن فطومة زمن نفسي يمتد امتداد الوجود البشري ذاته، بدءاً من المجتمعات البدائية من التاريخ البشري إلى عصر العلم والتكنولوجيا في القرن العشرين. فتنقلات ابن فطومة ليست تنقلات عفوية أو بدافع الاكتشاف المفرغ من الغاية، بل إننا أمام رحالة غير تقليدي، فضاؤه مفتوح الزمان والمكان، واهتماماته ليست تسجيل الغريب والمدهش من المصادفات والمشاهدات، بل الدخول في حوار مع الحضارات قديمها وحديثها. إنه يدخل هذه الرحلة وهو محمل بإيديولوجية هدفها نقد الواقع الذي ينتمي إليه، العالم العربي المعاصر بكل تعقيداته وأزماته. وقد أتاحت لعبة الشكل التي استخدمها نجيب محفوظ أن ينأى ببطله عن الإقليمية، فالبطل / الرحالة في هذا السياق السردي، عربي الفكر والانتماء. وهذا ما دفع ابن فطومة، إلى تجربة الحوار مع الآخر بعد أن عجز عن إقامة حوار مع الذات. ولذلك، فإن رواية رحلة ابن فطومة عبارة عن رحلة ذات هدف إيديولوجي باعثه الرغبة في معرفة الذات عبر معرفة الآخر. وإذا اعتبرنا الرحلة من أهم مصادر المعرفة الجغرافية التي تبنى على المشاهدة والمراقبة ثم التدوين. فإن أهمية رحلة بطل كويلو ومعلوف ومحفوظ في قيمتها الأنثروبولوجية، ففيها رصد لكثير من عادات وتقاليد الشعوب التي لا يهتم بها التاريخ عادة. فضلا عن عمق التجربة التى تقدمها تلك النصوص والتى تشفى بقدر كبير فضول القارئ المعرفى.

السماء السابعة 

أما عن القصة القصيرة، فقد درجنا على أن القصة القصيرة سرد واقعي أو خيالي لأفعال قد تكون نثرًا أو شعرًا يقصد به إثارة الاهتمام والإمتاع أو تثقيف السامعين أو القراء. يقول( روبرت لويس ستيفنسون) - وهو من رواد القصص الإنجليزي المرموقين: ليس هناك إلا ثلاثة طرق لكتابة القصة؛ فقد يأخذ الكاتب حبكة ثم يجعل الشخصيات ملائمة لها، أو يأخذ شخصية ويختار الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، أو قد يأخذ جوًا معينًا ويجعل الفعل والأشخاص تعبر عنه أو تجسده. وهو ما ظهر كلية لدى نجيب محفوظ فى مجموعته القصصية الأخيرة الصادرة عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية تحت عنوان"السماء السابعة"، خاصة وأن القصة القصيرة لدى محفوظ لم تحفل بالكثير من الاهتمام والتصنيف اللذين حظيت بهما الرواية على الرغم من انها لا تقل دوراً ولا شأناً ولا براعة فى الإبداع عن الرواية . بدأ محفوظ فى كتابة القصة القصيرة منذ سنواته الباكرة فى الكتابة عامة ، بل إن أول ما نشر محفوظ كان مجموعة " همس الجنون 1938 " ثم توالت مجموعاته القصصية حتى وصلت الى خمس عشرة مجموعة ما بين القصص الاجتماعى متمثلا فى مجموعات " دنيا الله 1963 " و " بيت سئ السُمعة 1965 " و الحب فوق هضبة الهرم 1979 " وصباح الورد 1987" و قصص اللامعقول متمثلا فى مجموعات " خمارة القط الأسود 1969 " و " تحت المظلّة 1969 " و " حكاية بلا بداية ولا نهاية 1971 " و " الجريمة 1973 " و قصص الرمزية مثل مجموعات " الشيطان يعظ1979"و" التنظيم سرّى 1984 " و" الفجر الكاذب 1989"."القرار الأخير 1997 "، ثم "السماء السابعة" آخر مجموعات القصص التى صدرت لمحفوظ- حتى الآن–عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وهى مختارات قصصية من مجموعات عدة مما أصدرها محفوظ على مدار تاريخ كتابته للقصة القصيرة وقد ترجمها المترجم الأمريكي ريموند ستوك وهى قصص "فوق السحاب"و" الغابة المسكونة" من مجموعة الفجر الكاذب، و"نذير من بعيد" وحديقة الورد" من مجموعة صدى النسيان"و"الحوادث المثيرة" والسماء السابعة"-المعنون بها المجموعة من مجموعة"الحب فوق هضبة الهرم"و"الحجرة رقم 12" من مجموعة الجريمة"و"الرجل الوحيد" و"الرجل القوى" والبهو"من مجموعة "القرار الأخير"و"ممر البستان" والنسيان" من مجموعة "التنظيم السرّي"، ومعظمها قصص من نوع القصص الاجتماعى الذى تتجلى فيها أبرز الطرائق السردية من خلال عناصر متعددة منها ؛ اللغة وتكاثر الأحداث واستفاضتها داخل كل أقصوصة وعلاقة السارد بتلك الأحداث ، ومن ثم وقع تواجد تلك الشخصيات داخلها ، فيشعر المتلقى منذ كلمات النص الأولى إنه أمام وصف دقيق تتجسد فيه مرحلة طويلة من العمر ، ويحمل خبرة محفوظ المترامية فى الكتابة الإبداعية ، أربعة عشر قصة احتوتها مجموعة "السماوات السبع" تقدم عالما قصصيا متماسكا يبدأ من " المهد " مروراً بـ " العودة " وانتهاء بـ " لقاء خاطف "، فالراوى هو ذلك الصبى الذى وجدناه يجوس مسبقاً فى الثلاثية داخل جنبات الحى العتيق واصفا سوارس والترام والترولى وموكب الفتوات ولونابرك وموقف الحمير بميدان العتبة الخضراء والفونوغراف وسماع أغانى عبد الحى حلمى والمنيلاوى وصالح والبنا وسيد درويش ورؤية سينما الكلوب المصرى وسماع طقاطيق العوالم ووصف رمضان والعيدين وطلوع القرافة ، والطقوس التى تُؤَدَّى فيها . كلها تفاصيل قارة فى ذهن نجيب محفوظ لا يزال يأخذ من مَعينها وهو يكتب فى التسعينيات عائداً بالذاكرة الى الحى العتيق - أصل كل شئ - الذى يحرص على استدعاءه بكل دقة ، والذى يعدُّ النافذة التى يطل منها على قضايا الإنسان والمجتمع على السواء ، لأنها تبلور أسلوبا قصصيّاً يتراوح - عبر بنية سردية - بين القص والواقع الذى يعتمد على المكاشفة ، وينطوى - فى الوقت نفسه - على نوع من التطور والتقدم اللذين يحويان رسالة مضمرة فحواها استبصار عوامل متباينة يتكون منها الوجود الإنسانى متمثلة فى موروثها الثقافى الاجتماعى ومكتسباتها المستحدثة من القيم والمعايير والأفكار . كل ذلك يقدمه محفوظ بقدرة فائقة على استيعاب التحولات الجماعية والفردية خاصة لأبناء الطبقة الوسطى - أو ما يُعرف بالبرجوازية - فى المدينة ، ويعود فى بعض الأحيان الى التراث يستمد منه حكايات تزيد من كثافة الأسلوب ، فهذه النصوص فى مجملها مضادة لطبيعة الكتابة الكلاسيكية ، لذلك فأغلبها يكشف عن استبصار حقيقى بالخروج عن الخطاب الشائع ، وارتكاز النص القصصى على الحدث والدلالة بألفاظ تتعالى فيها موجات النقد الاجتماعى ، وتتجه - كذلك - الى تحليل وتركيب الحالة الفكرية والأخلاقية والسلوكية والنفسية للطبقة الوسطى. ومن ثم محاولة استكشاف منابع معاناة تلك الطبقة ثم طرح اشكاليات العصر بالنسبة لها وتقديم مخرجٍ لها من أزماتها المتنوعة . استخدم محفوظ - فى القصص - اللغة التى تتقمص أصواته وتتلبس شخوصه سردا وحوارا بطريقة تبدو كأنها أقرب الى الطبيعة وقد خرجت من رحم الواقع دون تشويه . فضلا عن أن القص –أعنى طريقة السرد- قد اهتم بالغوص داخل أغوار الشخصية المحورية فى كل قصة للوصول الى الاتزان الداخلى لتلك الشخصية للبحث عن قياس مدى حالة التوافق مع الكون بطرح أسئلة حول معنى الحياة والموت والخير والشر ، بل معنى الوجود ذاته ، وقد تركت للقارئ مسرباً لابتكار توالى الأحداث وتوالدها سردا بشكل دائرى . ولأن نص محفوظ أيقونة لها ملامحها ، فهو يحمل رؤية مُحكمة عبر نسيج لغوى ينمُّ عن صياغة المبدع للعالم . يتماهى الحى مع المدينة بأكملها لرصد تغيرات صورة المجتمع ، فالكاتب لا يحكى حوادث ووقائع ماضية ، ولا يجسد شخوصا خلال أزمنة وأمكنة فحسب ، بل يسرد باهتمام لخلق عالم جديد للقص يتجاوز صورة القص التقليدية وسلطتها التاريخية عليه منذ باكورة الكتابة . وقد اختتمت المجموعة بلقاء خاطف لم يحتمل أكثر من صفحة واحدة ، هى أقصوصة كاملة فى حفنة كلمات تحمل الفعل ورد الفعل مصورة ذكريات الماضى العذب الذى لم يفارق الراوى ، ومن ثم انتهى بقراره الأخير أن يكتب من أعالي السماء السابعة ليثبت أن نجيب محفوظ مبدع استطاع على مدار أكثر من نصف قرن من العمل الدءوب أن يرسم بريشة إبداعه خريطة كاشفة للمجتمع المصرى المعاصر فى مراحل تطوره الاجتماعى وخلق نماذجه البشرية المعبرة عنه. مقدما قصصاً رمزية حيث العالم الداخلى للشخصيات بنوازعها المتناقضة ومحاولة تضفيرها مع عناصر الكون الأكثر شمولاً وشفافية فى الواقع الحقيقى المعيش . نجيب محفوظ عبر إبداعه المتواصل ووجوده الدائم على الساحة الأدبية على مدار الأجيال أخرج القص من المحلية الى العالمية ووضعه على خارطة الإسهام الإنسانى العالمى والإبداع العميق الذى يجنح الى التكامل وسيبقى نجيب محفوظ شجرة وارفة ظليلة كست المبدعين و طالت بظلها الرحب وبألق حضورها الدائم بستان الأدب العربى جميعه على مدار سنوات طويلة من عمر الزمان المصرى والعربى ، وستظل - دائماً - ما بقيت الكلمة مجسدة لوعى الإنسان وتقدمه وصراعه مع الحياة أو احتفاله بها .

* حاول الإعلام الغربي ان يلصق بنادين جورديمر صفة اليهودية دون فائدة وهي اول امرأة تفوز بالجائزة بعد ربع قرن من فوز نيللي ساخس وقد شكلت ظاهرة من الكتاب البيض دافعوا عن كرامة الانسان ومن اشهر مؤلفاتها: صنيف شرف ، ومناسبة للحب، ابنة برجر، ونزوة الطبيعة واخيرا قصة ابني وقد ناصرت الزعيم الزنجي يلسون منديلا ابان سجنه . - نيللي ساخس حصلت على جائزة نوبل عام 1966 بالرغم من انها كاتبة مغمورة ولدت في مدينة برلين عام 1891 وهربت الى السويد مع امها واستقرت في استكولهم ولم تترك السويد حتى الموت وهي شاعرة لها ديوان: (هروب ومسخ للكائنات) و(جسر الالغاز) والبرج المائل واحلام اليقظة وسفينة من الحمقى لكن شهرتها الرائعة تقوم على ديوانها(جواد واهن) .