التسلسل والتجاور الحكائي

عن الروائية اللبنانية حنان الشيخ
فصل من كتاب قيد الاعداد حول المرأة والكتابة
بقلم الناقد محمد معتصم - الدار البيضاء - المغرب

1- حنان الشيخ روائية لبنانية اختارت لكتابتها السردية نهجا يدل عليها ويميزها، خاصة في الرواية. وقد بيننا كيف أنها اعتمدت في روايتها "مسك الغزال" صيغة روائية تعتمد على "التوالد السردي". لكننا في روايتها "إنها لندن يا عزيزي" قد غيرت بعض الشيء من صيغتها الروائية. وإن حافظت عموما على طريقة بناء الرواية على أساس الشخصية الروائية. فجاءت الصيغة الروائية منبنية على التوالي السردي والتجاور الحكائي، كيف؟

إن مفهوم التوالي السردي يقصد منه تطور الأحداث وتناميها تناميا متسلسلا من نقطة البداية التي تختارها الكاتبة أو الكاتب إلى نهاية اختيارية بدورها.

أما مفهوم التجاور الحكائي فنقصد به بناء الرواية على أكثر من حكاية، أو على الأصح على حكاية مركزية، وتجاورها حكايات صغرى أو أقل تركيزا وتبئيرا في الرواية. ذلك ما تعلن عنه رواية "إنها لندن يا عزيزي".

2/ إذا كانت الصيغة الروائية/السردية تقوم على التوالي وعلى التجاور الحكائي، فإن ما لا يمكن إغفاله في هذا المقام: اللغة المؤطِّرَةُ للكاتبة. وهي لغة (شخصية أساسية في الرواية) تقوم بدور الشخصية المؤطِّرَة، وتقوم بدور الميثاق السردي الذي تتعاقد فيه شخصية الكاتب وشخصية القارئ. واللغة المؤطرة لدى حنان الشيخ تنبني على المعجم الجنسي. إنها لغةٌ ميثاقٌ. نجدها في "مسك الغزال" كما نجدها في "إنها لندن يا عزيزي". هذا الاستنتاج المتولد عن المقارنة بين روايتين للكاتبة يسنح لنا بإدراج رؤية الكاتبة ضمن التصور النفساني الذي يرى، كما ترى النظرية الفرويدية، أن مرتكز الشخصية الإبداعية أو الإنسان الواقعي في المجتمع يتمثل في الليبيدو أو الطاقة الجنسانية. ومن خلال الجنس يمكن الوقوف عند حقيقة الشخصية. وهو ما يمكن استجلاؤه من تصادم أو فشل العلاقة بين شخصية "لميس" وزوجها العراقي الثري. وبينها وبين شخصية "نيقولاس" الإنجليزي. ويصف نيقولاس لميس بالحيوان الجنسي، عندما يُفاجأ بها تمارس العادة السرية على السرير بعد فشلها في استدراجه وإغوائه. والعادة السرية ذاتها كانت السبب في فشل زواجها، وعدم وصولها الذروة. إضافة إلى عوامل اجتماعية وأخرى تقليدية وعرفية تنبئ عن اختلاف التربية الجنسية بين أفراد الشعب العربي وأفراد الشعب الإنجليزي.

3/ إن اعتماد الكاتبة على لغة الجنس أفرز عددا من القضايا ومن الاختلالات الاجتماعية والنفسية. وهذه الاختلالات تعدُّ مرتكزا هاما من خلاله تسهم الرواية في الكشف عن الهمِّ الثقافي لدى الكاتبة. وتبرز أيضا المهمة التربوية والمعرفية للرواية.

فالكتابة لم تعد ترفا. بل الرواية (الكتابة) دراسة في القضايا الاجتماعية واقتراح لحلول ثقافية، أو حلول لإشكاليات ثقافية معاصرة. ومن المشاكل الثقافية بل الكينونية والمصيرية العربية: مشكلة الهوية. والرواية في جوهرها – كما بدت لنا من خلال الشخصية المركزية لميس – تطرح قضية الهوية العربية على المحك، وتعالجها إبداعيا، وسرديا.

إن لميس المرأة العراقية المطلقة تعاني من زواجها الأول ، من أزمات نفسية وجنسانية، ومن تسلط أم الزوج، ومن حبسها في البيت، ومن سجائر زوار زوجها الذين يلوكون العراق ويدمنونه كأنه بلد لا يمتون إليه بصلة، ويسترجعونه كذكريات في أحسن الأحوال، ويأملون العودة إليه أسيادا بعد الإطاحة بالرئيس، وهم يتحلقون حول وارث الملك القديم. وتعاني من جهلها التام للبلد الذي تعيش فيه (لندن/إنجلترا). من هنا يبدأ طرح قضية الهوية العربية الإسلامية. وتبدأ أول اصطدام ثقافي أو اختلاف ثقافي مع أول خطوة تبدؤها "لميس" وهي تحاول تعلم اللغة الإنجليزية حتى تتمكن من الاندماج في المجتمع الجديد. لكن التواجد داخل مجتمع من المجتمعات لا يعني أن الفرد قد اندمج فيه. لأن الجسد والمكان ليسا إلا الإطار. وأن الثقافة والعادات والتقاليد والأعراف، والعقائد كلها الجوهر الأساس في تكوين الشخصية، وفي تكوين الهوية.

ومعلمة اللغة الإنجليزية تدرك هذه المسألة الشائكة إدراكا سليما وجيدا. فتنصح لميس بأن تنسى ذاكرتها، وذكرياتها. وأن تتخلص منهما، إن هي أرادت أن تتقن اللغة الإنجليزية، وأن تتكلمها كالإنجليز أنفسهم. تقول المعلمة:" ... كل ما يهمني عندما تنزلين سلالم بيتي ألا تفكري بأي شيء عربي. جملة واحدة في العربية، وكل ما أنجزناه يذهب سدى. هذا يتطلب الكثير. الله يكون بعونك". ص (265). لكن لميس لا تستطيع التخلص من ذاكرتها. وهل يستطيع الإنسان فعلا أن ينسلخ من الموروث الحضاري الذي ينتسب إليه: الاسم، والعقيدة، والعادات، والتقاليد، والمخزون الأدبي والفكري، القضايا السياسية، والحضارية ؟ إن المسألة الثقافية جوهرية في تحديد الهوية. والمسألة اللغوية كذلك. وتبقى حجر عثرة بين تحقيق الاندماج الكلي (الذوبان) في المجتمعات الأخرى. ليس لدى العربي فحسب بل عند كل الشعوب. لهذا تخون الذاكرة رغبة لميس فتفوح الموروثات رغما عنها وهي تحضر مع نيقولاس لمشاهدة المسرحية:" تنتقل المجموعة إلى استوديو لورد ليتون. لم يكن هذا سوى بؤرة من الأفكار والألوان وتنفُّسِ مسام الجسم والأحلام والبلاد البعيدة، وكل ما تحمله تلافيف دماغ من جلس وارتمى وبكى وضحك. ولا بد أنها كلها لا تزال تهيمن على هذه المساحة المأخوذة من الفضاء، والتي عششت في الزوايا العالية، التي لا يستطيع أحد أن يطولها (أستطيع أن أكون بدلا من هذه الممثلة وكأنها لا تعرف التمدد فوق هذا الكرسي العربي، ولا أن تطل من هذه المشربية). أطر الصور العربية حفرت في الذاكرة العربية، لا ذاكرة الإنكليز، تعرف لميس ماذا تود أن تقول هذه القطع الصامتة، تعرف تاريخها، تعرف ما رأت. لو تتمدد هنا. بينما لورد ليتون يخلط ألوانه. السكون يلف هذا البيت، ويسمع حفيف الأشجار. تفتح شنطة يدها، تبحث عن قطعة لبان. كلما مضغت، تمنت أن يحدث لها شيء لا تعرفه". ص (92).

4/ وإذا كانت لميس تسعى إلى الاندماج في المجتمع الجديد (إنجلترا/لندن) فإن سوزان في "مسك الغزال" تحاول أن تنسلخ بدورها عن مجتمعها المتحضر الذي تبرز عيوبه: الضجيج، وطغيان النزعة اللاإنساانية. ثم تشييء الإنسان، وطغيان النزعة المادية ... إلى آخر ذلك. كما أنها ترغب في الذوبان في المجتمع العربي حيث تشعر ذاتها بالدفء والحرارة الاجتماعيين. إنها في بلادها عبارة عن رقم وعلامة بدون قيمة، علامة متلاشية بين أشباهها من العلامات. ورقم محايد في عملية حسابية لا قيمة أساسية له، لا يؤثر ولا يتأثر. إنها الحاجة إلى اكتشاف الآخر المختلف. فالاختلاف هو الأساس لا الائتلاف والانصهار والذوبان في الآخر.

فإلى جانب اللغة الجنسانية لدى حنان الشيخ، تشكل المسألة الثقافية، وقضية الهوية محورين هامين في بناء العالم الروائي.

5/ الشخصيات الروائية في "إنها لندن يا عزيزي" متنوعة ومختلفة على المستوى الاجتماعي والجنسي (الانتماء العرقي). وتركز الكاتبة على المهاجرين العرب في لندن/ إنجلترا. الصنف الأول لا يتم التركيز عليه إلا بمقدار. ويمثل العرب الأثرياء الذين يسيل لحضورهم لعاب الإنجليز. لأنهم كرماء ويستهلكون جيدا ويغدقون على المجتمع الإنجليزي من مالهم الكثير. لذلك يتم الاحتفاء بهم وتقديرهم. وتتخصصُ لهم سلع باهضة الثمن، وفنادق رفيعة، وسيارات أجرة أرفع، وسائقون إنجليز أقحاح. وضمن هذه الفئة العربية المهاجرة للسياحة والاستجمام والعلاج نجد فئة مترفة لكنها مقيمة للتجارة أو هاربة من الأنظمة في بلادها الأصلية. وهذه الفئة من المغتربين في بلاد المهجر لا تشعر بالغربة ولا بالشوق إلى أوطانها. وهي فئة استطاعت عكس "لميس" أن تندمج في الحياة الاجتماعية والسياسية لإنجلترا. خدمة لمصالحها المادية: التجارية والمالية. وخدمة لأوضاعها السياسية أو طموحها السياسي على الأرجح.

والفئة الثانية نقيض الأولى. تتكون من عامة الناس. وقد هجروا بلدانهم العربية بحثا عن العمل أو هربا من أوضاع أسرية قاسية أو هربا من الاضطهاد الجنسي أو الباحثون عن الحرية، أو المنفيون قسرا. وهم يحيون حياة ذل وهوان. وتسحقهم عجلات الآلة الغربية سحقا.

تصف "لميس" مظاهرة للعراقيين بالخارج ضد الأوضاع في بلدهم. وتركز على هؤلاء المنفيين وعلى الحياة البائسة التي يحيونها هنالك في (لندن)، داخل الكنائس، وفي أيدي الأحزاب السياسية والجمعيات التي تقتات على قضايا المنفيين من العرب في المهجر. يقول النص:" فر قلب لميس واستوى لدى العراقيين الذين تجمعوا في "ترافلغر سكوير" رجالا، نساء، وعجائز، وأطفالا يحملون يافطات تندد وتطلب محاكمة صدام حسين.

تحاول أن تخنق دموعها. فلأنها متفرجة، تمر على العراقيين بنظرة فقط، تماما كما يفعل السائحون والإنجليز قبل أن تحط أنظارهم على شيء آخر.

كأنها لم تكن منهم، كأنها لم تخف يوما وهي تسأل العتمة: ترى أين سأنام في ليلة الغد وأين سوف أستيقظ؟ كانت كالعصفور الصغير الذي ما إن يطل الصباح حتى يجد في عشه مخلوقات لا تمت إلى جنسه". ص (177).

"ناهد" فنانة راقصة مصرية. تفشل في زواجها من الإنجليزي. وتتخلى عن الرقص لتحترف البغاء، رغم تنبيه "أميرة". بعد فشلها في الزواج وفي الفن ستتخلى عنها أسرتها لتندحر في الرذيلة. ثم الموت بالسرطان. وتدفن في أرض غريبة، في يوم ماطر، كأن السماء انشقت، أو هطلت قططا وكلابا كما يقول الإنجليز. أو كأن الله لم يقبل أن تعود إليه كما تقول "أميرة".

"أميرة" الفتاة المغربية التي تتعرض للاضطهاد الأسري، فالاغتصاب، تلجأ إلى لندن حيث تعمل في البيوت ثم تحترف امتهان الجسد. أميرة الشخصية الثانية ذات القيمة في رواية "إنها لندن يا عزيزي". ويتم التركيز عليها من منطلقين: المنطلق الأول يظهر في سلامها الروحي. فاحتراف الجسد جاء عن قناعة أو عن تصور استخلصته من علاقاتها بالرجل. فالرجل لا يرى في المرأة والحياة إلا الجنس. أو أن الرجل عندما ينتصب يقل عقله، كما ترى وتؤكد. والمنطلق الثاني متصل بهذا التصور. إن الرجل لا يضاجع المرأة بل يحتاج دائما إلى سندات خارجية، وإلى ألقاب وأوصاف ووضعيات اجتماعية. ولهذا السبب ستنتحل أميرة صفة "أميرة" خليجية. هذه الصفة الجديدة ستستثمر فيها الشخصية ذكاءها وخيالها وقد جمدا طويلا. وفي كل يوم تبتكر كذبة محبكة حتى أنها ورفاقها صدقوا أنها فعلا "أميرة". لولا أن النهاية ستكون مأساوية كما هو حال باقي الشخصيات: ناهد وسمير والقرد.

"سمير" شابٌ لبنانيٌّ تشكلت شخصيته المنحرفة في ظل شروط الحرب الأهلية الطائفية. وهذا الوضع اللامستقر كان سببا، كما ترى الرواية، في خلق أوضاع وشخصيات غير سوية. لقد اعتاد سمير ارتداء ألبسة النساء. متعذرا بالحرب اللبنانية، ومتحججا بأن لباسه ذاك سمح له بالتنقل بين المليشيات المتناحرة المتقاتلة. وهو في أعماقه يخفي شذوذه الجنسي. ذلك السر الذي يعلم به الجميع. خصوصا الممرضة الراهبة التي تحاول تصحيح رغباته وإقناعه بمثليته لأستاذه.

"نيقولاس" عامل بسيط سيتحول إلى العمل لصالح رجل أعمال عُماني اسمه "سيف". ينجز لصالحه صفقات تجارية هامة ومربحة. وقد أغرم نيقولاس بالبلاد العربية وما تزخر به من تحف وعراقة. كما أغرم ب "لميس" المرأة العراقية المتلهفة للحرية والانعتاق بعد تجربة زواج قاهرة دامت اثنتا عشرة سنة. لكن رواسبها الثقافية، وهواجسها، وابنها "خالد" حالوا دون تحقيق رغبة نيقولاس في الزواج منها وتحقيق بالتالي الغاية العليا في الرواية: الاندماج. الاندماج بين ثقافتين مختلفتين. ويظل نيقولاس الإنجليزي المختلف عن باقي الشخصيات الإنجليزية الواردة في الرواية. كزوج "ناهد" الأول الذي اعتبر المجتمع المصري مجتمعا متخلفا لا يحترم حقوق الحيوان. وهو يرى بروز ضلوع الحمار. أو أولئك الذين لا يرون في الشخصية العربية إلا الثراء والإنفاق الكثير والتبذير. وهذه الصورة تبرزها الرواية في عدد من السياقات. وفي صورة "الأميرة" والأمراء في الفنادق وهم يوزعون النقود يمينا وشمالا دون حساب. يقول النص:" تركت أميرة ناهد تستولي على الزبون الأول.. لم تشأ الاصطياد هذه الليلة ولم تشأ مغادرة الفندق إلا عندما وقفت الأميرة ووقف كل من حولها. سار الموكب وخلفه أميرة، لتلاحظ أن إحدى المرفقات تفرق من رزمة أمسكتها في يدها ورقة – ورقتين ثلاث أوراق من فئة الخمسين جنيها إلى لاعب البيانو وإلى السقاة، ثم تعطي ستا إلى رئيسهم". ص (101/102).

ما يميز شخصية نيقولاس أنها شخصية مختلفة لم تر إلى "لميس" كمتاع بل زوجة ومشاركة في الحياة. فقد رغب نيقولاس، كما توضح الرسالة الأخيرة المفاجئة، في الزواج من لميس ليس لأنها عربية، ولا لأنها مطلقة ولا لغاية مادية خارجية سوى أنه أحبها وتعلق بها منذ أول لقاء عفوي على ظهر الطائرة.

6/ إن الشخصيات الروائية الأساسية في الرواية تم تقديمها في "مدخل" الرواية. في الافتتاحية التي تسبق الفصول التسعة، وهي: لميس، وأميرة، ونيقولاس، وسمير.

في هذا المدخل إشارة قوية إلى بناء الرواية. فحنان الشيخ في "مسك الغزال" اعتمدت على التوالد السردي بينما في "إنها لندن يا عزيزي" اعتمدت التسلسل والتجاور الحكائي. والفرق أن حنان الشيخ في "مسك الغزال" خصصت لكل شخصية نسائية فصلا مستقلا. وألفت بينها من خلال وحدة المكان (الخليج العربي/الصحراء). ومن حلال الهاجس الجنسي. القضية المشتركة: معاناة الكبت والحرمان. باستثناء "سوزان" المرأة الغربية المتحررة من كل القيود والشروط الأخلاقية والعقدية. لكنها في "إنها لندن يا عزيزي" ركزت على الشخصية الروائية دون أن تخصص لكل منها فصلا. بل عمدت إلى المجاورة بين الشخصيات في كل فصل من الفصول التسعة. وعوض الفصل بينها كما في رواية "مسك الغزال"، استبدلت الفصل بالوصل، أي أن الفصول تصل بين الشخصيات الرئيسية، بينما الأجزاء داخل الفصول هي التي تميز كل شخصية عن الأخرى. إنه إذا تلوينٌ خفيفٌ لكن كما يقول الصرفيون، فكل زيادة في المبنى تزيد في المعنى، وهذا التغيير الطفيف في بناء الفصول، أدى إلى تغيير في الصيغة السردية. فبدل التوالي السردي أصبحنا أمام تسلسل وتجاور حكائي.

7/ يطرح مفهوم التسلسل السردي في هذه الرواية وفي روايات أخرى معاصرة سؤالا جيدا وذكيا. ما الفرق بين الروايات التقليدية والقصص المطولة وبين الرواية المعاصرة؟ ويبدو أن الفرق يكمن في كون الروايات التقليدية والقصص المطولة والروايات الواقعية تحكي من الذاكرة: أي أن الوقائع والأحداث الروائية تسترجع وتستعاد. والراوي ليس إلا قناة للاسترجاع. وتنحصر وظيفته في الربط والتنسيق بين مراحل تطور القصة. بينما الرواية المعاصرة، ورواية "إنها لندن يا عزيزي" تحكي ما يقع. بل إن القصة تنشأ أثناء الحكي. أي أن القصة وليدة لحظتها. ولا تسترجع الوقائع. والاسترجاعات والاستذكارات ليست إلا تنويعا أسلوبيا وترميما للمتهالك من القصة، والمنقطع من أوصال الشخصيات الروائية.

لذلك فالبناء في الرواية المعاصرة مختلف عنه في الرواية التقليدية. فالراوي في القصص المطولة والروايات المتوارثة كالسير الشعبية، والسير الذاتية، والسير الغيرية، لا يختلف عن الرَّاوية في الشعر. أو الراوي في كتب الأخبار. فالذاكرة تحتل مكانة مهمة جدا. والراوي في الرواية المعاصرة منشئ أدب، وشخصية كباقي الشخصيات الروائية. تتجه نحو هدفها. وتواجه مصيرها الذي تنشئه الكتابة.

ولا تظهر صنعة الكاتبة وتدخلها إلى في "المدخل". حيث يتم تقديم الشخصيات الرئيسية وتجميعها في قلب الطائرة العائدة من دبي/عمان إلى لندن. ويتم أيضا ربط الصلة بينها من خلال هزة الطائرة وخوف "أميرة" وضياع جواز سفر "لميس" وعثور "نيقولاس" عليه. وهذا مصدر صلتهما ببعضهما. وكذلك كانت حبات المنوم والقِرْدُ مصدرا لولوج "سمير" حلبة الرواية.

ويظهر التدخل كذلك عند الفصول الأخيرة. حيث تعمد حنان الشيخ إلى بداية النزول نحو النهاية في الفصل السابع. ويتوالى الهبوط تدريجيا على النحو التالي:

? إصابة "ناهد" بالسرطان، وموتها، ثم دفنها ببلاد الغربة.
? افتضاح سر "أميرة" وتعرضها للضرب المبرح من قبل أمير خليجي غيور على اسم عائلته.
? ضياع القرد من "سمير"، وتبني إحدى حدائق الحيوانات له.

وتنهي الكاتبة هبوطها بسلام في الفصل التاسع. بمكافأة شخصياتها الروائية، دون أن تعاقبهم بالضياع والتلاشي في ظلام اليأس والإحباط:

تتلقى "لميس" رسالة إيجابية من "نيقولاس" بين فيها شدة ولعه وتعلقه بها. ويشرح أسباب مغادرته لها، والخروج من حياتها المركبة الملتبسة. ثم إن "لميس" لم تتلق الرسالة إلا بعد أن استطاعت تجاوز المحن. محنة اللغة الإنجليزية. وشاهدت لندن من أعلى برج "بي. تي" كنقطة متناهية الصغر والضآلة. وعادت إلى عُمان دون خوف أملا في اللقاء بنيقولاس ومن أجل تحقيق غاياتها القصوى المتمثلة في الاندماج.

عودة زوجة سمير إلى موطنها مع الأولاد. وتفاني "سمير" في العمل من أجل توفير المال الكافي لنفسه حتى يستطيع العيش في لندن. ولسداد تكاليف أسرته الكبيرة: زوجة وخمسة أبناء.

عودة "أميرة" إلى حياتها الطبيعية دون احتيال أو انتحال لشخصية غير ذاتها. وتحول كل ما مر بها في الحياة الصعبة إلى حكايات مسلية ومضحكة.

وكأن الكاتبة سارت بشخصياتها الروائية في طريق صعب البداية منبسط النهاية. لذلك كان صعود الطائرة مستفزا مقلقا، وكان النزول لطيفا آمنا.


محمد معتصم.
الدار البيضاء: 09/03/2002م.
سلا: 10/03/2002م.