وهمان متقابلان: الشرق والغرب والذات والآخر

"..الأب…هو الآخر الأصلي"
- جاك لاكان-

1

تحتل الثقافة الغربية في وعينا المكانة التي يحتلها (أبو الهول) في أسطورة أوديب، فأبو الهول أو (السفنكس ) كان يلقي لغزا على كل داخل أو خارج من مدينة (طيبة)، فإما أن يحل اللغز أو أن يموت !ونحن..ألا نجد كلام (الغرب) سلسلة من الألغاز إما أن نحلها أو أن ننهزم ؟! وإذا كان (هشام شرابي) قد قال في دراسة عن المجتمع العربي: "…أنه لا يمكن تخيل (هاملت) في الأدب العربي لأن (هاملت) تحمل حتى النهاية مسؤوليته إزاء جريمة لم تكن له يد فيها، بينما لا يتحمل الإنسان العربي مسؤولية أفعاله.." أفلا يمكننا تخيل( أوديب) في السلوك السياسي العربي ؟! ألا تميتنا وتحيينا نظرة الغرب إلينا؟ ولكن..ألم نكن نحن أنفسنا- لمرة- لغزا أمام الوحش.. حين هربت حركة التحرر العربية أمام نبوءة مفكري الغرب الاستعماري: ( ليست شعوب العالم الثالث ناضجة للاستقلال..) لكن حركات التحرر نجحت وهو ما يعبر عنه (جاك بيرك ) حين يسأل (النوفيل أوبزرفاتور) بدل أن يجيبها:
"..كيف استطاعت دول أقل تنظيما وعقلانية أن تؤثر سلبيا على دول أكثر عقلانية ؟! إن النضال الذي خاضته مصر والجزائر في وقت مبكر، كان أنموذجيا من هذه الناحية.."
وكذلك ( أوديب) الهارب من نبوءة (دلفي) والذي وجد نفسه يتلقى اللغز من الوحش بل يقوم بحله فيقتل الوحش نفسه! وكان حل اللغز: (الإنسان)! الذي هو لغز لن يكون (أوديب)قادرا على حله لأنه بابتعاده عن المدينة التي عاش فيها هربا من النبوءة التي تقول: أنه سيقتل أباه ويقترن بأمه..كان يقترب من مسقط رأسه الحقيقي ومن تحقق النبوءة.

و" مادمت قد سألت السؤال "- تقول النوفيل أوبزرفاتور- " فماهو الجواب؟"..:
"..بلا ريب- يجيب (جاك بيرك)- بسبب قوة هوية العالم العربي"..

و فتحت (طيبة) أبوابها للبطل(أوديب) الذي حررها من الخوف، وتوجته ملكا عليها، وباركت زواجه من الملكة التي كانت قد فقدت زوجها الملك بعد مقتله على يد مجهول خارج (طيبة)، وكان ( أوديب) من جانبه قد قتل رجلا برفقة حارس على الطريق إلى (طيبة) دون أن يعرف هويته بينما هرب الحارس! وعم المدينة وباء قاتل وقال العرافون أن خطيئة فظيعة قد ارتكبها إنسان يعيش في المدينة. فإذا كان الحارس الذي هرب أمام ( أوديب) ينتمي إلى (طيبة) وإذا كان والدا أوديب اللذان هرب منهما هما والداه بالتبني؛ فإن الحارس وحده يعرف هوية المقتول و يعرف الآن هوية..الخاطيء! وقال الحارس:"..إنني أقف على الحد الخطير للقول.."! لكن أوديب قال:"..وأنا أقف على الحد الخطير للسمع..ولابد أن أسمع!! "

وتلقي ( النوفيل أوبزرفاتور) لغزا على (جاك بيرك):
-" ألا يمارس الشرق نوعا من الإغراء على المثقفين الفرنسيين..؟!".
-"..نعم، هذا صحيح..لكنه إغراء ينسحب-في كل مرة- أمام الخوف"!!

..ويفقأ ( أوديب) عينيه، وتشنق الملكة- أمه- نفسها..وتبين أن نقطة ضعف (أوديب) هي- بلا ريب - التباس (هويته)..
ويتجاوز الإرهاب في (الجزائر) حدود اللامعقول السياسي بعد أن شكلت الثورة الجزائرية لغزا أمام ( الوحش الفرنسي) كما عجز (الوحش الإنكليزي) عن حل لغز ( مصر الناصرية) ولم يمت الوحشان الأوربيان لكنهما أصيبا بجروح نرجسية.. و أنجبا وحشا أمريكيا لديه سلطة إلقاء الألغاز دون أن يكون –هو نفسه- قادرا على حلها..وحصل ( العراق) على وقت كاف لتحطيم نفسه في ظل اثنتي عشرة سنة من الحصار..بعدها تم إسقاط النظام، وغرق البلد في حالة بدائية يبدو معها عراق بداية القرن العشرين حلما بعيد المنال.
وفي فيلم "أوديب ملكا" للمخرج الإيطالي (باولو بازوليني ) نرى (أوديب) بعد أن أصبح أعمى، يقوده شاب من يده في (طيبة) في العصر الإغريقي، ولكن – دون تمهيد- نراه في اللقطة التالية يمشي في (روما) الحديثة يقوده الشاب نفسه، وفي اللقطة التي تليها نراه في ( باريس ) ونرى برج ( إيفل) من ورائه، ثم في ( برلين) أو (لندن)…أي أن خطيئة الحضارة، من وجهة نظر بازوليني، مستمرة مع الحضارة الأوروبية التي جعلت نفسها( ابنة بالتبني ) للحضارة الإغريقية!!

فهل يرمز ( أوديب)- كما رأيناه في سياق هذه المقالة- لـ( الآخر) الذي يقوم بالتدمير الذاتي، أم يرمز لـ( الذات) التي تدمر ( الآخر)، كما رآه بازوليني ؟ الذي لا يهمل البعد الفرويدي ، لكن (بازوليني) يؤكد على الفعل الأوديبي المستمر مع الحضارة الحديثة، وسلاسة الانتقال من الخطيئة الإغريقية إلى الخطيئة الأوروبية، بخطوة (أوديب) العمياء في ( الفيلم)، حيث يؤسس مسألة (قتل الأب) حضاريا أي: سياسيا، ولكن، أي ( أب) ؟!! إنه الأب.. الأولي (..البدئي) وبكلمات (لاكان): ( الأصلي..الـذي هو آخر)، ويمكننا القول، إذا أردنا تفسير انشطار (وعي ولا وعي) الثقافة الغربية بإزاء الشرق الإسلامي و دون أن نكون أكثر مجازا من ( لاكان): ( الآخر..هو..الأب..الأصلي )!! الذي يتم قتله وتبجيله.

* * *

2

"..إن عرقا منذورا للقوة، هو عرق يائس.."
- أندريه مالرو-



..في السجال المعاصر حول ( الذات/ والآخر)، تشير كلمة ( الذات) تحديدا إلى الغرب (الأوروبي/ الأمريكي) بينما تعني كلمة ( الآخر): الشرق..البعيد والقريب، و يكاد يختفي العالم- بالنسبة لنا -الذي يصبح (شرقا ) مالم يكن أوروبيا أمريكيا.وليس ذلك بحسب الجهة المقابلة- فقط- بل بحسب الجهة التي ننظر منها نحن أيضا، نحن / الآخر..!!
وقد لا يبدو هذا واقعا حقيقيا على مستوى معين فقط ولكن، وعلى مستوى آخر من حياة الأفكار، تكتسب ( الأوهام) قيمة ( الحقائق) من حيث هي طاقة تضغط لتشكيل الواقع الذي لايمكن أن يكون،حتى في هذه الحالة، مجرد معطى وهمي، خاصة حين تكون الأوهام معززة من ( الذات) الغربية الصلبة، التي تتفوق على حقائق ( الآخر) الهشة، مع العلم أن الواقع دائما- خارج حياة الأوهام- ليس مجرد معطى واقعي.!

عندما يتحدث الآخر عن ( الآخر)، فإنه يتحدث عن ( الذات) لأن حديثه يدور حول الغرب الأوروبي الأمريكي..الفاعل في المجال الذاتي ( مجال الآخر الذاتي)، أما حين يتحدث الآخر عن الذات- حيث من المفترض أنه يتحدث عن نفسه- فإنه يتحدث كـ( آخر ) لأنه يستخدم مصطلحات وقضايا وانشغالات ( الآخر) الذي هو ( الذات) الغربية، في الإثبات أو النفي؛ حين يعلن (بن لادن)- مثلا - الحرب على الغرب كله! أو حين يخطب شيخ معتدل عن (نوستالجيا) التسامح الإسلامي إزاء ( أهل الكتاب )..
وعلى الجانب المقابل، عندما تتحدث ( الذات) الغربية عن ( الآخر) تبدو كما لو أنها تمارس سلوكا طبيعيا، إذ، من الطبيعي أن يكون لـ( الذات) مجال هو-بداهة- مجال الآخر..الذي هو آخر.. وفي أسوأ الأحوال تبدو هذه الذات نرجسية ومركزية، لكن الأمر ليس طبيعيا إلى الدرجة التي يبدو عليها، لأن ( الذات) الغربية لم تحتل ساحة ( الآخر) بل..الآخر نفسه..ومثلما قاد هذا الأمر إلى أن الآخر لا يكاد يكون (ذاتا) فقد قاد أيضا، إلى أن ( الذات) الغربية لم يعد لـها- في الحقيقة – ( آخر)!! وليس ثمة داخل وخارج، ثمة داخل فقط حتى حين تعبر ( الذات) البحر..إلى الخارج..!


لا تحضر حضارة ( الآخر) إلى العصر الحديث إلا من خلال ( الغرب) أي ( الذات)- العالمية- أما حين تقدم نفسها بنفسها فهي:تاريخ..أما الغرب فهو يقدم نفسه بنفسه ولكن، حتى متى ؟!! تنجح الذات الغربية في التقدم طالما جوبهت بمقاومة ( الآخر) أما التقدم دون مقاومة، حين انهزم الآخر وغاب؛ فهو يفتح أمام الغرب هاوية العدم حيث يصبح العالم- في لاوعي الغرب- مأهولا بـ(ذات) موضوعها هو صورتها..و" لا شيء وراء المرآة " – كما يقول لاكان- و يبدأ النكوص والإستيهام حين يجد ( الغرب) ذاته في كل مكان وهو ما يعادل عدم وجودها في أي مكان..وبدلا من أن تجد الموضوع في الخارج تجد ( الذات) نفسها في مكان ( الآخر) فتفتقد الموضوع..وتكتشف حياتها الداخلية الخاوية التي تحتلها صور ( الآخر)..الصور الإستيهامية..وكل ما أحالته أوروبا في مرحلة إلى صحراء النسيان يرتد إليها على شكل غابة من الذكريات، والشرق الذي عمل ( الغرب) على نفيه واستبعاده من الحضور يصبح هو ( الحضور ) حيث التركيز على الموضوع يجعله: " يتفتح ويتكاثر أنه حي ولا يمكن السيطرة على انبعاثاته" - كما يقول يونغ حول التركيز على فكرة – وماهو خاضع للسيطرة هو ( الآخر) وحده..دون روحه وصوره .. هذا على مستوى( الوعي) أما على مستوى ( اللاوعي) حيث الحلم والأسطورة، الروح والإبداع، الماضي والمستقبل- وليس الحاضر- اللذة والتجدد، فإن ( الذات) الغربية..تخلع عنها هويتها وتتقمص ثقافات الآخر: " غوغان- دولا كروا- غوته- ماسينيون- لورنس العرب- فلوبير- أراغون-رامبو.."..

وهكذا..من منا يستطيع الجزم بأن إفريقيا على تخوم الوطن العربي، هي جزء من( الشرق الخيالي) ؟ومن منا على العكس يستطيع القول: أن المكسيك، على حدود الولايات المتحدة، ليست جزءا من هذا (الشرق) ؟ وهل تنتمي ( اليابان) إلى ( الذات) نظرا لكونها من أرقى نماذج الحداثة أم تنتمي لـ( الآخر) باعتبارها من أهم حضارات الشرق ؟؟ ناهيك عن (روسيا) ؟ أين تقع روسيا على خريطة كهذه ؟

* * *

هناك ثلاثة مستويات تنتظم علاقة (الغرب) بـ( الآخر):
- الغرب: هو ( الوعي) حيث ( الآخر) هو ( اللاوعي) أو مادون الوعي.
- الغرب: هو الحاضر ( الحداثة) أما ( الآخر) فهو الماضي أو حتى المستقبل، لكنه ليس الحاضر.
- الغرب: هو( الأنا) حيث ( الآخر) إما أن يكون( الهو) أو ( الأنا العليا) أو ( الأنا السفلى) لكنه ليس ( أنا) لأنه ليس واقعا ولا حاضرا..
وهكذا يصبح ( الآخر) – أي كل ما ليس أوروبيا غربيا- يصبح كالأوروبي الغربي إذا كان خطابه خطاب( الوعي والمعاصرة) أما خطابه المتمتع بالأصالة، فهو خطاب ماضوي، أو حتى مستقبلي .. خطاب ( اللاوعي) أو ما فوق الوعي( الرؤيا و الإستبصار )..ولا يكاد ( الآخر ) يكون ( ذاتا ) في هذه الحقبة المعاصرة رغم حديثه المتواصل عن الغرب/ الآخر .

يقول الغربيون: ( إن الحضارات الأخرى كلها تبدو ساكنة بينما الحضارة الغربية وحدها تتحرك في كل الاتجاهات!!) ويحدث في لحظة نادرة أن نسمع ما الذي يمكن لـ( الآخر) أن يقوله بهذا الشأن لو كان يتكلم كـ( ذات) ؟..ولحسن الحظ لدينا هذه الفرصة، لأن المحلل النفسي وعالم النفس ( كارل غوستاف يونغ) كون صداقة مع زعيم ( البوابلو) – إحدى قبائل الهنود الحمر- وفي مكاشفة تظهر فيها ( الذات) و ( الآخر) الحقيقيان بحسب موقع كل منهما أمام الآخر يقول الهندي الأحمر لصديقه الأوروبي:"..أنتم الغربيون بقسماتكم الحادة وتعبيرات وجوهكم الجدية، دائما تأتون وتذهبون ودائما تبحثون عن شيء..عن أي شيء تبحثون ؟؟ نحن نعتقد أنكم أنتم البيض جميعا.. مجانيـن!!"..
يحول( يونغ ) كلام صديقه الهندي إلى( الغرب) طالبا منه أن يسمع – لمرة – كيف يراه الآخر..لكن اللحظة الحميمة تنقضي..وما ينبعث اليوم ليس الآخر بذاته بل..صور الآخر، ولا يحدث ذلك في لاوعي ( الذات) الغربية، في الأدب والفن، بل في وعي ( الذات)، في السياسة والإعلام..و بعد أن كانت الصور الإستيهامية منفلتة، أصبحت منتقاة، صارت ( اقتصادا) تحت السيطرة وقابل للانعكاس على مرآة الواقع..اقتصاد ( الحقائق والخيالات) حيث الذات الغربية تزعم ببراءة أنها تجهل ردود فعل (الآخر) رغم أنها تعرفه، لأنه كان خاضعا لاحتلالها أي أنها تعرف ( الحقيقة ) التي تجهلها، والشعوب الغربية تشعر- ببراءة- بالرعب من وحشية هذا ( الآخر) لكنها تجهل ( الحقيقة) التي تعرفها، أو التي يجب أن تعرفها لأن الآخر كان موضوعا لإستيهامها غير أن السياسات الغربية قلبت (الخيال) على شعوبها..
قام المتطرفون الإسلاميون في الحادي عشر من أيلول بتدمير برجي (نيويورك) أمام أنظار مواطني العالم، انتقاما من السياسات الأمريكية ضد العالم الإسلامي..بحسب الرواية التي يرويها مواطنو العالم أنفسهم، وأصبح سقوط البرجين رمزا عالميا للأصولية حين تضرب أعدائها (…)لكن (جان بودريارد) - وليس (ميسان)- يقول:"..إن السقوط الرمزي لبرجي نيويورك هو الذي أدى إلى سقوطهما المادي وليس العكس!!"..

وفي فيلم من إنتاج شركة (ديزني) مستمد من( ألف ليلة وليلة) يظهر (علاء الدين) الشخصية الخيالية المحببة، لكنه ينشد بالإنكليزية مع لحن أخاذ جميل يعزز الإحساس بـ(سحر الشرق).. أغنية تقول كلماتها: "..أنا قادم من بلاد يقطعون فيها أذنك إن لم يعجبهم وجهك.."
مع ذلك، ربما بدا الأمر وقتها فيلما خياليا مستمدا من كتاب خيالي، ومنذ السبعينيات، عندما كان يتاح للعربي مشاهدة فيلم معاد للعرب كان يضحك من سخافة الشخصيات التي من المفترض أنها تمثل العرب والمسلمين، لكنها قائمة على المبالغة غير المتطابقة مع الواقع. بل إن كاتبا عربيا سخر في مقالة منشورة في مجلة ( العربي) الكويتية (!) من فيلم ( إنتاج عام 1984) يدور حول غزو عراقي مفترض لدولة الكويت(!!) ووجده الكاتب فيلما تافها لأن أحداثه لايمكن أن تقع بين البلدان العربية (….) لكن، لم نعد نضحك اليوم!..لا أحد يضحك عندما يشاهد أفلاما إخبارية قادمة من بلاد – هي بلادنا- يقطعون فيها رؤوس الرهائن..وتبح أصوات المتكلمين التسامح – وهي حقيقة- غير أنها تبدو كالوهم..في مقابل أوهام واستيهامات غربية أمريكية، سينمائية وتحريضية تبدو كحقائق على أرض الواقع..وعندما يعلن( أبو حمزة المصري) شرعية الجهاد ضد اليهود والنصارى، جهارا نهارا في عاصمة(النصارى واليهود ): لندن..فهل يكون خطابه خطاب (الذات) أم خطاب (الآخر) ؟!